يسعد المواطن عندما يرى المعاهد الأزهرية منتشرة فى المحافظات فى جميع ربوع مصر، من أقصاها إلى أدناها، سواء موحدة الزى الأزهرى أم مجرد زى مدنى. فالأرض الخضراء عليها عمائم حمراء وجلابيب زرقاء إذا كانت موحدة أو طاقية حمراء وجلابيب بيضاء وهو أيضا زى موحد شعبى. توحدت البلاد طولا وعرضا. ويشقها النيل ويرويها. يربط الضفتين، ولا يبعدهما كما تفعل الأيديولوجيا، إسلاميين وعلمانيين. لم يوجد مثل الإسلاميين قديما قبل ثورة 1952 إلا الوفد المصرى الذى كان هو الحزب الشعبى البديل. فالمواطن وفدى أو إخوانى. وكلاهما وطنيان إلا أن الإخوانى يزيد الإسلام على الوطنية. ثم يأتى الشيوعى (حدتو) ومصر الفتاة أقل شعبية ولكنهما يحملان لواء العدالة الاجتماعية. تفوق الإخوان على أحزاب مصر التقليدية الشعبية فى العدد والتنظيم. أما «الشبان المسلمين» فكانوا يقتصرون على الثقافة الإسلامية والرياضة البدنية والدعوة الإسلامية غير المسيسة التى تقتصر على الأخلاق والسيرة الحسنة.
وانتشار المعاهد الدينية الأزهرية فى كل المحافظات عمل إيجابى ولا شك. تطلب جهدا وتخطيطا وإعدادا وتنظيما. يعطى الجامعة الأزهرية الأم فضلا واعترافا بالجميل لما للتعليم الأزهرى من سمعة طيبة، والتعليم الحكومى، الجامعى والفنى من ضيق، وما له من سمعة طيبة عند جمهور الفلاحين. فالخريج الأزهرى تعليمه مقدر ويساوى التعليم الجامعى عدة مرات. يجمع بين الحق والخير، موثوق به. وبعلمه الثقة بالدين وبقيمه. يقوم على الأقل بمحو الأمية التى عجزت الدولة عن القيام به. وهو صاحب القول الفصل فى عظائم الأمور بل القادر على الفتوى فيما اختلف فيه من الأحكام الشرعية. وهو الذى يسبب يقظة شعبية اجتماعية وسياسية فى القرية فيما يتعلق بالوعى بالتغيرات الاجتماعية التى تحدث فى القرية، والقرارات السياسية التى يظنها القرويون خاصة بالنخبة وبالطبقة الحاكمة. بل إنه يقوم بدور المرشد السياسى والشارح لمواقف الأحزاب السياسية وبرامجها، وأيها أولى بالانتخاب.
ويمكن إعداده نحو العدو الخارجى إذا ما غزا البلاد وكما فعل عرابى حديثا وهمام قديما فى حرب عصابات، قرية قرية، وترعة ترعة، ومصرفا مصرفا، وقد هُزم العدو الخارجى دائما فى ربوع الدلتا على أيدى الفلاحين البسطاء. إنما الخطورة أن يتحول الإعداد ضد العدو الداخلى، ضد أبناء الوطن الواحد فتصير فتنة. والقرآن يقول «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ». والفتنة تجر وراءها الدم. ودم المسلم على المسلم حرام. وهو ما يحدث الآن. الخلاف فى الداخل حله الحوار والتفاهم وتبادل الرأى والرأى الآخر. فهو وجهة نظر ووجهة النظر حلال شرعا. فالحق متعدد. والصواب كذلك. وللمخطئ أجر وللمصيب أجران. فلا أحد يحتكر الحق. ولا أحد يستأثر بالصواب. بل إن تعدد الرأى إثراء للحق «فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ».
يتبلور الوعى الشعبى السياسى بفضل رجال الأزهر. وينظمون المقاومة الشعبية. فلا يحتل الوطن أحد. فهم أعمدته فى الدفاع الشعبى وهم القادرون على صياغة الوعى الوطنى وحمايته من الطائفية والعرقية وكل عوامل التفتيب التى تنخر من قبل فى العراق وسوريا والتى نخرت من قبل فى الصومال والسودان. وتنتظر البحرين واليمن وليبيا، ونائمة فى المغرب العربى كله. رجل الدين الأزهرى هو الذى يحافظ على الوعى الوطنى والذى قد ينخر فيه أيضا الاستبداد الدينى. وتحميه الشورى والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والعدالة الاجتماعية بأخوة المؤمنين و«أيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد تبرأت منهم ذمة الله».
ويزيد الطين بلة أن خريجى الأزهر لا يتعاونون مع باقى الأحزاب الوطنية. فإذا كانوا من القطبيين فإنهم يعتبرونهم من الكفار. وإذا كانوا مجرد مخالفين فى الرأى فإنه لا يصح التعاون معهم. فهم لا يصلون ولا يزكون ولا يصومون. ويعتبرون الحق فى غير كتاب الله ورسوله، ويستشهدون به. والآن ينفصلون عن الوطن ويضعون همهم فى مصارعة الخصم السياسى وتعكير صفو الحكم عليه، والسير فى هذا الطريق إلى الحد الأقصى تدمير الجامعات: تكسير المدرجات، تعطيل الامتحان، وضرب الأساتذة والعمداء فى مكاتبهم بل واستعمال قنابل المولوتوف والخراطيش الحية، وتحويل الأمر إلى معركة بالرصاص الحى بين الشرطة والجيش من ناحية والطلبة من ناحية أخرى. والتحدى هو من أجل إثبات من الذى يحكم فى البلاد: القصر أم الشارع؟ الحكام الجدد أم الجماعات الإسلامية. وإذا كان فى 30 يونيو خرج نصف الشعب المصرى رفضا للنظام القائم، وفى 3 يوليو خرج الجيش تدعيما له حتى لا تقع حرب أهلية بين نصفى شعب مصر فإن النصف الآخر من شعب مصر رفض النظام الجديد وقد يخرج النصف الآخر من الجيش والشرطة معه. فتلك طبيعة الحكم بالأقوى. وقد مل الناس الثورة وضجروا من الاعتراض كل يوم حتى كبرت مساحة الرافضين للفريقين، الحكومة والمعارضة.
والنتيجة تشويه صورة الإسلام فى الداخل والخارج. ضج المسلمون من الثورة باسم الدين، وضج العلمانيون من الثورة ضده. وضج الجميع من انتقال الثورة إلى الداخل إلى الثوار فيما بينهم، وتحول العنف إلى الداخل. وشعر الناس بعدم الأمن والأمان من العربات المفخخة وكأننا فى العراق أو سوريا أو لبنان. وازدادت الشرطة انتشارا فى الشوارع وعلى النواصى وأمام الهيئات والبنايات الحكومية. وضاع الشباب إلى أى الفريقين ينتسب: إلى الشرعية الصورية التى مضت أم إلى الشرعية الشعبية التى أتت بديلها؟ ووقع فى حيرة من أمره جعلته يلفظ الثورة بأكملها ويلتفت إلى رجال الأعمال يعمل معهم. فما دامت الدنيا خاسرة. فالدنيا هى الأبقى.