«هل تعرف ما مصير الحكايات التي لا نكتبها؟..
إنها تصبح ملك أعدائنا».
ربما يصلح هذا الاقتباس من رواية «أعراس آمنة» لإبراهيم نصر الله مدخلا لهذا الجدل المتجدد حول حقيقة ما جرى في 6 أكتوبر 73. فبين الرواية المصرية، التي تنتهي إلى أنه نصر مبين لنا، تمكن الإسرائيليون من إيجاد رواية موازية صورت الأمر ككل على أنه هجوم مباغت من المصريين تم حصره وإجهاضه، وانتهت الحكاية.
وبين الروايتين (حقيقتنا ومراوغتهم).. مسافة شاسعة تختصر جانبا كبيرا من أزمتنا.
فحين قدم المشير الجمسي - رحمه الله - مذكراته عن حرب أكتوبر ابتدأ بأنه كتبها بعدما لاحظ في عدة محافل ولقاءات وندوات كم الأسئلة، التي يلقيها عليه الجمهور، والتي تعكس عدم معرفة حقيقية بمجريات أكتوبر 73، فضلا عن انطلاق بعض الأسئلة من منصة القناعات، التي صكها ونشرها الإسرائيليون عن الحرب، وتلقفناها نحن دون تدقيق أو تحقيق، لاسيما في ظل غياب روايتنا الذاتية عما جرى.
وهنا مناط الأمر، بين رواية إسرائيلية مدعومة معلوماتيا، ومدفوعة بكم دعاية مهول، وتأصيل علمي «ملفق» في دوائر معارف عسكرية ومواقع أجنبية، وبين روايتنا المنقوصة والمبتسرة واللا كاملة.
وهو الأمر الذي يمكن أن نلحظ امتداداته الآن.
ففي السادس من أكتوبر هذا العام، كرر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي لوسائل الإعلام العربية أفيخاي أدرعي، مفردات ومرتكزات الرواية الإسرائيلية عبر حسابه الشخصي على موقع تويتر، قائلا: «بفضل شجاعة قواتنا نجح جيش الدفاع في صد الهجوم، وتحويله إلى هجوم مضاد فعال. نجح في إبعاد الحرب عن حدودنا، مدننا وقواعدنا إلى داخل أراضي العدو»، وجاءت هذه التغريدة بعد التعليقات اللاذعة، التي تلقاها من مصريين شماتة وسخرية فيه، وفي «جيش الدفاع»، الذي «تعلم من الماضي» وفقا لما ذكره أفيخاي في تغريدة سابقة!
وهنا لا بد أن أتذكر قبيل نحو 10 سنوات تقريبا، حين حضرت ندوة في كلية الآداب أدارها د.رشاد الشامي، رئيس قسم اللغة العبرية آنذاك بالكلية، وقد عمل «الشامي» مترجما في حرب أكتوبر لإشارة الجيش الإسرائيلي، التي اخترقناها بكفاءة.. وقال لنا «الشامي» يومها في هذه الندوة الممتعة - خلافا لطابع الندوات والمؤتمرات- إن معظم ما ترجمه على الجبهة كان أشبه بمحاضر انهيار نفسي للجنود الإسرائيليين.. مجرد غمغمات مذعورة، وصراخ أهوج، واستغاثات وتخبط وبكاء.. وهو ما جعل «الشامي» ورفاقه حينئذ في حيرة من أمرهم في نقل كل هذا الصراخ في محضر عسكري رسمي يتم رفعه للقيادات العليا للجيش المصري.
وللأسف بفعل تراكمات كثيرة من انعدام الثقة بين المواطن المصري وما يبثه الإعلام الرسمي في كثير من الأحيان، أصبحت رواية الإعلام الإسرائيلي في كثير من الأحيان على درجة من الحجية والمقارعة بقدرتها على المراوغة في المسافات الواقعة بين سطور روايتنا، لا بنقلها الحقيقة الخالصة أو خلافه. إنهم ببساطة يرتعون فيما لم نسده نحن.
فبعد 40 عاما على هذا النصر الجليل، ما زلنا متخبطين، ولا نعرف تحديدا ما الذي جرى على كل المستويات. ربما كان الأمر رهين خلاف وجهات النظر بين قادة النصر أنفسهم، الذي انتهى بانسحاب رئيس الأركان الفريق سعد الدين الشاذلي، وتقديمه استقالته بعد خلافه مع الرئيس السادات، رحمه الله، وربما كان خاضعا لحساسية نشر رواية دقيقة، ربما ستخصم من رصيد بطولة طرف ما لحساب طرف آخر!
