x

إحسان عبدالقدوس.. أخلى سبيل رغبات الأنثى في قصصه.. فكشف عورات المجتمع (بروفايل)

الأحد 12-01-2014 02:33 | كتب: إسلام دياب |
إحسان عبد القدوس إحسان عبد القدوس

اتهمه الأدباء والنقاد بأنه صاحب مدرسة أدب الفراش، وأنه كاتب الجنس للجنس، وأن قصصه تدعو للرذيلة، لكن من يقرأ روايات إحسان عبدالقدوس بوعي وبصيرة يدرك أن قصصه تدعو للفضيلة، وأن أبلغ رد على هذه الاتهامات هو ما يقوله «إحسان» نفسه على لسانه: «إن نشر هذه العيوب سيجعلهم يسخطون، وهذا السخط سيؤدي بهم إلى الاقتناع بضرورة التعاون على وضع تقاليد جديدة لمجتمعنا تتسع للتطور الكبير، الذي نجتازه ونحمي أبناءنا وبناتنا من الأخطاء التى يتعرضون لها نتيجة هذا التطور، وهذا هو الهدف من قصصي».

إحسان محمد عبدالقدوس أحمد رضوان، نشأ فى بيت جده لوالده المرحوم الشيخ أحمد رضوان، وكان من خريجي الجامع الأزهر، ويعمل رئيس كتاب بالمحاكم الشرعية، وهو بحكم ثقافته وتعليمه متدين جدًا، كان يفرض على جميع العائلة الالتزام والتمسك بأوامر الدين، وأداء فروضه والمحافظة على التقاليد، بحيث كان يُحرم على جميع النساء في عائلته الخروج إلى الشرفة دون حجاب، أما الوالدة فهي الفنانة والصحفية السيدة روز اليوسف، سيدة متحررة، تفتح بيتها لعقد ندوات ثقافية وسياسية، يشترك فيها كبار الشعراء والأدباء والسياسيين ورجال الفن.

كان ينتقل وهو طفل من ندوة جده، حيث يلتقي زملائه من علماء الأزهر، ويأخذ جرعته الدينية، التي ارتضاها له جده، وقبل أن يهضمها يجد نفسه في أحضان ندوة أخرى على النقيض تماما لما كان عليه، إنها ندوة روز اليوسف.

ويقول إحسان في هذا الأمر: «كان الانتقال بين هذين المناخين المتناقضين يصيبني في البداية بما يشبه الدوار الذهني حتى اعتدت عليه بالتدريج، واستطعت أن أعد نفسي لتقبله كأمر في حياتي لا مفر منه».

وإحسان عبدالقدوس من أصول ريفية، فجده كان أول من هاجر إلى المدينة من عائلته، التى لا تزال تقيم بكفر ميمونة التابع لقرية شبرا اليمن بمركز زفتى بمحافظة الغربية، وكان يقضي إجازته الصيفية في القرية كأي تلميذ من أصل ريفي يعايش فيها الفلاحين معايشة كاملة من ركوب الحمار للصيد والاستحمام في الترعة، وكان جده يحرص أشد الحرص على أن يبعده خلال أشهر الصيف عن القاهرة، حتى لا يتصل بوالده الفنان محمد عبدالقدوس، الذي غضب منه وطرده من البيت، بسبب اشتغاله بالفن.

