هل تستطيع أن ترى شعرة بيضاء في وعاء الحليب؟
زرقاء اليمامة كانت تستطيع، ولكن قبل أن تحسدها أو تغبطها أحب أن أخبرك أن هذه الميزة كانت سببًا في مقتلها ومأساتها، لأنها كانت تعيش مع أغبياء لا يصدقون إلا ما يرونه هم وما يعرفونه هم.
إذن، ما فائدة محاولات استشراف المستقبل في مجتمع يزحف تحت أطلال الماضي؟.
زرقاء اليمامة كانت امرأة يمنية تستطيع أن ترى المسافر على مسيرة ثلاثة أيام، واحتارت القبائل المُعادية في كيفية شن غارات مفاجئة على قبيلتها، لأن الزرقاء كانت تُنذر قومها فيستعدون للقادمين، وذات مرة اهتدى قائد إحدى القبائل المُغِيرة إلى فكرة لتعطيل جهاز الإنذار المبكر المتمثل في الزرقاء، مستغلًا نمط تفكير قبيلة جديس، وأمر كل مقاتل أن يحمل فرع شجرة ويلتحم مع زميله بحيث يبدو الجيش أقرب إلى غابة صغيرة من الأشجار.
ورأت زرقاء اليمامة المشهد الغريب، وأخبرت قومها أنها ترى غابة تتحرك، فلم يندهشوا ولم يبحثوا عن تفسير أو تحليل للظاهرة الغريبة، واستسهلوا السخرية من زرقاء اليمامة وانتصروا لمعرفتهم المقصورة على حساب معرفتها المستقبلية، فلما وصل الأعداء إلى قومها كانت الغفلة والكسل العقلي قد هزمتهم قبل أن يهزمهم الأعداء الذين حرقوا ديارهم وأبادوا معظم القوم، واقتلعوا عيني الزرقاء وحشوها بمسحوق حجر الإثمد الذي كانت تكتحل به.
هذا مثال لما اضطرتني ظروف النشر في الصحيفة المطبوعة لحذفه من مقالي السابق عن تحذيرات السيسي من الوضع المتأزم الذي يهدد مستقبل مصر. لقد سخرنا من حديث الرجل عن الأشجار التي تمشي، والبقرات العجاف التي تأكل البقرات السمان، ولم نسأل عن حقيقة المأزق، ولم نستعد لما هو قادم، سواء كان غابة خرافية تمشي أو عدوًا مستترًا بجهلنا ولهونا، أو نكايات أزمة الثقة في السلطة التي جعلتنا نتحسس مسدسنا كلما سمعنا كلمة تقشف.
أنا معكم أن كثرة الحزن تُعلّم البكاء، وأن من «تلسعه الشوربة ينفخ في الزبادي»، لكن هذه السمات الطفولية تفترض غياب المعرفة والرؤية، فالذي تلسعه الشوربة لا يجب أن يخاف من الزبادي، إذا تعلم الفرق بينهما، وإذا استطاع أن يستخدم معرفته للتمييز بين الحق والباطل.. بين الشوربة والزبادي!
