كان جورج أورويل محقاً حين تنبأ فى روايته 1984 بالوضع الذى يعيشه العالم حالياً. فى الرواية كان «الأخ الأكبر» يراقب الكل. لا ينجو منه أحداً. وجود البشر لا يتحقق إلا عبر المراقبة: أنا مُراقب إذن أنا موجود. لا يختلف الوضع الآن عن الواقع المتخيل فى عمل أورويل الذى كتبه عام 1949. يكفيك للتأكد مطالعة الأخبار المتدفقة عن وقائع تجسس الدول على الدول، ووقائع انتهاكات الحياة الخصوصية للأفراد التى تمارسها العديد من الأنظمة.
طالع على سبيل المثال أخبار إدوارد سنودن، موظف وكالة الأمن القومى الأمريكية، بطل التسريبات الإعلامية المتعلقة بنشاط التجسس الاستخبارى ومراقبة الأنشطة على الإنترنت. يمكنك أيضاً ولكى تتيقن من فكرة «الكل مُراقب» أن تقرأ كتابان مهمان الأول بعنوان «المراقبة الشاملة، أصل النظام الأمنى» تأليف أرمان ماتلار أستاذ علوم الاتصال والإعلام فى جامعة باريس الثامنة.
والكتاب الثانى بعنوان «الآذان المترصدة، كيف يتجسسون عليك» وضعه الكاتب والصحفى النيوزيلاندى نيكى هاجر. الكتابان يجمعان على أن كلمة السر التى فتحت «مغارة على بابا» التجسس والرقابة الشاملة كانت أحداث 11 سبتمبر 2001. فبسببها أبيح ما كان محظوراً أو بالأحرى أصبح فى وجهة نظر أصحاب السلطة السياسية التدخل بالرقابة أمراً مشروعاً يمكن التوسع فى تطبيقه بعد أن كان يتم بشكل خفى وعلى نطاق ضيق.
الغاية: تحقيق الأمن، تبرر الوسيلة: الرقابة الشاملة. «ماتلار» يطرح فى كتابه عدداً من الأسئلة التى يمكن عبر الإجابة عنها فهم الظاهرة المدروسة منها كيف تطورت على مر أزمنة الاستثناء أو الطوارئ مفاهيم وعقائد وجهت محاولات ما أسماه المؤلف بـ«تأمين الأمن» أو تأمين نظام الأمن الاجتماعى ضد «القوى المخلة بالنظام». مفاهيم وعقائد تكون وظيفتها حسب «ماتلار» «تحديد رسم لعدو، مفترض أو واقعى» وكيف وضعت موضع التنفيذ الأنظمة الاجتماعية التقنية التى وسعت قدرة تقنيات استقصاء الحريات الشخصية والجماعية. أرمان ماتلار يجيب عن السؤالين السابقين وغيرهما عبر قراءة تحليلية متأنية للممارسات الغربية وتحديداً الأمريكية والأوروبية.
قراءة لا تقف عن اللحظة الراهنة بتجليات التكنولوجيا الشمولية التى لا مثيل لها فقط بل تبدأ من الماضى، بداية من القرن التاسع عشر مع تطبيق البرامج الشمولية الأولى لبصمات الأصابع على المجتمع ككل كوسيلة غير قابلة لتزييف الهوية. كان هدف الأكاديمى الفرنسى نقد فكرة أن يتحول الأفراد إلى مجرد «ملفات» تحتوى بيانات ومعلومات تفصيلية عن أنشطتهم الحياتية المختلفة. واعتمد «ماتلار» فى مدارسته لمفهوم الرقابة على التعريف الذى وضعه لها الفيلسوف الإنجليزى جيرمى بنتام (1748-1832) باعتبارها «وسيلة للإمساك بالسلطة، سلطة العقل على العقل، إلى حد غير مسبوق».