نشأ والده محمد عبدالقدوس وتربى في بيئة متدينة، حيث كان والده أحد علماء الأزهر، وكان يقطن في حي العباسية، وهو نفس البيت الذي نشأ وتربى فيه «احسان»، أما والدته السيدة فاطمة اليوسف «روز اليوسف» فقد ولدت في احدى قرى لبنان، وعرفت اليتم والغربة منذ بداية حياتها فقد توفي والدها، وأدركت الوحدة في هذا العالم المخيف، واحتضنتها أسرة صديقة لأسرة الوالد الراحل وضمتها اليها كواحدة من بناتها، وتقرر هذه الأسرة أن تهاجر إلى أمريكا كما هو الحال دائما في لبنان، وتستقل الأسرة ومعها الطفلة اليتيمة فاطمة إحدى البواخر متجهين إلى المهجر المجهول، لكن يبدو أن القدر رسم لـ«فاطمة» اليتيمة حياة أخرى، فحينما رست الباخرة في ميناء الاسكندرية لتتزود بالوقود والماء، صعد سطحها صاحب فرقة مسرحية معروفة آنذاك هو إسكندر فرح، لكي يودع الأسرة المهاجرة، ومع الأسرة شاهد الطفلة الصغيرة فأعجبه جمالها وحسن تصرفها، ولاحظ نظرة الحزن والانكسار البادية عليها، التي كست الوجه الجميل الصغير بملامح مأساوية كبيرة، واستطاع «فرح» إقناع الأسرة بالتنازل له عن اليتيمة الصغيرة، ليتولى تربيتها في مصر، ووافقت الأسرة بعد إلحاحه.
وانتقلت «فاطمة» لعائلها الجديد إسكندر فرح، وبدأت حياة جديدة، وفي القاهرة ببيت صاحب الجوقة التمثيلية تبدأ فاطمة اليوسف أولى خطواتها في عالم الشهرة والأضواء «عالم الفن»، إلى أن تلتقي عزيز عيد، الذي استطاع أن يخلق منها نجمة كبيرة تجيد الوقوف على خشبة المسرح، وإيصال الفن المسرحي للجمهور، أحس عزيز عيد بقدرات وإمكانيات ومواهب فاطمة اليوسف فتولاها بالرعاية والاهتمام فعلمها القراءة والكتابة.

وتتعرف فاطمة اليوسف على محمد عبدالقدوس المهندس بالطرق والكباري في حفل أقامه النادي الأهلي، وكان «عبدالقدوس» عضوا بالنادي ومن هواة الفن، فصعد على المسرح وقدم فاصلا من المنولوجات المرحة أعجبت به الفنانة الصاعدة روز اليوسف فأسرعت لتهنئته، ومن هنا كانت البداية، بداية اللقاء الذي جمع بين القلبين المتفقين على الفن وعلى الحياة واتفقا على الزواج، لكن تأتى الرياح بما لا تشتهي السفن، فأصر والده على عدم الزواج بالممثلة فاطمة اليوسف، ورغم ذلك تزوجها محمد أفندي عبدالقدوس وأصبح اسمها روز اليوسف عام 1917، وتبرأ الأب من ابنه إلى يوم القيامة وطرده من بيته، واستقال الابن المتمرد من وظيفته الحكومية وتفرغ للفن ممثلا ومؤلفا مسرحيا.

ومن محاولات الشيخ أحمد رضوان إبعاد ابنه عن الفن وروز اليوسف أنه سعى لدى المسؤولين لنقله إلى الصعيد، وفعلا ينجح الأب في نقله، ولكنه يفشل في إبعاده عن الفن إذ يعين ناظرًا لمدرسة الأقصر الصناعية، ولكن حبه للفن كان يشغل كل كيانه وتفكيره، ولم تفلح الوظيفة في إبعاده عن عشقه الفني فاستقال من نظارة المدرسة، وعاد إلى القاهرة، ولم يعد موظفا بوزارة المواصلات إلا بعد مولد «إحسان» بأيام قليلة، وظل موظفا ومهندسا إلى آخر حياته حتى يضمن دخلًا ثابتًا يكفيه للإنفاق على ابنه، وإن كان في الوقت نفسه ظل يعمل بالفن.

الغريب في الأمر أن الشيخ أحمد رضوان الرافض لعالم الفن ومجالسهم، كان من هواة الغناء، وكان يدعو إلى بيته عبده الحامولي وكثيرا من المطربين، وكانت مقصورة على الرجال فقط، لدرجه أنه سمى ابنه «عبدالقدوس» على اسم عازف ناي كان معجبا به.

وتبدأ غيرة الزوج العاشق على زوجته الشابة الفاتنة التي تبحث عن المجد وتجري وراء الشهرة والمال، وتعمل كل هذه العوامل ما لم يستطع عمله الشيخ «رضوان»، فتحكم عليهما بالفراق، ويتم الطلاق بينهما في العام الثاني من زواجهما، وكانت روز اليوسف حاملًا في شهرها السابع، وبعد شهرين تضع مولودها «إحسان» في مستشفى «الدكتور سامي» بشارع عبدالعزيز في الأول من يناير عام 1919.

وفي نفس اليوم أيضا قرر الجد الشيخ «رضوان» نزعه من بين أحضان أمه، التي رضيت مرغمة أن تتركه للجد، حيث تتوفر له سبل الرعاية التي لن تستطيع أن توفرها له، وقررت المضي في طريق الفن حيث الشهرة والأضواء.

