دور عديدة، بدءا من المسنين حتى السجون تميزها لمة رمضان والإفطار الجماعى، حيث يعوض الشهر الكريم بلمته المقيمين فى هذه الدور عن الشعور بالوحدة، وتوفر لهم الدور وجبات وجواً عائلياً، لكن دور المغتربات هى الوحيدة، التى تفتقد هذه اللمة، فالغربة والوحدة والشعور باليتم رفقاؤهن على الإفطار، فلا توجد أسرة فى مصر إلا ويغيب عنها أحد أفرادها، تاركا أسرته، سعيا وراء الرزق أو الدراسة.. وساهمت زيادة عدد المغتربين والمغتربات فى إقامة دور متخصصة.. لإقامتهم فيها.. كل مغتربة لها هدف وطموح تسعى وراء تحقيقه فتكون النتيجة: «بافطر لوحدى من 7 سنين، وأول سنة فى رمضان عدت عليّا كان شعورى إنى عايشة فى ملجأ، ورمضان السنة دى جالى شعور تانى بالوحدة وده شعور بشع بيلازمنى كتير فى رمضان فى دار المغتربات، اللى باسكن فيها».
الأزمة التى تمر بها إيناس عبدالرؤوف - 23 سنة، طالبة فى كلية التربية الفنية جامعة القاهرة - فى رمضان تتكرر منذ 7 سنوات، منذ أن تركت «إيناس» أسرتها فى طنطا، حبا فى الموسيقى ودراستها وحتى تحقق هدفها فيها، فتقول: «درست 5 سنوات فى الجامعة والآن أعمل مغنية فى الأوبرا، ورغم أن دخلى ضعيف منها لكن أهلى بيساعدونى شوية وده عشان عندى طموح لتحقيق النجاح فى المجال اللى بحبه، صحيح بعدى عن أهلى شىء مؤلم بس أعمل إيه؟.. مجالى فى القاهرة».
تواجه «إيناس» بتعليقات عديدة تؤلمها من قِبَل بعض زملائها فى العمل وفى الدراسة لمجرد علمهم بأنها مغتربة، فتقول: كتير أتلقى تعليقات بتضايقنى بس بقالى فترة اتعودت عليها، فإحدى زميلاتى قالت لى: إنتى إيه اللى جايبك القاهرة هو يعنى انتى فى كلية طب عشان تتغربى؟!.. وبصراحة كلامها ضايقنى جدا، وكأن الموسيقى شىء مهمل لا قيمة له وليست له أهمية مع أن كل الناس بتحب الموسيقى وهى علاج روحى وبيسمعوا أغانى إيه العيب فى كده؟!».
«إيناس» لا تجد عيبا فى كونها مغتربة وتعيش فى سكن المغتربات لكى تعامل على أنها منبوذة أو مشبوهة، بل على العكس، ترى أنها مكافحة، رغم ما تواجه من انتقادات، لكنها تحافظ على الحرية التى سمحت بها أسرتها لها فتقول: «بصراحة، عشان مافيش حد يطمع فيّا ويلاقينى صيد سهل عملت لنفسى حدود فى تعاملاتى، وده بيجعل الناس تحترمنى وتعرف انى بنت بميت راجل، مع أن بعض زملائى فى العمل يرون أنى بنت متأخرة عشان مش باتعامل كتير مع ولاد وكأن الاحترام بقى غلط فى الزمن ده، يعنى المفروض أنتشر وأصاحب عشان أراضيهم.. أنا متمسكة بعادات وتقاليد البيئة اللى اتربيت فيها، والناس مايعرفوش أنا عايشة ازاى فى مكان معدوم الإمكانيات مافيش تليفزيون ولا حتى مروحة تطرى الجو الحر ده كأنى عايشة فى العصر البدائى ومش زعلانة من كده عشان ده هو اللى بيصنع النجاح».
«إيناس» يومها فى رمضان يبدأ بعد صلاة الظهر، حيث تجلس لتقرأ القرآن وبعدها، تبدأ تجهيز بعض الأطعمة للإفطار بمفردها ومع أذان المغرب، تفطر بمفردها أو مع إحدى زميللتها وتذهب إلى عملها فى الأوبرا من السادسة مساء وحتى التاسعة وأحيانا، تعمل صباحاً حسب البروفات، وتقول: بفطر دايما لوحدى فى غرفتى، يوم بطاطس ومكرونة ويوم كفتة ورز على حسب الميزانية وأحيانا، اللى موجود بيقضى هو الواحد بيفطر أصلا؟!، ولما باكل لوحدى بتصعب عليّا نفسى وكتير بافطر مع زميلتى فى الغرفة بس ده مش بيعوضنى عن اللمة وسط أهلى وبافرح فى اليوم اللى بانزل فيه أزورهم وافطر معاهم، ورغم كل ده بس الناس مش بترحم ودايما يطلعوا إشاعات على المغتربات وكأنهن مشبوهات.
لا يختلف يوم «إيناس» كثيرا عن يوم داليا عبدالله، 25 سنة، صحفية بإحدى الصحف الخاصة، من محافظة الإسكندرية، مغتربة فى القاهرة منذ 5 سنوات هى مدة دراستها فى كلية الإعلام طوال إقامتها ببيت الطالبات المغتربات بالدقى.
فى بيت الطالبات المغتربات بالدقى، وقفت «داليا» تتذكر كيف قضت أربع سنوات فى هذه الدار هى سنوات دراستها وأنها كانت تفطر كل عام فى رمضان مع زملائها وكيف كانت تفتخر وسط زملائها بأنها تقيم فى بيت الطالبات، الذى مثلت فيه الفنانتان نيللى وماجدة الخطيب فيلم «بيت الطالبات» فى فيلا كبيرة محاطة بالزهور ونباتات الزينة وكيف كانت تجلس فى حديقة الدار مع زملائها، لكن، للأسف، بعد أن تخرجت كان لابد أن تبحث عن سكن آخر حتى تستطيع أن تقيم فيه، بدلا من بيت الطالبات لكونه لا يقبل إلا الطالبات وهى تخرجت والتحقت بالعمل كصحفية، فتقول: اتبهدلت كتير بعد أن تركت بيت الطالبات فمرة، سكنت فى شقة فى منطقة الهرم مع زميلة مغتربة وكانت صاحبة البيت تقطع الكهربا عنى فى الشقة بالليل عشان توفر.
«داليا» تساعد والدتها فى مصاريف البيت، لذلك ضحت بالاستقرار وسط أسرتها حتى تساعدهم وتحقق طموحها فى أن تكون صحفية ناجحة وبعد أن انتقلت من شقة لأخرى استقر بها الحال لتسكن فى شقة مرخصة تابعة للشؤون الاجتماعية كدار مغتربات لتقيم فيها منذ سنة: «هى شقة غير آدمية، السرير غير مريح وما فيش إمكانيات بس انا مرتاحة فيها عشان اسمها دار مغتربات أحسن من الشقة وكمان الست صاحبتها قاعدة معانا وبتشرف علينا بس المشكلة هى حرمانى من كل وسائل الراحة والتهوية، حتى إننى أرى الحشرات تزحف بجانبى، رغم رش المبيدات بس خلاص بقوا صحابى اللى بيسلونى، المهم انى فى مكان سمعته كويسة مع بنات تم اختيارهن حسب أخلاقياتهن والتزامهن ودى شروط البنت، التى تقيم فى دار المغتربات وتصر عليها صاحبة الدار، فضلا عن عدم التأخر عن مواعيد البيت».
«داليا» تتمنى أن تتزوج حتى يصبح لها بيت مستقر وترتاح من عيشة العزوبية وتحتمى بالزواج من نظرة الناس لها كمغتربة وكطامعين فيها على أساس أنها مغتربة وليس لها أحد فى القاهرة، فتقول: سكن المغتربات مرحلة مؤقتة لحد ما ييجى ابن الحلال اللى يرضى بمغتربة وللأسف كتير مش بيرضوا يجوزوا واحدة مغتربة مش عارفة ليه كأنها مش بنى آدم مع إنها بنت ناس بس بتكافح عشان تحقق هدف ليها وكمان تساعد أسرتها فى تجهيز نفسها».
