اكتب هذه السطور مساء الأحد 5 يناير 2014، أى قبل مناسبة عيد الميلاد المجيد بيومين، لتنشر الأربعاء، أى اليوم التالى للاحتفال بالمناسبة، هذا من ناحية الشكل، غير أن الموضوع هو أن الميلاد ليس مناسبة موقوتة بيوم معين، إذا أخذنا الأمر من زاوية السياق الوجدانى للإنسانية، خاصة فى منطقتنا التى هى مهبط الوحى السماوى لحنيفية إبراهيم الخليل- عليه السلام- وما اتصل بها، أى اليهودية والمسيحية والإسلام، ناهيك عما هو معروف عن رسالات أخرى كلّف بها رسل وأنبياء، منهم من عرفناهم ومنهم من لم نعرف!
الميلاد كان موتا للذين انحرفوا وجعلوا من بيت الله مغارة لصوص، واستباحوا كل القيم والمبادئ والتعاليم السامية التى أمر بها الله عز وجل.. وكان بعثا وإحياء لتلك القيم والمبادئ والتعاليم، ويكفى أن يقرأ المرء العهد الجديد ويمعن التأمل فى موعظة الجبل ليعرف صحة ما تذهب إليه هذه السطور.
ولقد سبق أن كتبت فى مناسبة عيد القيامة العام الفائت- وأثناء حكم المرشد- عن مغارة اللصوص التى كانت فى المقطم، وعن أولئك الذين زعموا أنهم يخدمون الله والمال معا، مع أن هذا مستحيل استحالة مرور الجمل من ثقب الإبرة!
ثم إنها قد تكون مناسبة كى أتحدث عن أن حربنا الحالية ضد الإرهاب هى فى وجه من وجوهها دفاع عن وجدان أمتنا الذى تراكمت خلاياه وتماسكت وتناغمت منذ عرف أجدادنا القدامى التفكير فى نشأة الحياة من الماء، وكيف تم الفصل بين السماء والأرض بعد أن كانتا رتقا، ومنذ استقبلنا إبراهيم الخليل ورعينا موسى الكليم وحمينا عيسى المسيح وآوينا آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم!
أقرأ موعظة الجبل وأخشع أمام ما تحويه من معانٍ سامية رفيعة، وأذهب إلى التراث المسيحى الذى هو فقرات رئيسية فى عمودنا الفقرى الحضارى الثقافى، لأدرك كم هو عظيم ذلك الذى قدمناه للبشرية عبر حقب تاريخنا القديم والوسيط والحديث، وأعرف كيف هو حجم ومساحة وعمق دور الإسكندرية منذ أنشئت عاصمة لثقافة العالم، حيث اندمج المصرى مع الإغريقى مع الرومانى مع السريانى مع الفارسى مع العربى، وتكتمل أركان الثقافة الهللينستية الرائعة، وتتوج بدور كرسى الإسكندرية الرسولى فى التأسيس للاهوت والفكر المسيحى، وتتصل الحلقات عندما أذهب لقراءة ما أبدعه صديقاى اللذان عرفتهما دون أن أراهما محيى الدين بن عربى وجلال الدين الرومى، وقد تعودت أن أزور دمشق– قبل البلاء الإخوانى والسلفى– خصيصا لأصلى فى مسجد محيى الدين ثم أنزل الدرجات إلى ضريحه ويحدث التواصل الذى لا يعرفه إلا من ذاقه.. وكذلك أزور قونية فى تركيا لأتجول فى حديقة الورد قبل أن أدلف إلى ضريح جلال الدين الرومى، ويتكرر التواصل بالذوق ولا شىء غيره!
وأتأمل العلاقة البعيدة بين الفقرات التى أشرت إليها وما عبر عنه ابن عربى فى نصوص الحكم، وما احتواه المثنوى، وغيره، من معانٍ تفكك كل طلاسم ما ظن ويظن الجهلة أنه صميم الاختلاف والخلاف بين اللاهوت المسيحى والإسلام.
ولست بصدد الكتابة فيما ذكره ابن عربى عن الواحد بداية الأعداد والثلاثة بداية المفرد، ولا عما كتبه جلال الدين عن العين التى تستقبل ضوء عدة مشكاوات، والفم الذى يشرب عصير عدة تفاحات، وهل تستطيع العين أن تحدد أى مشكاة استقبلت منها الضوء، كما لا يستطيع الفم أن يحدد أى تفاحة يشرب عصيرها!
كان ميلاد السيد المسيح– فيما أفهم– بشارة تحقق نبوءة سفر التكوين التى تحدثت عن الإرادة الإلهية فى أن يكون إسماعيل بن إبراهيم أمة عظيمة، لأنه بالسيد المسيح اختتمت الرسالة فى نسل إسحاق ليستقبلها نسل إسماعيل!
أعلم أننى أكتب لصحيفة يومية، والأحرى أن تكون الكتابة خارج نطاق مثل هذه القراءات أو هذا اللون من ألوان الفكر، لكننى أعلم أيضا أن من حق بعض القراء أن يجدوا إشارات قد تعين على مزيد من الاطلاع والمعرفة، ولا بأس من الاتفاق والاختلاف.. لأن هذا هو الديالوج الذى تبنى به الأمم ثقافتها وتستند عليه لجلاء رؤيتها وتلاحم صفوفها.
لقد جاء عيد الميلاد فيما اللصوص قد غادروا المغارة فى المقطم لكنهم يحرصون على حرق الوطن، لا يميزون فى إصرارهم الإجرامى بين بيوت العلم- التى هى عند كل من يفهم وكل من يعبد الله حق العبادة- لا تقل قدسية عن المساجد، وبين مقار الشرطة والممتلكات العامة بل ممتلكات المواطنين. ولكن الله سبحانه وتعالى سيتم نوره ليشع على كل أرجاء المحروسة تلك التى استقبلت المسيح وحمته وباركها من لحظة ونقطة وصوله، وستبقى بركته سارية أبد الآبدين.
وأختم بهذا الاقتباس من العهد الجديد.. الإصحاح السابع من إنجيل متى: «... من ثمارهم تعرفونهم.. هل يجنون من الشوك عنبا أو من الحسك تينا.. هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثمارا جيدة وأما الشجرة الردية فتصنع أثمارا ردية.. لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارا ردية، ولا شجرة ردية أن تصنع أثمارا جيدة.. كل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى فى النار، فإذًا من ثمارهم تعرفونهم» انتهى الاقتباس.
وأرجوكم تأملوا تلك الكلمات وانظروا ماذا يجرى فى الجامعات والشوارع ممن هم ثمار شجرة الإخوان.
[email protected]