بعد هذه «الكمالة» المتأخرة للمقال السابق تعالوا نبدأ قراءة مقال اليوم: هل تستطيع أن ترى شعرة بيضاء في وعاء الحليب؟.. آسف أقصد هل تستطيع أن ترى الاتفاق العسكري الذي وقعته النيجر مع الولايات المتحدة الأمريكية، لنشر طائرات استطلاع دون طيار على أراضي الدولة الأفريقية؟ هل تستطيع أن ترى التعاون الأمريكي والإسرائيلي مع إثيوبيا تحت مظلة مكافحة الإرهاب؟ هل تستطيع أن ترى تدهور الأوضاع الأمنية في ليبيا والسودان؟ هل تستطيع أن ترى اهتراء حدودنا الشرقية عن طريق الاستخدام المشبوه لحركة حماس وتحويلها من «فارس مقاومة» إلى «حصان طروادة»؟ هل تستطيع أن ترى حقيقة ما يحدث في سوريا ولبنان والعراق؟
هل تستطيع أن ترى الدور القطري وتدرك حجم المخاطر التي قد تنجم عنه؟ وهل سألت نفسك عن حدود وأهداف ودوافع هذا الدور؟ وهل هو ذاتي ينبع من داخل قطر، أم أنها مجرد أداة أو «سمسار» أو «طلقة» يستخدمها آخر أكبر وأخطر؟ وهل سألت نفسك أيضًا عن دوافع زيارة السيسي لروسيا، وعن السبب الحقيقي لزيارته الأخيرة إلى الإمارات؟
هل يمكن أن تفكر معي أبعد من المعلومات المستهلكة التي ترميها في عقلك وكالات أنباء ووسائل إعلام أنت نفسك تتهمها بالزيف والتسطيح، ثم تستند إليها فيما تضخه في رأسك من تفاهات؟ هل أنت مقتنع حقًا بأن السياسي «يهز طوله» ويصطحب عددًا من قياداته العسكرية ويذهب إلى أبوظبي ليتسلم «شيكًا» يساعده في نفقات الانتخابات الرئاسية، أو بناء مشروع إسكان كرشوة للناخبين؟ أو حتى لحضور بروتوكولي في ختام مناورات مشتركة باسم (زايد-1)؟ وهل ربطت بين هذه الزيارة وبين قرار سحب سفراء الإمارات والسعودية والبحرين من قطر؟.
الأسئلة كثيرة، والمؤسف أن الإجابات كثيرة أيضًا، وهذا يذكرني بالمسطول الذي كافأته وزارة الأوقاف، لأنه ساعدهم في رؤية هلال رمضان، فأمسك بالمنظار مرة أخرى وهو يقول لهم: «طب فيه هلال تاني هناك أهوه»، ربما للاستهانة بهم أو طمعًا في مكافأة جديدة. فتوصيف القضايا والمخاطر عادة ما يحتاج إلى إجابة واضحة وليس إلى سياحة في الإجابات وتفشي التخمينات واجتزاء الرؤية كما تعلمنا في قصة «الفيل والعميان».
إذا تأملتم معي هذه الأسئلة التي طرحتها، قد ترون شعرة جغرافية بيضاء في حليب المستقبل المصري، إنها ترسم لنا طوقًا يحيط بمصر من كل جانب.. من ليبيا غربًا والتي تحولت إلى «خرابة سلاح» تزحف منها فئران وصراصير الإرهاب وتعمل فيها مافيا التهريب والتخريب، ولنمضِ من الغرب إلى الجنوب الغربي لنراقب اتفاق النيجر والوجود العسكري الفرنسي في مالي وأفريقيا الوسطى، والتقسيم المخطط للسودان وبؤرة العنف المزمن في دارفور والجنوب واستخدام ذلك ذريعة لحشد قوى دولية وأجهزة استخبارات وتخزين أسلحة، وتمهيد وضع لوجستي يُيَسِّر التدخل العسكري، أو إشهار الردع ضد أي دولة في المنطقة، وإذا استكملنا الدائرة باتجاه الجنوب الشرقي سنرى بوضوح طبيعة المشهد في الصومال، ونتوقف أمام بروز الدور الإثيوبي ومدى توظيفه لصالح استراتيجية تعبر المحيط غربًا، حيث حاربت إثيوبيا بالوكالة لصالح أمريكا، وصارت دولة محورية في القرن الأفريقي، وهو أمر يسهل أن نتعرف عليه، لأن مراكز الأبحاث الأمريكية تعلنه صراحة، لكن غفلتنا تطورت من تكذيب زرقاء اليمامة إلى التغافل عن الإنذارات والتهديدات الصريحة التي تصدر عن العدو نفسه.!
ولذلك ومهما كانت المأساة، فقد «طقّت» في دماغي أن أقف فوق الجبل كما كانت تقف زرقاء اليمامة لأخبركم عن القادمين، سواء استتروا بالأشجار أو اختبأوا داخل الحصان أو دقوا الطبول وأشعلوا نيران الحرب، في طريقهم للزحف نحو قبيلة الغافلين.. موعدنا على الجبل في الثلاثاء المقبل، والله الكاشف المعين.