وأدخل محمد عبدالقدوس ولده كتابا بالعباسية قبل أن يسافر إلى إيطاليا عام 1924 لدراسة فن التمثيل، ثم ألحقه بعد عودته بمدرسة البراموني الأولية بالعباسية والسلحدار الابتدائية في باب الفتوح والنيل الابتدائية بشبرا وخليل أغا الابتدائية ليكون في رعاية صديقه محمد عبدالوهاب، مدرس الموسيقى والأناشيد بالمدرسة.

واستمرت الحياة تداعب الطفل «إحسان» فتقذف به يمينا تارة ويسارا تارة أخرى، فنجد والده يلحقه عام 1928 بمعهد الموسيقى العربية لدراسة الكمان، ولكن الفتى يفشل، فيتركه الأب يواصل دراسته الابتدائية إلى أن حصل عليها عام 1933، فيحاول معه مرة أخرى فهو يريد أن يصبح ابنه فنانا مثقفا وبأي ثمن فيحاول إقناعه بدراسة التمثيل، وهو طالب في السنوات الأخيرة من المرحلة الثانوية، ويكاد «إحسان» يقتنع لولا تدخل الأم والعمة معًا لكي يبعدا «إحسان» عن العالم، الذي قاست منه الأم، وخافت منه العمة عن سماع ما يدور في محيط الفن، وما يقع فيه من مآسٍ ومحن لايقوى على تحملها ابن أخيها.
ويقع «إحسان» الطالب بمدرسة فؤاد الأول الثانوية بين مغناطيسية أبيه وأمه، فكل من والديه يرسم له طريق المستقبل الذي يريده وأبوه يحاول بشتى الطرق جذبه إليه، فنجد «إحسان» يحاول كتابة الزجل والقصة استجابة لتوجيه أبيه، ويحاول الاشتغال بالصحافة استجابة لتوجيهات أمه، التى أرادته صحفيًا.

«إحسان» في بيت نعمات هانم

في البيت الكبير، بيت الجد، يجد «إحسان» صدرًا حنونًا يعطف عليه ويرعاه، هو صدر عمته التي أغدقت عليه من الحب والحنان بلا حدود، عاش في ظل جده يتعلم منه وفي ظل عمته يرتوي منها المودة والحب إلى أن أصبح شابا يافعا وتجاوزت سنه الثامنة عشرة، فقرر وكان القرار في غاية الصعوبة أن يعود إلى أمه ليعيش معها.

وعن هذه الفترة يقول إحسان عبدالقدوس: «كنت في الواقع بين نارين، فأنا أحب عمتي حبا شديدا وفي نفس الوقت أريد أن أستمتع ببنوة عمتي العظيمة التي لم تتخل يوما عن مسؤولياتها تجاهي حتى بعد وفاة جدي الشيخ أحمد رضوان، ارتبطت بعمتي عاطفيا، وقد شعرت بصدق إحساس عمتي، وشعرت بتدفق عواطفها نحوي، وكان جدي رغم خصومته مع والدتى إلا أنه سمح لى بأن أزورها يوم الجمعة من كل أسبوع، فكنت أحس بأننى مجرد زائر لبيت أمي في (حارة جلال) بإحدى شقق العمارة التي كان يملكها أمير الشعراء أحمد شوقي، وكان اللقاء بيننا حافلا في نهاية كل أسبوع».