وتحكى «داليا» عن موقف تعرضت له من العريس، الذى تقدم لها: «تقدم لى عريس، ضابط شرطة، واتفقنا على الزواج وبمجرد أن علمت والدته أنى مغتربة قبل أن ترانى، رفضتنى وأصرت على عدم الارتباط والسبب مغتربة كله ده غير بقى نظرة الطمع والاستغلال اللى بشوفها فى عيون شباب كتير بس انا عندى حدود فى تعاملاتى مع الآخرين حتى لا أفهم خطأ وباحترم الحرية اللى منحها لى أهلى فى غيابهم زى حضورهم».
يوم «داليا» فى رمضان كله عمل حتى ساعات الليل: «أعمل ايه باشتغل عشان ماشعرش بالوحدة فى رمضان لأنى بافطر لوحدى وكتير أبكى عشان بعيدة عن أهلى وهما بيحسوا بيّا، فممكن أفطر وجبة كاملة وممكن آكل عيش وطرشى أو فول أوجبنة، وكتير حاولت اطبخ بس لما بجى أكل نفسى بتتسد، عشان لوحدى وبافتقد اللمة وهذا ما يغلب على وجبة إفطارى فى رمضان وأواظب على الصلاة والقرآن فى رمضان بشكل متواصل».
إما إنجى محمد، من أسوان 35 سنة، تقيم فى القاهرة منذ 10 سنوات وتعمل مخرجة فى إحدى القنوات الفضائية، فترفض أن تبوح بأنها مغتربة لأى شخص حتى لا يطمع فيها، خاصة أن الوسط، الذى تعمل من خلاله وسط متحرر، لكنها ملتزمة، وتقول: «كثير تقدموا لى بس بمجرد علمهم أنى أسكن شقة بمفردى وأنى مغتربة، يعيدون تفكيرهم وهذا ما يضايقنى أن العالم اتقدم والعقول زى ما هى متأخرة، وفى رمضان بافطر فى شغلى وأحيانا مع صديقاتى وتكون وجبات جاهزة وخلاص تعودت على الغربة عشان مجالى مش موجود إلا فى القاهرة بشكل واسع».
وتقول إنجى إن أحد أسباب اغترابها هو أنها تساعد أهلها، كما أن شقيقها عاطل عن العمل وهى تتولى مسؤولية أهلها مكانه لأنه تخلى عنهم وكمان هو يضايقها فى البيت، لذا فضلت الابتعاد عنه وعن أسرتها وتساعدهم من بعيد لبعيد ببعض المال.
أما عفاف أحمد، 29 سنة، الباحثة بكلية العلوم قسم الطاقة النووية، فتركت قريتها فى محافظة سوهاج لتقيم بدار مغتربات، سعيا وراء حلم لها بأن تصبح عالمة فى الطاقة النووية، حصلت على الماجستير وتعد حاليا للدكتوراه تقضى رمضان بمفردها، حيث تقيم بدار مغتربات، تقوم بإعداد وجبة الإفطار لنفسها وتأكل بمفردها.. تقول: أنا متحملة الوحدة والغربة وقسوتها عشان احقق هدفى فى الحصول على الدكتوراه والتفوق، صحيح الفطار لوحدى شىء مؤلم بس تعودت عليه بقالى عشر سنين بافطر لوحدى وأحيانا مع زميلتى فى الدار بس الغالب لوحدى لأن معظم دور المغتربات تجمع فتيات طباعهن مختلفة عن بعضهن، كل حسب تقاليدها وعاداتها وده بيأثر بشكل كبير على تعاملاتهن عشان كده بتحصل خلافات بينهن».
