تقترب الساعة من الواحدة ظهراً، يتدافع الطلاب فى إحدى المدارس الابتدائية، حالة من التهافت غير المسبوق تبدو فى وجوههم، ليصطفوا أمام «كراتين» تحوى قطع جبن أو مربى، و«أكياس العيش»، يحمل الطلاب نصيب الفصل الدراسى، يعودون إلى زملائهم، حيث يقف طالب على مدخل الفصل، وبمجرد أن يلمح زملاءه يصيح فى الباقين «التغذية وصلت». المشهد السابق ليس من أحد الأفلام السينمائية، لكنه واقع يشهده العديد من المدارس الحكومية، حيث تمثل «الوجبة المدرسية» حلما لدى بعض الطلاب فى مناطق بعينها داخل مصر، التى ينص دستورها الجديد على حق كل مواطن فى غذاء صحى وكافٍ، والتزام الدولة بتأمين الموارد الغذائية للمواطنين، وحق كل طفل فى رعاية صحية وأسرية، وتغذية أساسية ومأوى آمن.
الأمر لا يقتصر على ذلك، بل تشير بعض التقارير إلى أن الطلاب، وبشكل خاص الأكثر فقراً، يحملون «الوجبة» من المدرسة إلى منازلهم، حيث يتهافت أشقاء الطالب فى الحصول على نصيبهم من وجبة أخيهم، الذى خاض «حرباً ضروساً» مع زملائه فى المدرسة للحصول على «الوجبة»، التى قد يقتسمها 4 طلاب فى بعض الحالات، ناهيك عن حالات الإغماء العديدة بين طلاب المدارس، التى ترصدها التقارير، وترجعها إلى «سوء التغذية».
«ملء الأفواه» صار هدفاً لحكومات عديدة بدأت فى أربعينيات القرن الماضى من خلال برنامج قومى للتغذية المدرسية، إلى أن تمت إعادة إحيائها عام 1997 لتغذية أطفال المدارس الابتدائية، وبعض المدارس الثانوية، خاصة فى المناطق الفقيرة، والأشد فقراً، لكن لم تتم ترجمة أهداف البرنامج فى إطار مشروع متكامل يغطى كل تلاميذ المدارس، ويوفر وجبة صحية متكاملة، وفقاً لخبراء، أرجعوا الأمر إلى نقص التمويل الحكومى للمشروع تارة، أو إلى «شبهة الفساد» تارة أخرى.
الأمر دفع حكومة د.حازم الببلاوى إلى أن ترصد مبدئياً 400 مليون جنيه، لتنفيذ مشروع تجريبى متكامل للتغذية المدرسية، خلال النصف الدراسى الثانى، فى فبراير المقبل، يستهدف الوصول إلى 10 ملايين طفل فى المرحلة الابتدائية بوجبة غذائية جافة متكاملة تغطى 180 يوماً فى العام الدراسى، ودخلت الحكومة فى مفاوضات مع عدد من الجهات الدولية المانحة، للمساهمة فى تمويل المشروع خلال العام الدراسى المقبل.
وتشير دراسات صادرة عن برنامج الغذاء العالمى إلى ازدياد نسبة سوء التغذية فى مصر خلال عام 2008، ووصلت نسبة التقزم بين الأطفال إلى 28.9 %، فيما يعانى 7% الهزال، و6% يعانون نقصاً فى الوزن، كما أن 11% من أسباب وفاة الأطفال مرتبطة بسوء التغذية، ورصد التقرير خسارة الاقتصاد 20 مليار جنيه عام 2009 نتيجة سوء تغذية الأطفال. المؤشرات السابقة دفعت الدكتور زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، وزير التعاون الدولى، إلى تبنى مشروع للتغذية المدرسية بمفهوم جديد يستهدف تحقيق الاستقرار فى توزيع الوجبات، وتقديم وجبة متكاملة، بها كل العناصر المطلوبة لنمو الطفل، ومواجهة مشكلة التقزم فى مصر.
وبحسب الدراسات التى تمت للمشروع، وقدمتها وزارة التعاون الدولى إلى الحكومة، فإن هناك بعض المشروعات الحالية للتغذية، مثل «الفطيرة المدرسية»، ويتم إعدادها فى مصانع تابعة لوزارة الزراعة، وهناك أيضاً مشروع «البسكويت المعزز بالحديد»، ويقدم لنصف مليون طالب، بتمويل من برنامج الغذاء العالمى، إلا أن المشاريع المذكورة تعانى من مشكلتين، يحددهما الخبراء فى التغطية المحدودة وغير المنتظمة، وعدم قدرة المكونات الغذائية للوجبات بصورتها الحالية على مواجهة سوء التغذية.
المشروع الجديد لا يعمل فقط على مواجهة سوء التغذية، لكنه يشجع على منع التسرب من التعليم، خاصة أن الدراسات أثبتت ارتفاع نسبة الحضور فى أيام توزيع الوجبات، لتصل إلى أكثر من 90%، كما يرفع عن كاهل الأسرة عبء توفير الغذاء الصحى لأطفالهم، وبشكل خاص فى المناطق المحرومة والأكثر فقراً، إضافة إلى البعد الاقتصادى للمشروع، والمتمثل فى إقامة بنية متكاملة من مصانع منتشرة فى المحافظات، لتوفير أماكن لتصنيع وتجهيز، ونقل أكثر من 10 ملايين وجبة يومياً، بما يوفر آلاف فرص العمل، ويعرب المتخصصون عن أملهم فى أن يتم تنفيذ المشروع، وأن تكون لدى السلطة الإرادة الكافية لتحقيقه.