سافرت إلى أبوظبى لتسلم جائزة الشيخ زايد فى التنمية وبناء الدولة فوجدت نفسى غارقا من أخمص قدمى حتى ناصيتى فى حديث عن البرادعى، كنت أعتقد أن جلساتى مع الأصدقاء ولقاءاتى مع عدد من كبار المفكرين والمثقفين العرب لن تنجر إليه، أو ستمسه من بعيد، بل أدهشنى أن بعض العلماء من أوروبا وأمريكا، من بين الذين دعاهم القائمون على الجائزة للمشاركة فى حفل توزيعها، سألوا عن فرص البرادعى، وتمنى بعضهم لو انتهى إليه الأمر.
المثقفون العرب يهتمون بقضية البرادعى لأنهم يدركون أن مصر إن تغيرت إلى الأفضل تحسنت أحوال الدول العربية جميعا. والمستشرقون لا يفوتهم أن يبدوا اهتماما بأوضاع «أم الدنيا»، ومستقبل رجل يعرفونه جيدا. لكن كلامهم لم يكن بالحرارة والعمق الذى اتسم به حديث شباب مصر ورجالها على اختلاف مستوياتهم الثقافية والمهنية عن مسار البرادعى ومصيره.
قلت لهم فى البداية: كيف ترون مصر من هنا؟ فقالوا: بلدا كبيرا وعريقا وإدارة صغيرة ومرتبكة وفاسدة ومستبدة. فقلت بهذا نكون قد اتفقنا على الأساس، وسألتهم: هل تعتقدون أن البرادعى قادر على ضبط هذه المعادلة المختلة؟ فأجابوا: نعم، نثق فى قدراته، ونطمئن إلى نواياه، ونعول عليه، ولدينا استعداد كامل لمساعدته، فإن أقروا حق تصويتنا فستذهب إليه أصواتنا إن ترشح ولغير مرشح الحزب الحاكم إن لم تترتب الأوضاع أمام ترشيح البرادعى للرئاسة.
ولو ناضل الرجل من أجل تهيئة المناخ فى سبيل أن تتمتع الانتخابات المقبلة بدرجة تنافسية ملائمة ومعقولة ومشابهة لنظيرتها فى البلاد الديمقراطية، فسنناضل معه من هنا، كلُُُُُ على قدر طاقته، ووفق ما هو متاح، وحسب الدور الذى يحدده هو لنا.
وتناثرت أسئلة فى كل مكان حللت به فى أبوظبى، جميعها يستفسر عن فرص البرادعى ومستقبل النظام الحاكم، وطالبنى هؤلاء بأن أجيب، فلبيت طلبهم بقدر ما أسعفتنى قدراتى، لكن الأسئلة كانت دوما أكبر من الإجابات.
فهنا أو هناك نواجه حالة غموض شديد، ونقصا فى المعلومات، وضبابية فى الرؤية، جراء إصرار السلطة على أن تجعل الشعب آخر من يعلم، وإلا ما هللت أقلام وحناجر بمجرد عدم إخفاء نبأ العملية الجراحية التى أجراها الرئيس مبارك فى ألمانيا قبل أيام.
ورغم أن الجميع يعرف ذلك إلا أن شبابنا ورجالنا فى الغربة لا يضيعون فرصة الحديث عن آخر المستجدات فى بلدهم مع أى قادم إليهم من أرض النيل، حتى ولو قال لهم ما يدور فى أذهانهم.
فالدافع هنا ليس الوقوف على الحقيقة ولا الحصول على معلومات صائبة، بقدر ما هو التعبير عن الهواجس والمخاوف حيال مستقبل مصر، وإبداء الرغبة القوية فى التغيير، إلى درجة أن بعض من تحدثت معهم، يرهن رجوعه إلى مصر من عدمه بنجاح تجربة البرادعى.
كل من تحدثت معهم يضعون أيديهم على قلوبهم خوفا من «توريث الحكم» ويرون أن هذا سيناريو كارثى، ويعتقدون أن البرادعى لو نجح فى إجهاض هذا المسار، فيكفيه ذلك، حتى إن لم يتعدل الدستور، وتقطع الدولة شوطا أوسع فى طريق «المدنية».
أحدهم قال لى من دون مواربة: «لو جاء جمال إلى الحكم سأظل هنا حتى ألاقى ربى». وصمت برهة ثم استطرد: «لست عضوا فى حزب معارض ولست ناشطا سياسيا على أى مستوى، لكننى أدرك أن جمال امتداد لأبيه حتى لو تشدق بأقوال خادعة عن الفكر الجديد.. سياسة الأب جعلتنى عاطلا فى بلدى رغم حصولى على شهادة مرموقة، ولم يكن هناك بد من الهجرة والغربة، والأفضل أن أبقى هنا لو ورث الابن أباه».
وسألنى آخر: ما هو حجم فرصة البرادعى؟ فأجبته: البرادعى هو الذى بوسعه أن يحدد هذا الحجم، جميعنا يعرف أنه رجل شجاع وعنيد وذكى، وعلى قدر إرادته تكون فرصته. فسأل ثالث: هل تعتقد أنهم سيؤذونه؟ فأجبته: البرادعى شخصية دولية شهيرة، لم يرب فى حجورهم وتمرد عليهم، فيمكنهم أن يأمروه أن يعود إلى حظيرتهم فيرجع خائفا مرعوبا، كما أن سجله مشرف ونزيه، والإعلام العالمى يتابعه، وقضيته عادلة وعاقلة: فالدستور الذى يمنع رجلا فى حجم البرادعى من الترشح للرئاسة إن أراد هو دستور معيب، والعالم بدأ يفهم هذا ويتفاعل معه، ومناصروه مرشحون للزيادة دوما.
وتدخل رابع: معرفتنا بسلوك النظام الحاكم فى مصر تقول: إنهم لن يتركوا البرادعى يمارس عمله بحرية. فقلت له: نعم، لكن لا تنساقوا وراء أقاويل سطحية ومتسرعة من قبيل أن «البرادعى يمكن أن يُسجن بتهمة مخالفة القوانين وإشاعة الفوضى. فالقرار ليس سهلا لأن عاقبته وخيمة.
كما أن البرادعى نفسه يدرك أن النظام لن يستجيب لمطالبه، ولذا فليس أمامه بد من النضال المدنى. وإن رحلة النضال تلك لن تخلو من مضايقات هو مستعد لها جيدا، حسب ما يستشف من تصريحات الرجل وأحاديثه أو ما قاله الذين اقتربوا منه والتقوا به.
ومع تكرار الأسئلة وتعدد الإجابات، تشعب الحديث إلى مسارات موزعة بين السياسة والاقتصاد والثقافة، لكن قضية البرادعى كانت النقطة التى تبدأ منها كل المناقشات وتنتهى إليها. الكل يسأل، والكل يجيب. لكنهم جميعا ينتظرون الإجابة الشافية الكافية من البرادعى نفسه، وليس من أى شخص آخر.