وشاهدنا جميعا على مدار أعوام مبارك الـ30 كيف تم اختزال الحرب في شخص مبارك، وفعل الضربة الجوية، وكأن شيئا سواها لم يجر، وكأن شخصا غيره لم يحارب.
وراكمت هذه الفجوة المعلوماتية والنفسية في أذهان أجيال أن شيئا لم يجر غير ذلك، وللأسف لم يسد هذه الفجوة غير المصادر المتاحة على شبكة الإنترنت باللغة الإنجليزية، التي تطرح الرؤية الموازية، والتي تجيب عن تساؤلات جيل كامل لم يعرف شيئا عما جرى.. ولا عرف آباؤه- على وجه الدقة- كل ما جرى.
فقد طرح الجانب الإسرائيلي خسائره البشرية والمادية في مقابل الخسائر المصرية، وأعاد استنطاق الأحداث والتواريخ والمجريات لتبدو مصر قد دخلت في مغامرة انتهت بفشل تمثل في ثغرة الدفرسوار، وهو ما يناقض ما جرى استراتيجيا، وعلى أرض الواقع من الأهداف، التي رصدتها مصر للمعركة بالأساس.
ربما نحن الآن بمسيس الحاجة لاستصدار قانون يتيح الإفراج عن وثائق أكتوبر وحقائقها، بل كل وثائق العسكرية والدبلوماسية المصرية، كي نعرف ما الذي جرى فعلا، بدلا من أن تظل حبيسة الأدراج لحسابات لم تعد موجودة أو مجدية، أو لم يعد طرف مستفيدا منها.
ربما في مذكرات المشير الجمسي، رئيس هيئة العمليات آنذاك، وفي مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان الجيش حينئذ، تفصيل داحض للرواية الإسرائيلية ملوية العنق، إلا أن المنطلق في التوثيق بين الاثنين كان مختلفا تماما.. اختلاف في المقدمات غلف جسم الشهادتين- على دقة إيراد المعلومة العسكرية فيهما- بغلاف غير الآخر، وبدا أن العنصر الشخصي لدى الشاذلي - رحمه الله- أطغى، واعتبر محبوه أن رواية الجمسي وقائية اختارت أن تراوغ أو ألاّ تعرج على ذكر بعض النقاط الخلافية.
وهنا أود اقتباس رواية بسيطة كتبها الدكتور خالد فهمي، رئيس قسم التاريخ بالجامعة الأمريكية، في جريدة الشروق قبل 5 شهور، عن واقعة جرت له منذ عشرين عاما أثناء إعداده رسالة الدكتواره الخاصة به، ربما ستعكس لنا كيف ينفرد الإسرائيليون بالمعلومة، أو التلفيق، وكيف نجلس نحن في العراء بلا شيء: «توسط لى أحد الضباط الكبار (وكان برتبة لواء) وذهبنا سويا لمقر المخابرات العسكرية بمصر الجديدة، وخضعنا سويا لاستجواب طويل.
س: عاوز تصريح مكتبة المتحف الحربي ليه؟ ج: علشان باحضر رسالة دكتوراه عن جيش محمد علي. س: إشمعنى الجيش؟ ج: علشان ممكن من خلاله أن أدرس أحوال المجتمع المصري من ميه وخمسين سنة. س: المكتبة فعلا فيها كتب قديمة عن جيش محمد علي، ولكن أغلبها كتيبات تدريب قديمة ما لهاش قيمة. ج: دي مصادر أولية فريدة في أهميتها، وعلشان كده تحديدا عاوز أطلِع عليها. س: الكتب دي بالعثماني وصعب قراءتها. ج: أنا أتعلمت شويه تركي، وأظن إني ممكن أقراها. س: اتعلمت تركي فين وإمتى؟ فما كان من الضابط واسطتي أن فقد أعصابه صائحا: هو إنت فاكره جاسوس عثماني؟!».
***
ربما من الحري بنا أن نطلع على تاريخنا من وثائقنا ودفاترنا، لا أن نراهن على قوانين الإفراج عن الوثائق في واشنطن وتل أبيب، لنعرف كيف حارب وحورب آباؤنا وأجدادنا.