هذا الحد يرادف فكرة الرؤية الشاملة ذات التصميم الهندسى الذى، حسب بنتام أيضاً، يسمح للمراقب ومن نقطة مركزية أن يراقب وبوضوح «كل نطاق البناء المقسم خلايا، فى حين أن المراقبين الساكنين فى زنزانات فردية منفصلة بعضها عن بعض هم تحت نظر الراقب من دون أن يستطيعوا مشاهدته». هذه الطريقة ما هى إلا «مخطط شامل للمجتمع» اعتقد بنتام إمكانية تطبيقه «على كل المؤسسات التى تقوم وظيفتها على وضع عدد غير معين من الأشخاص تحت الرقابة».
وعملياً من خلال الممارسات الفعلية، كما يوضح الكتاب، يبدو أن أصحاب الهيمنة التكنولوجية قادرون الآن على تطبيق نموذج الرؤية الشاملة الذى تصوره جيرمى بنتام. يعتقد «ماتلار» بالرأى الذى تبناه الفيلسوف الفرنسى جيل دولوز (1926-1995) القائل بأن العالم يعيش مرحلة «مجتمعات السيطرة» التى تعمل من خلال «المراقبة المستمرة والاتصال الفورى». الأمثلة التى ساقها المؤلف كثيرة منها: قانون «باترويت»، الذى صار اسمه «الدراية بمعلومات الإرهاب»، فى الولايات المتحدة الأمريكية الذى أجاز التنصت وأعمال الدهم ومصادرة الحواسيب وملاحقة القراء فى المكتبات من دون العودة إلى قاض.
وفى أوروبا من خلال جهاز «أوروبول» أو مكتب الشرطة الأوروبى ومهمته التبادل والتنسيق وجمع المعلومات وتحليلها وإنشاء الملفات ليس فقط للأشخاص المتورطين فى ارتكاب الجرائم بل عن أولئك الذين «يٌفترض أنهم يقدرون على ارتكاب الجرائم».
كتاب نيكى هاجر يؤكد هو أيضاً أن العالم أصبح مرتعاً للجواسيس الذين يعمدون مراقبة الدول والأفراد على السواء. ويستعرض المؤلف ويشرح طرق عمل نظام التجسس الذى يحمل اسم «إتشيلون» Echelon ويستهدف معظم الاتصالات المدنية فى العالم ويتكون من الاستخبارات الأمريكية والبريطانية والكندية والأسترالية والنيوزيلاندية. ويدرس الكتاب بالأساس تفصيليا ما يعرف بـ«استخبارات الإشارات» أو الاستخبارات الإلكترونية التى هى وحسب تعبيره «أعلى أنواع الاستخبارات قيمة وسرية وأكثرها غموضاً».
وهى «الاستخبارات التى يتم جمعها عن طريق التجسس على اتصالات الراديو والهاتف والإنترنت». ويقدم الكتاب أمثلة فى فصوله المختلفة أمثلة واقعية عن عمليات تجسس من هذا النوع نفذت ضد دول من ضمنها روسيا والصين وفيتنام وفرنسا واليابان والأرجنتين وغيرها. ويؤكد هاجر أن أنظمة المراقبة العالمية توسعت فى السنوات الأخيرة «من مراقبة الاتصالات التى تتم بواسطة الأقمار الصناعية لتصل إلى القدرة على استهداف الخطوط التى تنقل الاتصالات الدولية وحركة الإنترنت والتى تمر عبر البحار، حيث تمر معظم خطوط الاتصالات الدولية على أراض إما بريطانية أو أمريكية» وهذا يمنح الحلف الاستخباراتى الأنجلو-أمريكى، كما أسماه المؤلف، والذى يتحدث عنه هذا الكتاب، «إمكانية الوصول إلى معظم الاتصالات الدولية».
الآذان المترصدة، كيف يتجسسون علينا؟
تأليف: نيكى هاجر
ترجمة: رحاب منير صالح
إعداد وتحرير: جيهان الشعراوى
الناشر: دار نهضة مصر
2014
المراقبة الشاملة، أصل النظام الأمنى
تأليف: أرمان ماتلار
ترجمة: ميراى يونس، أنطوان عبدالله، ريمون شاهين
الناشر: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر
2013