x

علاء الديب صلاة من أجل بيروت علاء الديب السبت 04-01-2014 21:14


الأديب الفنان يستطيع أن يحتفظ بوطنه نابضاً حياً بين دفتى روايته فى كتاب: الوطن المعنى الغامض الحارق، الواضح، القريب حتى وأنت مهاجر تعيش فى المنفى. كلما اقتربت من عمل من أعمال «أمين معلوف»: ينبعث حولى ريح بيروت: البحر، والرطوبة، وريح الجبل، السياسة الحارقة تحت الجلد وفوق الجلد، الجبل، الكنيسية، والجامع، بعلبك، وحريصا، زحلة: التاريخ.. والبحر دائماً فى الأفق يستقبل المسافر ويدعو للرحيل!

لو أن الأمر بيدى لسميت أمين معلوف «25 فبراير 1949» عضو الأكاديمية الفرنسية «2012» وواحد من الخالدين فى فرنسا- لو أن الأمر بيدى لسميته «ملكاً للبنان».

خلال عدد من الكتب قرأتها وأحببتها له: أيقنت أن هذا الرجل يعتنى بقيمة واحدة أساسية ويضعها فوق كل القيم.. وهى كرامة الإنسان. يبحث عن معانى هذه الكرامة فى التاريخ وفى الحرب، فى الحاضر وفى الانتماء السياسى وفى نظم الحكم فى الانتماء الدينى والطوائف التى تذرع أرض لبنان، وتكاد تفتت وحدته المعجزة. أمين ملعوف يعلى ويقدس معنى الكرامة الإنسانية ويرى فيها الوسيلة الوحيدة للإبقاء والمحافظة على المعجزة اللبنانية، فى كل أعماله يبحث ويشرح، ويؤكد معنى الكرامة الإنسانية، وفى رواية «بدايات» يدرس محافظة عائلة «.. معلوف» على معنى الكرامة رغم الفقر والهجرة، وصراع الطوائف الدينية خلال قرنين من الزمان. تحت حكم العثمانيين، وفى المهاجر، فى كوبا والديار المصرية، والبرازيل، والولايات المتحدة، وفى المجاعات، والحروب ضد الجهل والأمراض وهجوم الجراد يقول:

أنتمى إلى عشيرة ترتحل منذ الأزل فى صحراء بحجم الكون، مواطننا واحات نفارقها متى جف الينبوع، بيوتنا خيام من حجارة، وجنسياتنا مسألة تواريخ أو سفن، كل ما يصل بيننا وراء الأجيال، ووراء البحار، ووراء بابل، اللغات رنين اسم: معلوف ينطق ويكتب بألف شكل.

■ ■

فى نهاية الرواية شجرة العائلة مرسومة بطريقة خاصة. الراوى فى الوسط وحوله فى مربعات ومستطيلات عشرات الأطراف التى كونت أحداث حياته، عمل على هذا العمل 40 شهراً مستعيناً بكل ما استطاع أن يحصل عليه من مراسلات متبادلة بين جده وأعمامه، وأبى زوجته وأشقائها: الذين بقوا فى قرية «عين القبو» قرب زحلة فى البقاع، أو هاجروا إلى كوبا حيث سافر، وكتب عدداً من فصول الرواية بحيث قدم لنا «كوبا» البلد والثورة والطبيعة النادرة فى براعة واقتدار فنان حساس مثقف: مرة أخرى مشغول بكرامة الإنسان وما يحدث هناك للمواطن وللمهاجر.

طوال صفحات الرواية «470» وأنت متردد هل يحكى هذا الرجل تاريخ حياة أسرته أم أنه يكتب رواية خيالية يحملها مجموعة من أفكاره، وحكمته التى يريد أن ينقلها إليك.

حافظ أمين معلوف على عدد من الأشياء المهمة: أولاً: التشويق والإثارة، ثانياً: البناء التقليدى للرواية الكلاسيكية، بناء الشخصيات من الداخل والخارج، المكان يبعث حياً سواء كان لبنان القرية أو بيروت أو الخارج.

يقولون عن الرواية التى تتوسط عقد أعمال معلوف إنها: صلاة طويلة نبيلة. نشيد حب إلى أسرة تظل هى الوطن الوحيد لهذا الأديب الذى يعيش فى منفى الاغتراب.