«لولا».. الحب الأول والأخير في حياته

بعد أن اجتاز إحسان دراسته الجامعية بنجاح، وتخرج في كلية الحقوق عام 1942، اتخذ أهم قرار في حياته، فقد قرر أن يتزوج الفتاة الوحيدة التى أحبها «لولا»، وعنها يقول إحسان: «هى حبى الأول والأخير وقد لا يصدق الكثيرون هذا ولكنها الحقيقة، فمنذ عرفتها فى مطلع عام 1942، وكنت حينذاك طالبا بالحقوق وحتى الآن لم تستطع أى امرأة أن تزحزح مكانها فى قلبى، فلولا ثقتها بى وأنا فى مستهل حياتى لما وجدت الشجاعة على الاستقلال بنفسى، وهذا الذى جعل أمى تطمئن بقدرتى على المضى فى الحياة، لقد أعطتنى لولا الصورة المثالية للزوجة التى تفهم دورها فى حياة زوجها، والتى تستطيع أن تشكل هذا الدور تبعا للظروف التى يمر بها زوجها فى مراحل حياته المختلفة، فقد عشنا ظروفا عصيبة وأياما صعبة، ففى بدء حياتى كان دخلى لا يزيد عن عشرة جنيهات، وكانت رسالتها آنذاك وشغلها الشاغل هو البحث عن وسائل لتوفير حياة معقولة بهذا المبلغ البسيط، وعندما تغيرت حياتى، وأصبحت المشكلة الاقتصادية ليست مشكلة حياتى الأولى، وسارت زوجتى بذكاء لتغيير دورها فى حياتى، من تدبير الوسائل التى تسهل لدخلى البسيط أن يكفينا حتى آخر الشهر، إلى حمايتى ككاتب عليه أن يعطى الكثير من وقته لقلمه، من مشاغل الحياة اليومية التى تشغل بها كثير من الزوجات بال الزوج الذى يجب أن يتفرغ لما هو أهم من التفكير فى إصلاح الثلاجة أو شراء لوازم البيت».

ويكمل: «لقد كانت البداية مع طبق عاشوراء، فقد كنا ليلتها فى ليلة عاشوراء، وذهبت مع صديقى أحمد جعفر لكى نوصل طبق عاشورة من صنع والدته إلى أسرة صديقة لهم ووقفنا على الباب، ولكن السيدة ربة البيت أصرت على أن ندخل الصالون لكى نأكل العاشورة عندها، وكانت تلك عادة العائلات فى العباسية تبادل الهدايا فى المناسبات والأعياد، وفى الصالون رأيت صورة (لواحظ المهيلمى) فشغلتنى نظرة البراءة والذكاء الحاد المطلة من عينيها، عن طبق العاشورة اللذيذ الذى قدمته لى شقيقتها ربة البيت، وسألت صديقى أحمد جعفر عن صاحبة الصورة وكانت البداية، وقد عرفت فيما بعد أن زوجتى كانت موجودة عند شقيقتها فى نفس اللحظة التى كنت مشدودا فيها لصورتها، وأتتنى سراً وبادلتنى على البعد نفس الاهتمام، ومنذ تلك الليلة بدأت أهتم بتتبع أخبارها، وأتعمد التواجد فى المجتمعات العائلية التى يمكن أن ألتقى بها خلالها».

وبعد عثور إحسان على حبه الحقيقى وتأكده منه يمضي إحسان في كلامه عن «لولا» قائلًا: «صادفتنا مشكلة، كلانا يحب الآخر وكلانا مقتنع بأنه وجد شريك عمره، ولكن نظرة أسرتها لى لم تكن نظرة الرضا فضلاً عن الإعجاب أو الترحيب، ووجدنا أن الحل فى فرض الأمر الواقع على الجميع، وفى عصر أحد أيام نوفمبر سنة 1943 دخل المأذون إلى بيت محمد التابعى ليعقد قرانى سراً على زوجتى، ثم استأذنت (لولا) لتعود إلى بيت أسرتها وظللت أنا فى بيت (التابعى) الذى كنت أقيم عنده بعد خلاف وقع بينى وبين أمى لقد كنت واهما حين تصورت أن زواجى سراً من حبيبتى، سيضع حدا لمتاعبى، صحيح أن قلقى النفسى انتهى وأن احساسى الدائم بالوحدة والاغتراب النفسى عن كل ما حولى قد زال وتلاشى، وصحيح أننى وجدت أخيرا الانسانة التى تفهمنى وتحس بكل ما فى قلبى ولكننى وجدت أمامى مشكلة فظيعة يتحتم على أن أصل إلى حل عاجل لها قبل أن أصل إلى سعادتى فى بيت يضمنى مع زوجتى، فلم يكن مرتبى من مجلة روز اليوسف يزيد على اثنى عشر جنيها فى الشهر، تضاف إليه خمسة جنيهات كنت اتقاضاها كمحام تحت التمرين، وهو دخل لايسمح لى بفتح بيت وإقامة أسرة مستقرة ماديا».

ويذكر أن إحسان بعد تخرجه من كلية الحقوق عام 1942 قد التحق كمحامٍ تحت التمرين بمكتب واحد من أشهر المحامين آنذاك وهو إدوار قصيرى، ويقول في هذا: «كنت محامياً فاشلاً لا أجيد المناقشة والحوار وكنت أدارى فشلى فى المحكمة أما بالصراخ والمشاجرة مع القضاة، وأما بالمزاح والنكات إلى أن ودعت أحلامى فى أن أكون محامياً لامعا».

بالعودة لقصة زواجه السري يقول: «لم يمض أكثر من ثلاثة أشهر حتى عرفت أسرة (المهيلمى) بهذا الزواج، حين بدأوا بتضييق الخناق عليها ثم منعوها من الخروج، واستدعوني وطلبوا مني الابتعاد عنها فأخبرتهم أننا تزوجنا منذ ثلاثة أشهر، فأغمى على أختها الكبرى فى الحال، وأخيراً أعترفوا بزواجنا، وعملوا كتب كتاب صورى وأحضروا نفس المأذون الذى عقد قراننا، ووقفنا لالتقاط الصور كأى عروسين يوم زفافهما».
كانت السيدة فاطمة اليوسف رافضة لزواج ابنها لصغر سنه فقط ولم تحضر الفرح، أما والده فكان سعيدا جداً، وتنازل طائعاً عن شقته الصغيرة لابنه «إحسان» ليبدأ حياته.

إحسان عبد القدوس الأديب

كان عبد القدوس فى أعماله الأدبية يُعرى المجتمع ليكشف أخطاءه، حيث كتب أكثر من ستمائة قصة وقدمت السينما عدداً كبيراً من قصصه، فلقد اتجه فى مجموعاته القصصية الثلاث التى أصدرها قبيل ثورة 23 يوليو 1952 باسم «صانع الحب» عام 1948 و«بائع الحب» عام 1949 و«النظارة السوداء» إلى تصوير دقيق لفساد المجتمع المصرى وما يعانيه خلال تلك الفترة من انغماس فى الشهوات والرذيلة والبعد عن الفضيلة والأخلاق السامية.
ويظهر ذلك فى روايته الخالدة «شىء فى صدرى» التى صدرت عام 1958 نجده يرسم لنا صورة دقيقة وصادقة للصراع القائم بين المجتمع الرأسمالى والمجتمع الشعبى والمعركة الدائرة بين الجشع الفردى والاحساس بالمجتمع، فهى قصة عذاب الاحتكاريين والاستغلاليين ومثلهم بحسين باشا شاكر ذلك الذى جمع ثروته من احتكار الآخرين واستغلالهم، وحقق انتصاراته على كل من حوله من الناس بذكائه وأمواله واشترى سكوتهم ومظاهر احترامهم ولكنه لم يستطيع أن يخدع هؤلاء الذين يعيشون داخل نفسه، وهو يحس بعذابهم ويحس باعتدائه على حقوقهم ولذلك فلن يستطيع شراء سكوتهم واحترامهم، لأن قطعة من المجتمع تعيش فى صدره وتعذبه.

وشارك باسهامات بارزة في الرواية وكذلك فى المجلس الأعلى للصحافة ومؤسسة السينما، وقد كتب 49 رواية تم تحويلها إلى نصوص للأفلام و5 روايات تم تحويلها إلى نصوص مسرحية و9 روايات أصبحت مسلسلات إذاعية و10 روايات تم تحويلها إلى مسلسلات تليفزيونية إضافة إلى 65 من رواياته ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والأوكرانية والصينية،

ومن القصص التى كتبها إحسان «لم يكن أبدا لها»، و «أين عمرى» و«الوسادة الخالية»، و «الطريق المسدود»، ومن الروايات «لن أعيش فى جلباب أبى»، و«ياعزيزى كلنا لصوص»، و«فى بيتنا رجل».

