لا أفرض على القارئ شخصية لا يعرفها، ولكننى اخترت هذه الشخصية لأنها تمثل «تراجيديا» إنسانية من نوع خاص، فهى نموذج لشاب مصرى خرج بعد حصوله على الشهادة الجامعية يسعى فى الأرض وحط الرحال فى لندن مع مطلع ستينيات القرن الماضى، وقصته تبدو نموذجاً واضحاً للمأثورة الحكيمة (ملك الملوك إذا وهب لا تسألنَّ عن السبب)، إنه الدكتور فكرى سويلم ذلك الشاب الذى كان يعمل فى شركة الملاحة المصرية فى لندن (الخديوية سابقًا)، وتعرفت عليه مع الأيام الأولى من هبوطى العاصمة البريطانية بعد وصوله هو إليها بعدة سنوات، وكان تعرفى عليه من خلال صديق مشترك يعمل فى مجال النقل البحرى هو الأستاذ باهر الحلوجى، ولقد لفت نظرى فى فكرى سويلم هدوؤه الشديد وأدبه الجم ونزعته الصوفية الواضحة.
وقد توطدت علاقتى به بشكل كبير وأصبحنا نلتقى كل مساء ومعنا مجموعة من الأصدقاء، قد يكون منهم عمنا الراحل الأستاذ محمود السعدنى والدبلوماسى عبدالحميد عبدالناصر وأحيانًا شقيقه الراحل الدكتور خالد، كما كان معنا صديق عرفه المصريون من خلال رعايته للمنتخب القومى لكرة القدم وهو الدكتور أحمد المقدم الذى كان معيدًا وأنا طالب بكلية الاقتصاد بجامعة القاهرة قبل ذلك بعدة سنوات، والذى أصبح أستاذًا مرموقاً للاقتصاد فى الجامعات البريطانية، فضلاً عن أنه كان رجل أعمال ناجحا فى الوقت ذاته، وقد عرفت أنه كان مشرفًا مساعدًا على الدكتور فكرى سويلم فى إعداده للدكتوراه، حيث كان المشرف الأصلى هو الدكتور فخرى شهاب أستاذ الاقتصاد الشهير بجامعة «إكسفورد» وهو عراقى الأصل.
وبدأت أستمع إلى قصص مثيرة وراء الثراء المفاجئ للدكتور فكرى سويلم، وكانت أكثر تلك الروايات مصداقية تحكى أن رئيس شركة الملاحة المصرية وهو وزير سابق قد أوكل إلى فكرى سويلم ـ باعتباره موظفاً صغيراً ـ فتح مظاريف البوستة يوميًا قبل عرضها عليه خشية وجود رسائل ملغومة كان قد شاع تداولها فى تلك الفترة من نهاية ستينيات القرن العشرين، وعلمَ الدكتور فكرى من المراسلات التى يقرؤها أن إحدى الدول العربية الكبيرة ـ وهى ليست مصر ـ تطلب من شركة بريطانية كبرى مجموعة من أجهزة الرادار لتسليح جيشها القوى فانتهز الشاب المصرى الذكى الفرصة واستأجر سيارة ليموزين فخمة وذهب لمقابلة السير «جون كلارك» رئيس مجلس إدارة تلك الشركة العالمية ومقرها لندن، وأبلغه أنه يستطيع أن يساعد فى حصول الشركة البريطانية على إتمام صفقة طلبتها تلك الدولة العربية المعنية فتحمس السير «جون كلارك»، وأعطاه خطاب ضمان بنسبة خمسة فى المائة من مبيعات الشركة فى تلك الصفقة إذا تمت على يديه، وتابع الدكتور فكرى بذكائه وهدوئه المراسلات القادمة إلى شركة النقل البحرى التى يعمل بها حتى توافرت لديه معلومات قدمها للشركة البريطانية العالمية فتأكدت مصداقيته، وما إن تمت الصفقة حتى تحول الشاب الذى كان يعانى من شظف الحياة فى لندن إلى مليونير حقيقى يملك عشرات الشقق فى أرقى المواقع وبعض الفنادق والمنتجعات، كما تراكمت لديه ثروة لم يستمتع بها أبدًا إذ لم ينجح له زواج، ولم يعش حياة الأثرياء، وظل زاهدًا فى حياته بسيطًا فى معيشته بينما استمتع كل من حوله بكرمه الزائد وطيبته المفرطة، فقد كان الرجل يعيش فى غير زمانه، ناسكًا جاء فى غير أوانه.
أهدر جزءًا من أمواله فى سنوات حياته بغير هدف بينما تكفلت البنوك البريطانية بالاستيلاء على ما بقى بعد وفاته، ولم تحصل أسرته الصغيرة إلا على النزر اليسير مما كان يملك، كما أن أشقاءه الذكور الثلاثة قد رحلوا خلال فترة قصيرة الواحد تلو الآخر، وأتذكر الآن أنه عندما اشتد عليه المرض طلب أن يرانى فزرته فى لندن، وأقنعته بالقيام بنزهة قصيرة فى الريف البريطانى لأرفع معنوياته، حيث كان يملك قلعة قديمة تحولت إلى فندق رائع، حتى إن إحدى مسابقات ملكة جمال العالم قد جرت فى ذلك الفندق الذى قضينا فيه يومين لم يكن يعلم أحد فى إدارته والعاملون فيه أن ذلك السائح المريض المنهك القوى المتعب الصحة هو مالك ذلك المكان، فقد كان الدكتور فكرى متحفظًا بطبيعته يكره الإعلان عن ثروته، ولا يزهو بما يملك، وبعد ذلك بفترة قصيرة نعاه الناعى ذات صباح فذهبت إلى مطار القاهرة لاستقبال جثمانه الذى جاء على متن الطائرة المصرية من لندن، وأتذكر أن وزير النقل والمواصلات المهندس سليمان متولى كان مشاركًا معى فى استقبال فكرى سويلم داخل صندوق الموتى لأنه كان يعرفه من خلال عمله فى شركة الملاحة المصرية التى كانت تابعة للوزير الأسبق حينذاك، والمحزن حقًا أن الجثمان قد وصل متأخرًا فبقى فى قرية البضائع حتى الصباح وأنا أناجى ربى «تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء»، فلله ما أعطى وله ما أخذ!.. رحم الله ذلك الصديق الذى عاش ومات ضيفًا عابرًا على الدنيا، لم يستمتع بمال أو بنين، وقد نعيته شخصياً فى وفيات صحيفة الأهرام، كما حزن عليه كل الأصدقاء دون استثناء.
twitter:drmostafaelfeky