تراث العائلة الأساسى الصمت والعمل. العواطف مختفية تحت التصرفات العملية، عندما تسأل الطفلة أمها لماذا لا تقبليننى مثل ما تقبل جارتنا أطفالها تقول الأم: أقبلك وأنت نائمة! أقام الجد «بطرس» وهو يكاد أن يكون الشخصية المحورية فى «بدايات» مدرسة فى القرية بمساعدة زوجته «نظيرة» أصر هو على أن يسميها «المدرسة العمومية» وألا تكون تابعة لأى طائفة من الطوائف المسيحية. لقد أدرك بطرس عبء النزعات الطائفية مبكراً جداً قبل أن يكون هناك لبنان، عندما كان الشام أو سوريا جزءاً من السلطنة العثمانية. أحس بطرس بالكرامة المسيحية، وبأن فى الطائفية تبعية وتشدداً أعمى يصرف الإنسان عن حقيقة دينه وعن كرامته، كان بطرس يقرر أن لا نص يغنى عن التفكير بالعقل، ويقول لمن يتباهون بصدور دستور مكتوب: هذا ليس إلا الظل «أما الأخلاق الدستورية التى تمهد للعيشة المدنية التى نحفظ بها الحقوق ليتمتع كل بحقه، ويعيش سعيداً يسعى لرزقه فلا يوجد منها عندكم شىء إنما أخلاقكم أخلاق العرب الجاهليين أسلافكم»، يقول: أنا لا أعرف الرياء ولا المخاتلة إننى أقول ما أفكر فيه، وأفعل ما أفكر فيه ولو تصرف الجميع على هذا النحو لما بلغنا هذا الدرك من الانحطاط.

يعتمد أمين معلوف على الرسائل المحفوظة عند كبار العائلة، ويعتمد على مقارنة ذلك بلقاءات من بعض الأشخاص الأحياء، الرسائل مكتوبة باللغة العامية اللبنانية القديمة التى كانت متداولة فى ذلك الوقت «أواخر التاسع عشر أوائل العشرين» وعندما تعرف أن الرجل قد نشر روايته بالفرنسية: فإنك تستطيع أن تقدر الجهد المضنى الذى بذلته المترجمة الأستاذة نهلة بيضون، ففى الرواية مستويات لغوية ثلاثة: لغة الرسائل وهى تكاد تكون عامية سهلة وواضحة ولكن ذات مذاق خاص، ثم لغة السرد العادى الذى يحمل طابع أمين معلوف المدقق الموضوعى ناصع الوضوح، ثم مستوى شعرى ثالث: يشيع الشعر العربى فى أوساط المتعلمين اللبنانيين فى ذلك الوقت فى كل الاحتفالات والاجتماعات والمناسبات.

الهجرة كانت ومازالت علامة من العلامات الساكنة داخل العائلة اللبنانية، وقد صور أمين معلوف وقعها وتضاعيف المشاعر التى تثيرها والدوافع التى تحركها قلة الموارد، والطموح الزائد، والبحر دائم الفداء كأنه الميموزا، ثم انعدام الأفق فى الشرق هنا. الشرق والغرب موضوع أمين معلوف الأثير الذى قتله بحثاً، هو نفسه غادر لبنان فى أول اندلاع الحرب الأهلية 1975 وبقيت الهجرة معلقة فوق الرأس، الشعور بالذنب تجاه الوطن، والشعور العملى البراجماتى، ما يمكن تحقيقه فى الخارج وما يمكن أن يفيد العائلة والوطن، لكن السؤال الغامض المأساوى الذى يتردد بلا مبرر: أين يدفن المهاجر؟! وملاحظة مدافن المهاجرين فى مختلف أراضى الشتات.

لبنان، البلد العربى المسيحى الوحيد، عربى حتى النخاع، مسيحية التكوين لم تلغ الهوية العربية، وكل النزاعات والصراعات الطائفية مهما حاولت لا يمكن أن تنزع هذا البلد الخالى من الجسد العربى حتى وهو يعانى كل هذا الارتباك.

من الغريب والمثير تردد كلمة العلمانية والماسونية وكأنك تسمع المجادلات الدائرة اليوم، كما تتردد فكرة أن النص المقدس لا يتغير ولكن نظرتنا إليه هى التى يجب أن تتغير.

روايات أمين معلوف عن الحروب الصليبية والأندلس ثم هذه الرواية عن سقوط الدولة العثمانية وقيام لبنان لا تجعل منه خالداً فى فرنسا فقط، ولكنه خالد وضرورى لنا هنا فى الشرق العربى المأزوم.

نقطة نظام

صلاة قبطية فى العيد:

إليك يا رب صرخت فى حزنى، فاستجبت لى. يا رب نج نفسى من الشفاه الظالمة ومن اللسان الغاش ويل لى فإن غربتى قد طالت، طويلاً سكنت نفسى فى الغربة مع مبغضى السلام، كنت صاحب سلام، وحين كنت أكلمهم، كانوا يقاتلوننى باطلاً. هللويا.

«الأجبية، بدايات» أمين معلوف ترجمة نهلة بيضون- الفارابى- بيروت

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية