x

فاطمة ناعوت بلبل لبنان الذى طار فاطمة ناعوت الأحد 13-10-2013 21:46


حين خمدَ الجسدُ العليل، دقَّتْ طبولٌ، شقشقتْ عصافيرُ، طارتْ فراشاتٌ، حوّمتْ ملائكةٌ، وانطلقتْ سهامٌ كيوبيدية من قلوب العشاق تسألُ: «هل رحلَ اليومَ عن دياركم بلبلٌ صدّاح؟ ما أفدح خسارتكم أيها الساكنون أرضَ الفقد! إنّا حملنا الجسدَ الواهنَ إلى حيث عالم أجمل من عالمكم! فاحزنوا ما طابَ لكم الحَزَن، واصنعوا بلابلَ جديدة تواسيكم! بلبلُ دياركم الراحلُ عنكم، تمنّى علينا أن ينهارَ الجسدُ فوق مسرحكم الأرضى، وهو يُغنّى، مثل فارس يطلبُ الشهادةَ فى ساحة الوغى، أو باليرينا بولشوى ترفضُ أن ينام الجسدُ الراقص نومتَه الأخيرة إلا بعدما يَخفُتُ صدى آخر نغمة فى (بحيرة البجع) أو (كسّارة البندق) أو (جيزيل). لكننا رأينا أن نحمل الجسدَ ليحيا، لا ليموت، فوق خشبة مسرح سماوى، جمهورُه نورانيون، لا يعرفون سوى الحب. تركناه لكم اثنين وتسعين عامًا، وحان الوقتُ لنستردَّه ونسعدَ به فى عليائنا، مثلما ابتهجتم به فى دنياكم. اطمئنوا أيها الأرضيون على وديعتكم التى نحملها فوق أجنحتنا صوب السماء. فعندنا فى الفردوس، ننتخبُ الأرواحَ الجميلة، لتسكن ديارنا الأبدية، وننتخبُ الأصواتَ العذبة، لتُطوّفَ على شواطئ أنهارنا الكوثر، حاملةً قيثاراتِها الفرعونيةَ وحناجرَها الذهب، فتُبهجُ المؤمنين. فقيدُكم هو مِنحتُنا منذ اللحظة. فإن مَسَّكُم شوقٌ إليه، مُدّوا أعناقَكم نحو السماء، وأصيخوا السمعَ، وأنصتوا إليه يشدو فى رحاب الصالحين».

طار الكروانُ الجميلُ الذى لن تجودَ الحياةُ بمثله، إلا بعد دهورٍ طوال، علينا أن نحياها صامتين عن الغناء، بعدما سكتَ الطائرُ المُغرِّدُ، ليهرب إلى حيث تفرُّ العصافيرُ إلى عالم أنقى، فلا تعودُ أبدًا إلى عالمنا الذى يسكنُه الشقاقُ والتناحرُ والظُّلمُ. أسمعُ الآن ديارَ لبنانَ، ودورَها وربوعَها وضِياعَها وجبالَها، وأسمع الأكواخَ الصغيرةَ على ضفاف النيل، تسألُنا: «راحوا فين حبايب الدار؟»، فلا نعرفُ أن نُجيب.

ذات مساء، أمسكَ العودَ ورنّم: «الليلُ يا ليلَى يُعاتبُنى/ ويقولُ لى: سلِّمْ على ليلى/ الحبُّ لا تحلو نسائمُه/ إلا إذا غنّى الهوى ليلى»؛ فتمنّت كلُّ البنات أن يحملن اسم: «ليلى»، حتى وإن غاب «قيسٌ» فلا يكتب الشِّعرَ فى عيونهن وجدائلهن.

رحل الكبيرُ الذى نِصْفُه لبنانىٌّ، ونِصفُه مصرىّ، وبقيةُ أنصافه، إن كان ثمة، فرنسيةٌ وبرازيلية، لا أعرفُها. رحل الذى جمع صوتُه بين الجبيلة والحنوّ! كيف فعل؟ قلّما يجتمعان! رحل بعدما قال: «إذا مصرُ قالتْ: نعم، أيّدوها/ وإن أعلنتْ لاءَها، فاسمعوها»؛ فأيدنا المحبّون، وسمع لاءاتنا الثوريةَ الجميعُ.

رحل بعدما ترك لنا هرمًا هائلا من النغم العذب. فنَمْ، يا وديع الصافى، ملءَ جفونك عن شواردها، بقدر ما منحتنا من بهجة وشجن، حين شدوتَ للحُبِّ والفقد، والأوطان.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية