قبل دقات الواحدة بعد منتصف الليل بربع ساعة تبدأ «أم عادل» فى إعداد حقيبتها اليومية، ومحتوياتها البسيطة من بيض وخبز وزبادى وعصائر لزوم السحور، وفى يدها مصحفها العثمانى الكبير، وتستند على حفيدتها فى رحلة يومية إلى المسجد، تعبر بوابة جامع النور فى العباسية ومن بعدها حديقة خضراء تفصل مكان صلاة الرجال عن النساء، لتنضم إلى عدد من السيدات يجلسن فى صفين إلى جوار الحديقة، وكل منهن تحمل حقيبة مماثلة للتى تحملها أم عادل..
تنظر أم عادل لهن وتعتقد أن غرفة الصلاة الموجودة فى الطابق العلوى قد امتلأت عن آخرها، فاضطرت السيدات إلى افتراش الحديقة للصلاة، وتطلب أم عادل من حفيدتها «نجلاء» الصعود للتأكد من عدم وجود مكان بينما تنتظرها هى فى الحديقة على أحد الكراسى.. تسألها إحدى السيدات عن موعد بداية صلاة التهجد، خاصة وأن الساعة تقترب من الواحدة والربع، وترد عليها أم عادل: خلال دقائق.
هذا الطقس الذى اعتادته السيدة الستينية منذ سنوات، حيث تتوجه إلى المسجد فى العشرة أيام الأخيرة من شهر رمضان للاعتكاف فيه حتى رفع المؤذن لأذان الفجر.
دقائق وتعود نجلاء إلى جدتها لتخبرها بأن المكان بالأعلى به صف واحد فقط، فتميل «أم عادل» على إحدى السيدات الجالسات إلى جوارها لتسألها «ليه محدش بيصلى فوق رغم أن الجامع صف واحد بس؟»، فتجيبها جارتها بتلقائية شديدة «الجو هنا هوا عن فوق، وكمان عشان نكون شايفين السما يمكن تظهر علامة من علامات ليلة القدر».. تقتنع الجدة بحديث «أختها فى الله» كما أطلقت عليها، وتطلب من حفيدتها البقاء بجوارها لأداء صلاة التهجد.
تفاصيل المشهد السابق تتكرر تقريباً مع كل المترددات على المسجد للاعتكاف وصلاة التهجد، فأغلبهن سيدات مسنات جئن بصحبة أولادهن أو أحفادهن للاعتكاف، حريصات على إحضار كل مستلزماتهن حتى لا يضطررن للعودة إلى المنزل قبل صلاة الفجر، يبدأ إمام المسجد فيقول «ساوو بين صفوفكم» فتبدأ السيدات على اختلاف أعمارهن فى إحضار كراسى خلفهن وقت وقوفهن للصلاة، يبدو المشهد غريباً،
فالأمر بالنسبة لكبار السن اللاتى غلبن على الموجودات طبيعى فهن لن يتحملن الوقوف وقت الصلاة، ولكن سرعان ما تزول الدهشة مع بداية الركعة الأولى، والتى تستمر لأكثر من ثلث ساعة متواصلة، فالمترددات على المسجد يعرفن جيداً أن الإمام يصلى كل ركعة بجزء أو نصف جزء من القرآن الكريم لذا عملن حسابهن لذلك.
بمجرد انتهاء أول ركعتين تكون الساعة قاربت على الثانية، ينتظر الشيخ دقائق ليلتقط كل مصلى أنفاسه، فتأتى إحدى عاملات الجامع تمر بين الجالسات بأكواب مياه وبعض التمر الجاف لمن يرغب، ولكن فى حقيقة الأمر أن كل سيدة جاءت ومعها زجاجة مياه خاصة بها وعصائر لتروى عطشها بين الصلوات استعداداً للسحور الذى اقتربت ساعاته، فوقتها يتحول المكان إلى مائدة أشبه بموائد الرحمن، الكل يخرج ما فى حقيبته، وإن كان الزبادى هو الوجبة الأساسية لأغلبهن، وذلك قبل الفجر بدقائق بسيطة.
تختلف طقوس الاعتكاف من مسجد لآخر، ففى جامع الباشا بالمنيل تكون صلاى التهجد 10 ركعات فى ساعتين أو أقل، وذلك لاختلاف مدة قراءة القرآن فى كل صلاة، فهناك تستغرق الركعتان أقل من ربع ساعة، خاصة وأن الجامع يحتل مساحة كبيرة تسمح بوجود عدد كبير من المصلين، وإن كان المشهد هناك لم يختلف عن مسجد النور فى مصلى السيدات، فأغلب الموجودات مسنات أيضاً، ولكنهن لا يحضرن معهن أشياء كثيرة، فالصلاة تنتهى قبل الفجر بساعة أو أكثر، مما يسمح لهن بالعودة إلى منازلهم لتناول وجبات السحور، إلا قليلاً منهن اللاتى ينتظرن فى الجامع يقرأن القرآن ويدعون الله حتى أذان المغرب.
تنتظر إحدى السيدات فى استراحة بين أول أربع ركعات مرور عاملة المسجد بفارغ الصبر، ليس فقط لأنها لم تحضر معها زجاجة مياه وتريد أن تروى ظمأها، ولكن أيضا لأنها تقوم بتوزيع أكواب من التمر والكركديه على المصلين، العاملة قالت: «فى ناس بتحب تاخد ثواب، وتجيب مستلزمات العصائر وإحنا نعملها ونوزعها للناس اللى بتصلى، وساعات الجامع نفسه يوزع تمر أو بلح حسب الإمكانيات وعدد المصلين».
ترى عاملة المسجد - التى رفضت ذكر اسمها - أن عدد المترددات على الاعتكاف والتهجد يختلف يوماً عن الآخر، وذلك لأن هناك من تفضل الحضور فى ليلة وترية للتمتع بليلة القدر والدعاء والصلاة فيها، وهناك من تأتى كل يوم خاصة المسنات للبقاء فى المسجد أطول وقت ممكن بين الصلاة والدعاء، ولكن الإمام يراعى كبر سنهن ورغبة أغلبهن فى تناول السحور وحاجتهن للراحة فلا يطيل من قراءة القرآن فى صلاة التهجد، بينما نظل نحن هنا نتناول السحور يومياً فى المسجد لأنه لا يخل من المصلين والمعتكفين حتى الفجر خاصة فى تلك الأيام الأخيرة تحديدا.