«إحسان» متهما فى مجلس الأمة

القول بأن إحسان عبدالقدوس كاتب جنس فقط تهمة اطارها الخارجى المزيف إطار أدبى، ولكن أساسها الحقيقى حملة تشهير سياسية ظالمة، شنها عليه خصومه السياسيون لدرجة أن وصل بهم الأمر فى عام 1965 إلى تقديم سؤال فى مجلس الأمة، إلى وزير الثقافة فى ذلك الوقت وكان الدكتور محمد عبدالقادر حاتم، ووقف أحد هؤلاء الخصوم ليسأل فى المجلس: «كيف تسمح الحكومة بنشر قصة (أنف وثلاث عيون) هذه القصة الجنسية الهدامة»، وكان رئيس المجلس فى ذلك الوقت هو الرئيس الراحل محمد أنور السادات، ورد الدكتور «حاتم» على مقدم السؤال: «الحكومة لا تتدخل فى حرية الأدب، وعلى المعترض أن يتقدم للنيابة العامة إذا رأى هناك ما يستحق إبلاغها»، وقد حاول هؤلاء الخصوم أن يشكوه للنيابة العامة، والطريف أن تأتى بعد هذا جميع الأجهزة الفنية المختلفة ممثلة فى الإذاعة والسينما والتليفزيون وتشترى هذه القصة لتنتجها مسلسلا إذاعيا، وفيلما، مسلسلا تليفزيونيا.

جمال عبدالناصر يعترض على «البنات والصيف»

ما لا يعرفه الكثيرون أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كان من هواة قراءة الروايات بوجه عام وكان متهما بوجه خاص بقراءة كل ما يكتبه إحسان عبدالقدوس من أدب قصصى ويتتبعه تتبعا كاملاً وكان يبدى إعجابه بها ولكنه حينما قرأ مجموعته القصصية «البنات والصيف» اعترض على إحدى هذه المجموعات.
ويقول «إحسان» فى رسالته لـ«عبدالناصر»: «أبلغنى صديقى الأستاذ (هيكل) أن سيادتكم قد فوجئت عندما قرأت فى إحدى قصصى (البنات والصيف) ما يمكن أن يحدث داخل الكبائن على شاطىء الاسكندرية، والذى سجلته فى قصصى يحدث فعلا ويحدث أكثر منه، وبوليس الآداب لن يستطيع أن يمنع وقوعه، أنها ليست حالات فردية أنه مجتمع، مجتمع منحل ولن يصلح هذا المجتمع إلا دعوة، إلا انبثاق فكرة تنبثق من سخط الناس كما انبثقت ثورة 23 يوليو، لهذا أكتب قصصى».

وكان أبلغ رد على الرسالة جاء لـ«إحسان» من أنور السادات الذى أكد له أن «عبدالناصر» كان فى اجتماع معه واستأذن منه وقال أنه سيصعد لمشاهدة التليفزيون لكى يرى قصة «عبدالقدوس» حيث كان قد طلبها ويخشى أن يكونوا قد عدلوا فيها.
وحاولت مراكز القوى أن توغر صدر «عبدالناصر» غضباً على روايات «إحسان» وتأويلها بتأويلات مختلفة، ولعل أقرب مثال على ذلك قصة «علبة من الصفيح الصدىء»، التى فسرتها مراكز القوى آنذاك على أنها اتهام خطير لـ«عبدالناصر»، فهى تقول ببساطة إن ماحدث قبل الثورة مازال يحدث بعدها وكذلك رواية «لاشىء يهم»، ولم ينصت «عبدالناصر» لهمسات من حوله بل أخذ القصة وقرأها بنفسه وبعد أن فرغ من قراءتها أمر على الفور بعرضها فى التليفزيون كما هى دون تغيير أى شىء منها.

«إحسان» لرئيس الوزراء: أمى بتسلم على سعادتك وبتقولك عاوزة شوية أخبار

فى صيف عام 1938، سافر «إحسان» إلى الإسكندرية لقضاء الإجازة، بعد ظهور نتيجة البكالوريا، مكافأة من والدته على نجاحه فى امتحان الشهادة واستيقظ ذات صباح مبكرا بالفندق الذى يقيم به، على مكالمة تليفونية عاجلة من القاهرة، حيث فوجىء بوالدته تخبره بأن مندوب روز اليوسف بالاسكندرية (على بليغ) مريض وأن عليه التوجه فورا إلى رئيس الوزراء الموجود بالمصيف ليحصل منه للمجلة على آخر تطورات الموقف السياسى، وأنهت والدته حديثها معه بعبارة قصيرة ومخيفة قالت فيها: «بسرعة يا احسان المطبعة واقفة ولازم التصريح يوصلنى قبل الظهر»، فوضع سماعة التليفون وقد طار النوم من عينه رعبا، انتابته حالة من القلق لاحتمال الفشل.

