ليست هى المرة الأولى التى يعبر فيها المستشار محمود الخضيرى عن موقفه من التحفظ على موضوع تعيين المرأة قاضيا أو «المرأة والمنصة العالية» كنص عنوانه، «المصرى اليوم 6/3»، فلقد سبق أن عبر عن موقفه ذاك المتحفظ على التعيين منذ اليوم الأول لصدور توصية الجمعية العمومية لقضاة مجلس الدولة، وفى أكثر من مناسبة وأكثر من وسيلة من وسائل الإعلام.
والمستشار الخضيرى، ونحن نحترمه لمواقفه المؤيدة للإصلاح والتغيير والداعمة للديمقراطية، وهى أشهر من أن نشير إليها، ومن منطلق تقديرنا له نتمنى أن يتسع صدره لتلك الملاحظات العابرة حول موضوع المرأة والمنصة العالية.
وفى الحقيقة لقد عبّر المستشار الخضيرى عن رأيه بخطاب ينتمى بامتياز لفكر الإخوان المسلمين، الذى يرى أن مكان المرأة الطبيعى هو البيت، وعملها الأساسى هو رعاية الزوج والأولاد، ولا مانع فى سبيل تأكيد ذلك من الاعتراف بأن المرأة قد أثبتت نجاحا فى العديد من المراكز والمواقع التى شغلتها، وكذلك الاعتراف بأنه لا يصدر من رؤية دونية للمرأة، تراها فى درجة أقل من درجة الرجل، ولا يصدر عن رأى فقهى يمنعها حقها، بل يعترف بأن الفقهاء مختلفون حول أحقيتها فى تولى القضاء، و«اختلافهم رحمة» كما يقال، وهو حديث يقر بالحق الطبيعى للمرأة، ويقر بأن هناك تغيرات اجتماعية دفعت بالمرأة إلى اقتحام ميادين الحياة والعمل ولابد من احترامها، كل ذلك وصولا إلى الهدف النهائى، وهو أن الظروف أو المواءمات الاجتماعية لم تنضج بعد لتتولى المرأة المنصة العالية.
وفى البداية يستعرض المستشار الهيئات التى لها الحق فى إبداء الرأى حول تعيين المرأة قاضيا، ليخلص إلى أن ما تم، قد تم بالطريقة الشرعية، ومن الهيئات الشرعية، يعنى أن الإجراءات قانونية وسليمة، ولا سبيل إلى الدفع ببطلان الإجراءات وهو أمر وإن كان صحيحا إلا أن ما نحن بصدده من قضية تقدم اجتماعى وتنوير، يتجاوز الوقوف عند سلامة الإجراءات، وما أظن أن التعبير الذى عبر به أنصار حرية المرأة، وأنا واحد منهم، يتجاوز الحقوق والأعراف والمواثيق التى كفلت حرية التعبير عن الرأى قولا وكتابة ووقفات احتجاجية، وأنا لا أفهم كيف يسوغ المستشار الكبير لنفسه، تشبيه المعترضين على رأى مجلس الدولة - وهو فى النهاية مجرد رأى واقتراح، لا حكم يمنع القانون التعقيب عليه - بالحزب الوطنى، ويسمى ذلك إرهابا فكريا، لمجرد أن ما صدر عن المجلس رأى يتعارض مع الدستور المصرى الذى يكفل المساواة فى الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين،
كما يتعارض مع المواثيق الدولية التى تكفل المساواة كذلك بين الرجل والمرأة، ومنها اتفاقية عدم التمييز بين الرجال والنساء «سيداو»، التى صادقت عليها مصر، فأصبحت تجرى فى بلادنا مجرى الدستور والقانون، ولعل سيادة المستشار يعلم أن القوانين مهما تحصنت، فإنها لا يمكن أن تجيز افتئاتاً على حق طبيعى، ففى ألمانيا النازية أصدر الديكتاتور «هتلر» قانونا يقضى بإعدام من يبثون دعاية مضادة للنازية، وتوعد القانون كذلك من يتقاعس عن الإبلاغ عن تلك الدعاية،
وحدث أن إحدى السيدات قد أبلغت عن زوجها الذى يكره النازى ويكتب أوراقا خاصة بذلك، فقُبض على الرجل وأُدين وأُعدم «تطبيقا للقانون»، وبعد سقوط هتلر قدمت أسرة الرجل المرأة للقضاء بتهمة الوشاية على زوجها، ودفع محامى المرأة بأن ما فعلته لم يكن إلا التزاما بالقانون، ومع ذلك فإن المحكمة أدانت المرأة، إذ اعتبرت أن حماية الأسرة وصون العلاقة الزوجية الطبيعية، أعلى وأولى وأوجب فى الحماية من القانون المتغير.
ويروح سيادة المستشار يورد العديد من المواقف والملابسات الخاصة التى عاناها واختبرها سيادته شخصيا فى عمله القضائى المشرف والطويل، فهو يبتعد مسافرا أياما طويلة بعيدا عن أسرته، وينشغل أيضا ويشرد لُبُّه وهو يعيش معها تحت سقف واحد، باحثا بين ثنايا عقله، وأرفف مكتبته عن حل لمعضلة قانونية ألقاها عمله بين يديه، وقد يحمل قضيته وأوراقه فى أى وقت ليستأنس برأى زميل ذى خبرة ودراية، وهنا أقول: إن خبرة سيادة المستشار ليست هى الخبرة الوحيدة، ومن ثم فمن غير المنطقى تعميمها وتحويلها إلى قاعدة قانونية واجبة وملزمة، وهى فى آخر الأمر «خبرة خاصة»، ولست أريد أن أتحدث عن ظروف آلاف من النساء اللاتى يسافرن ويتحملن المسؤولية ويتخذن القرارات المصيرية وظروفهن الخاصة تسمح لهن بذلك وأسرهن تسمح أيضاً.
هذا ناهيك عن أن ظروف العمل والسفر ووسائل الاتصال وما أصبح متاحا من أجهزة كمبيوتر ووسائل حفظ وتخزين القوانين والموسوعات القانونية والقضايا، قد أصبح سهلا يسير المنال، مما لم يكن يخطر على بال سيادة المستشار إبان بداية عمله بالقضاء منذ نيف وثلاثين عاما.
كما أنه لو كان يصح الاحتجاج بأن المواضعات الاجتماعية لا تسمح بعمل المرأة قاضيا، لما ذهبت المرأة إلى الجامعة طالبة أو أستاذة، وما عملت صحفية ولا مغنية ولا ممثلة ولا قادت طائرة ولا سافرت إلى أوروبا عاملة أو مبتعثة، وما دخلت البرلمان ولا استوزرت، فهذا كله كان هناك من يرى «كسيادة المستشار» أن المواضعات والظروف الاجتماعية لا تسمح به.
أما ما آلمنى وما كنت أربأ بالمستشار الجليل أن يقوله ويتورط فيه، فهو قوله إن أمر تعيين المرأة فى القضاء، مسألة «مظهرة» يقوم بها ويشجعها كل من يحاول إرضاء السلطة، ويحرص على مصلحته الشخصية، حتى ولو على حساب مصلحة القضاء ومصلحة الوطن، هكذا وضع سيادته الجميع فى سلة واحدة، بل واتهمهم اتهامات تسوقهم إلى النيابة أو تفقدهم الاعتبار فى أحسن الأحوال، والحق أننى ما كنت أحب أن يقول المستشار الذى تعودنا أن يزن كلماته بميزان الذهب، مثل هذا القول الذى لا يصدر إلا عن الغوغائيين والمتهافتين، أصحاب الأفق الضيق والنظر القصير.