وفى جمعية دار شباب المسلم بشبرا، وهى دار للمغتربات يتبعها مسجد ودار تحفيظ قرآن، ووحدة رعاية صحية لتقديم الخدمات، هنا تقيم رضا رجب، مصححة لغة عربية من المنوفية، تروى سنوات غربتها، قائلة: «ثلاث سنين هى سنوات غربتى وإقامتى فى القاهرة، جيت القاهرة عشان الشغل فيها كتير ومتوفر عن الأقاليم ومافيش شغل فى بلدى وعشان أساعد عائلتى».
وعن يومها فى رمضان، تقول رضا: «أول يوم فى رمضان بيكون يوم حزين بالنسبة ليّا لأنى بافطر بعيد عن أهلى وهذا حدث معى لدرجة أن عينى دمعت، عشان كده مش هافطر أول يوم فى رمضان تانى لوحدى، يبدأ اليوم فى رمضان الصبح باروح الشغل واجى بعد الظهر الساعة 4 عصرا أحضر فطاراً لى أنا وأختى فاطمة التى تقيم معى بنفس الدار وهى مهندسة كمبيوتر والفطار بيكون حسب إمكانياتنا وظروفنا، وبعدين، نقرأ القرآن ونصلى التراويح ونقضى كثيراً من ليالى رمضان مع بنات الدار فى الحديث والهزار وحكايات البنات فى صالة الدار وبعدها، ننام ونقوم بعد ساعتين أو ثلاث نتسحر ونصلى الفجر».
لا يختلف يوم آيات محمد، 24 سنة من مدينة طنطا، مصممة جرافيك، عن يوم «رضا» وشقيقتها «فاطمة»، حيث تقيم فى دار مغتربات جمعية شباب المسلم منذ 7 سنوات منها 5 سنوات دراسة فى كلية فنون جميلة وعامان فى العمل مصممة جرافيك.
«آيات» تقضى أول أيام فى رمضان مع أسرتها فى بلدها وتقول: «صعب أول يوم افطر لوحدى فى رمضان عشان كده بافطر يومين مع أهلى والباقى فى الدار لوحدى فى غرفتى وممكن مع زميلتى نطبخ أو نشترى أكل جاهز أو نقضيها بأى حاجة».
أكثر شىء يضايق «آيات» الانتقادات، التى واجهتها فى بداية إقامتها فى القاهرة وإلى الآن تستمع لبعضها، تقول: تعليقات من بعض زملائى فى الكلية والشغل بتضايقنى، منها تعليق لزميلة قالتلى إيه اللى جايبك لوحدك هنا ولو كانت كليتى فى آخر الدينا اهلى عمرهم ما كانوا هيسيبونى ويبعدونى عن حضنهم.. كلام زميلتى ده خلانى حسيت ان أهلى رمونى مع أن قرار الاغتراب ده قرارى عشان القاهرة الشغل فيها مجالاته واسعة، بعكس طنطا الشغل فيها محدود وقليل وبعدين، مافيش بنت عايزة تبعد عن أهلها بس عشان تحقق طموحها لازم تضحى.
آمال مصطفى، مشرفة الدار، كثيرا ما تعلقت بالفتيات النزيلات، لكنها تعودت على الفراق، تحكى: أغلب الفتيات اللائى يتركن الدار بعد انتهاء الدراسة يعدن إليها مرة أخرى للإقامة أو تحضير دراسات عليا وعدد منهن يأتى لزيارتى والدار تقدم خدمات لهن فى رمضان من ندوات وحفلات دينية وفى غير رمضان، تقدم حفلات وأعياد ميلاد لهن، بالإضافة لتقديم رعاية صحية والاستماع لمشاكلهن وهذا دور أقوم به وأقدم لهن النصح والإرشاد، وكثيرا ما نرأف بظروف الفتيات اللائى لا يستطعن دفع إيجار الدار بعمل استثناءات لهن وكثيرا ما أمنع فتيات من مستويات عالية أن يقمن مع فتيات من مستوى اجتماعى منخفض وذلك منعا للخلافات والإحساس بالدونية، وعن الإفطار فى رمضان فى الدار، قالت إن الجمعية كانت تقدم وجبات إفطار للمغتربات، لكن منذ فترة توقفت عن ذلك لضيق الظروف الاقتصادية.