وذهب «إحسان» إلى مقابلة محمد محمود باشا، وفى تراس فندق سيسل المطل على البحر الأبيض وقف حائرا مترددا بين الأقدام، وبين خوفه وخجله من هذه المجموعة من المشاهير التى تحيط بدولة الباشا تجىء النجدة له على يدى الشاعر المرحوم كامل الشناوى فيدعوه للدخول مرحباً به بين دهشة الكبار الذين تصادف عدم معرفة أحد منهم له، لأنه كان حتى هذه اللحظة بالنسبة لمجتمع أمه مجرد زائر عابر، وما يكاد صاحب الدولة رئيس الوزراء يعرف شخصيته حتى أقبل عليه مرحبا فى عطف مما زاد ارتباكه، فيتعثر الكلام على لسانه فلا يكاد يبينه، وبعد مقاومة عنيفة لخجله، فوجىء الحاضرون بعبارة كانت نصيب معظمهم بالإغماء من كثرة الضحك حين قال: «أمى بتسلم على سعادتك، وبتقولك عاوزة شوية أخبار».
ويقول الأستاذ إحسان: «كان المرحوم الدكتور محمد حسين هيكل أسرع الحاضرين تمالكا لنفسه بعد موجة الضحك التى انتباتهم، فأسرع يطيب خاطرى ويملينى ما جئت لأجله من أخبار وتصريحات خطيرة، ورغم كثرة ما حصلت عليه من أخبار، فلم أكن سعيدا، ولكنى أديت واجبى الصحفى، وأمليت الأخبار لأمى تليفونياً وكانت سعادتها لا توصف بنجاح ابنها فى أول مهمة صحفية يكلف بها رسميا من المجلة».

وتولى «إحسان» رئاسة تحرير مجلة «روز اليوسف»، وهى المجلة التى أسستها والدته، وقد سلمته رئاسة تحريرها بعد خروجه من السجن عقاباً على مقاله بالمجلة والذى كان تحت عنوان «الجمعية السرية التى تحكم مصر» والتى قال فيها: «كنا جميعًا نعلم أنه ليس محمد نجيب الذي يحكم، وكنت خلال هذه الأيام ألح عليها إلحاحًا مستمرًا ليظهروا أمام الشعب ولكنهم أصروا على أن يظلوا جمعية سرية».
وكانت لإحسان مقالات سياسية تعرض للإعتقال بسببها، ومن بينها قضية الأسلحة الفاسدة وقد تعرض للاغتيال عدة مرات، كما سجن بعد الثورة مرتين في السجن الحربي، وأصدرت مراكز القوى قراراً بإعدامه.

وعن ذكريات إحسان عن حرب أكتوبر يقول إحسان: «على الرغم من أن الرئيس أنور السادات كان يؤكد لى عزمه على خوض المعركة فى كل مرة ألتقى به خلالها، إلا أن ضخامة المشاكل التى كانت تواجهنا قبل المعركة، كانت تجعلنى أقف موقف الحيرة والتساؤل، كيف سيجتاز الرئيس السادات كل هذه المصاعب وهو فى طريقه لاجتياز عقبة العقبات؟، ولكن توالى الأحداث أقنعنى بالتدريج أن فلاح مصر الصبور الصموت أنور السادات، ماضٍ فى طريقه، يقطع خطواته على الدرب الموصل فى صمت وعزم، وقد كنت معه فى جميع الخطوات التى اتخذها، ابتداء من إبعاد مراكز القوى، ثم إبعاد الخبراء الروس، كنت متجاوباً معه فى سياسته ولم يبدأ الخلاف بيننا إلا بعد أن أنتهت معركة 1973».

رحيل إحسان

وبعد عدة تكريمات لأدبه الواقعى حصل إحسان على وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ووسام الجمهورية من الرئيس محمد حسنى مبارك وجائزة الدولة التقديرية فى الآداب فى 1989والجائزة الأولى عن روايته «دمى ودموعى وابتساماتى» عام 1973 وجائزة أحسن قصة فيلم عن رواية «الرصاصة لا تزال فى جيبى»، وفى الثانى عشر من يناير عام 1990 رحل عن عالمنا كاتب وأديب رفض أن يعيش فى جلباب أحد، ليعلنها صريحة للعالم بأنه لا يكذب ولا يتجمل.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية