لا شيء يوجع قدر أن ننسى أو أن نتذكر.. صاحب «فساد الأمكنة».. يفضح دون أن يقصد فسادنا نحن، بتجاهل من يفضل الصمت، بحثا عمن يفضل الضجيج، أن نسقط - سهوا وعمدا- من فضل التجريب والتجديد واختيار أرض غير مسبوقة للكتابة، بحثا عمن يعيد إنتاج الكتابة بمقاييس علب التونة، وجبة مضمونة وسابقة التعليب لا تضايق أحدا، وتحظى بتصفيق جمهور كسول.
كتابة تستكشف غير المطروق، وتغامر بجدية ضد نظام العلاقات السائدة فى المجتمع، وكشف زيفها وتناقضاتها عبر شخصياتها الملتبسة، كما أنها لا تكتفي بالرواية إلى السينما بل تنفتح على فنون أخرى، فمدرس الرسم السابق الذي ولد في دمياط كتب سيناريو فيلم «البوسطجي»، أحد أهم أفلام السينما المصرية، وكتب أدب الرحلات، وعمل بالصحافة، ونال عدة جوائز من بينها جائزة«بيجاسوس» الأمريكية عام 1978 التي تمنح للأدب غير المكتوب باللغة الإنجليزية، وآخرها جائزة الدولة التقديرية عام 2003.
يقول عنه الناقد د.غالي شكري إن صبري موسى يبحث في صبر وأناة وجمال عن رؤى تخترق أحشاء الواقع، فتصل إلى نبوءة جمالية عميقة لأخطر الهزائم وأبقاها في كياننا الروحي.
جمعت «المصري اليوم» شهادات كتبها أدباء من أجيال مختلفة عن الأديب الكبير، للكتاب: إبراهيم عبدالمجيد وأحمد أبوخنيجر والطاهر شرقاوي ومحمد ربيع ومحمد علاء الدين وأحمد ندا وآدم مكيوي.
إبراهيم عبدالمجيد: موسيقى هادئة تراها
- هل تعرف صبري موسى؟
- طبعا أعرفه.
- هل قرأت له؟
- قرأت له فساد الأمكنة وحادث النصف متر منذ سن مبكرة ثم السيد من حقل السبانخ. روايات مهمة على جبين الرواية العربية. وقرأت له قصصا وحكايات مثل مشروع قتل جارة وحكايات صبري موسى ومئات المقالات في مجلة صباح الخير ورحلات وأعرف عنه أكثر مما تعرف أنت.
- كيف؟ قل لي.
- رأيت له أفلاما رائعة في تاريخ السينما المصرية والعربية . الشيماء وقنديل أم هاشم والبوسطجي والقادسية ورغبات ممنوعة وغيرها.
- ما الذي جعل صبري موسى يتوزع بين هذه الفنون في رأيك؟
- صبري موسى من الجيل الذي فهم الفنون على حقيقتها باعتبارها تجليات لنشاط الإنسان، وليست وظيفة يقوم بها. ومن ثم هو يمشي وراء مواهبه. صبري موسى من الجيل الذي تعلم قبل ثورة يوليو 1952. جيل الليبرالية المصرية التي كانت تولي وجهها عبر البحر المتوسط فتعرف التسامح وتعرف أن الآفاق مفتوحة أمام الجميع فلم يقف في وجه أحد كما فعل الكثيرون من أنصاف الموهوبين الذين تعلموا في سنوات النظام الأحادي النظر وزادوا الطين بلة فاستعانوا بما هو وظيفي وأمني أحيانا ليكونوا في النور بينما هم يصنعون الظلام. صبري موسي كان من هؤلاء الليبراليين الذين يؤمنون بقوة الإنسان وعظمته ولا يشغل نفسه إلا بما هو إنساني جميل. وكان دائما واثقا بأن قدراته وثقافته هما مفتاح محبة الحياة له كما أحبها ومحبة الناس كما أحبهم.
- يا إلهي؟ كيف لم أعرف ذلك كله عنه؟
- أنا أعرف ومثلي آلاف لا نراهم لكنهم يسهرون يشاهدون فيلما من أفلامه أو يقرأون كتابا من كتبه.
- وأنت على المستوي الشخصي. بماذا تدين لصبري موسى؟
- أدين له بهذه الحرية قي الكتابة، لكني للاسف لم أتمتع بما تمتع به هو من هدوء. صحيح أنني لا أدخل معارك مع أحد، لكني إذا خرجت من بيتي لا أرتاح إلا بعد عودتي حين أترك نفسي للموسيقى، وحتى هذه لم تعد تكفي للراحة. صبري موسى نفسه موسيقى هادئة. حتى في مرضه لم نسمع منه شخصيا ما يقلقنا. رضا إلهي قل أن تجده في البشر. كان صبري موسى مستغنيا بموهبته وثقافته عن كل شيء والآن مستغني عن كل شيء بالرضا العظيم الذي لا يخص به الله إلا أبناءه العظام.
آدم مكيوي: صبري موسى وهدوء الأمكنة
لا يستوي ما قدمه الأديب والسينارست الكبير صبري موسى ومكانته مع اسمه، فكثيرون ربما يخلطون بينه وبين موسى صبري كاتب السادات الأثير، هناك العديد من الكتاب من جيلي الستينيات والسبعينيات لم يشهد مشروعهم الأدبي الاكتمال ربما بسبب عدم القدرة على التكيف مع الواقع الأدبي والتماهي معه أو ربما بسبب حدة الطباع أو التفرغ للمشاحنات الفكرية أو الهدوء والانسحاب من المشهد كصبري موسى.
على سبيل المثال الكاتب السكندري محمد حافظ رجب صاحب الجملة الشهيرة عن جيله وهي «نحن جيل بلا أساتذة» جملة أغضبت آلهة الأوليمب القاسية، التي كانت تهيمن على المواقع الثقافية وتفتح وتغلق الباب أمام من تشاء.
لم يمتلك صبري مدرس الرسم السابق والصحفي بالجمهورية ثم بـ«صباح الخير» رعونة حافظ رجب، بل بالعكس كان شخصا بالغ الهدوء والنقاء تلقى في بداياته الحفاوة النقدية التي يستحقها وكتب عنه نقاد وكتاب من ذوي العيار الثقيل كيحيى حقي ورجاء النقاش وفؤاد دوارة ولم يكتف بطرق باب الكتابة الأدبية بل اقتحم عالم السينما وحملت أفلام مهمة توقيعه ككاتب سيناريو مثل البوسطجي، قنديل أم هاشم، قاهر الظلام وغيرها.
وعندما كان في موقع المسؤولية كان يحنو على أي موهبة أدبية شابة ويمنحها بلا تردد عضوية اتحاد الكتاب ويقي المبدعين الشباب تعنت وبيروقراطية الموظفين.
صبري بدأ مشواره الأدبي بمجموعة قصص قصيرة ذكر في مقدمتها أنها قصص ذات طابع صحفي مستلهمة من أحوال الناس اليومية وما تزخر به صفحات الجرائد من حوادث... ولكنه لم يكن مصيبا، فهذى القصص كانت تحمل روحا حداثية وعينا التقطت تفاصيل غائبة عن متابع الجرائد التقليدي وأسست للغة كتابة تلغرافية بعيدة عن إطناب واسترسال من سبقوه حتى في اختياره عناوين القصص التي حملت طرافة وتجريبا مثل الرجل الذي ضحك على الحصان- السيدة التي والرجل الذي لم- مشروع قتل جارة ... تتابعت إبداعات صبري مثل حادث النصف متر وهي وراية تحولت لفيلمين سينمائيين بنكهتين ومعالجتين مختلفتين تبتعدان أو تقتربان عن روح الرواية الأصلية، الأول هو فيلم لأشرف فهمي من بطولة محمود ياسين ونيللي والثاني هو فيلم للمخرج الفلسطيني سمير ذكري تحت نفس الاسم وهو فيلم لقي حفاوة نقدية في العديد من المهرجانات.
لموسى أيضاً كتاب أو كتيب بديع من مطبوعات روزاليوسف تحت عنوان «الغداء مع آلهة الصيد» وآلهة الصيد كما يقول موسى في مقدمة كتابه «هم الرحالة الأجانب الذين يجمعون بين الغلطة والمزاح والفضول وحب الحياة». مع آلهة الصيد ينتقل موسى شرقا وغربا ما بين اليونان وباريس والبحيرات المرة حيث يعيد اكتشاف بقعة سحرية من بقاع مصر مصطحبا معه من سماهم آلهة الصيد... درة التاج لموسى كانت رواية «فساد الأمكنة» التي أعادت الشروق طبعها مؤخرا في سلسلة كتابات متميزة وهي رواية حائزة على جائزة بجاسوس البريطانية للأدب غير المكتوب بالإنجليزية.
تلك الرواية التي تتحدث عن علاقة الإنسان بالطبيعة هي رواية متفردة في الأدب المصري تكافئ من وجهة نظري تجربة الروائي الليبي الكبير إبراهيم الكوني وثنوية الإنسان والطبيعة الصماء.. أنشودة الوحدة والطبيعة والصحراء القاحلة علاقة الإنسان بالطبيعة.
يحكي صبري عن ملابسات اختياره عنوان الرواية فيقول إنه هاله ما أحدثته جموع المواطنين من فوضى عارمة يوم شم النسيم عندما تركوا فوارغ الطعام وبقايا الفسيخ في كل مكان وداست أقدامهم الحشائش بلا رحمة وهكذا يفعل الإنسان مع الطبيعة البكر، وهكذا فعل الملك الشبقي وحاشيته الماجنة في نهاية الرواية عندما داسوا على طهارة وعذرية المكان وفضوا غشاء بكارته كما فض الملك غشاء بكارة الفتاة الصغيرة. آخر ما صدر للروائي الكبير -شفاه الله وعافاه- رواية قوية هي السيد من حقل السبانخ عام 1982 وهي رواية تصنف تحت بند روايات الخيال العلمي.. هي تأسيس لنوع جديد لم يقدر له الاستمرار ولم يجد من يتلقفه من الأجيال المتتالية ولم يطرقه إلا أدباء قلائل مثل يوسف عز الدين عيسى ونهاد شريف، ربما مازلنا رغم حداثة القوالب لم نلحق بركب حداثة المضمون.
في ذات يوم من أيام التسعينيات عندما كان صبري موسى رئيسا للجنة تحكيم مهرجان الإسكندرية أخذت نسخة من كتابه «حكايات صبري موسى» الصادر عن الهيئة العامة للكتاب وانتظرته خارجا من عرض أحد الأفلام وكان بصحبة الفنانتين إلهام شاهين وهالة صدقي وكانتا في أوجهما الفني قبل إخناء الدهر.. جريت نحو الثلاثي فاستعدت كلا منهما بوضعية الفنانة التي تنتظر أحد المعجبين لتسلم عليه بطرف أصابعها وتهز رأسها وهي تتلقى عبارات المديح والتقريظ فوقفت لاهثاً أمام صبري موسى طالبا منه توقيع الكتاب لمعت عيناه نظر ضاحكااً للفنانة إلهام شاهين قائلا بهدوئه المعهود: أنا ليّ معجبين برضه يا إلهام.
أحمد ندا: يا باغي الخير أقبل
«لعل عِفَّته المزيفة هذه قد جذبَتْها، قد أشعلَتْ طاقاتها وحفَّزتها للحصول عليه. كان دائما يحلم مع كل منهن بحب نادر وتفاهم يبلغ حد الكمال، لدرجة أن يكون بإمكانهما التحليق معا في سماء الأمكنة جميعا. التحليق الدائم، وليس الانزواء في براثن دفء مكان واحد وأمنه وراحته».
عرفتُ صبري موسى بطريق الصدفة، في أثناء بحثي عن كتاب لمعكوسه «موسى صبري» الذي يحبه والدي بحكم انتسابه للسادات، كانت رواية فساد الأمكنة بمكتبة الأسرة المزينة بصورة لسوزان مبارك- كان من عاداتي المحببة طمس وجه هذه العجوز أحيانا وتخيل ممارستي الجنس معها أحيانا، لكن هذه قصة أخرى- ذهبت إلى أبي بفخر وقلت له «ماكلمتنيش عن الكتاب ده قبل كده؟» ارتبك أبي لدرجة أنه لم ينتبه للاسم على الغلاف، واحتقن وجهه عند رؤية اسم «غالي شكري» وردده عدة مرات، لعل أبي سأل نفسه: «هو موسى صبري شيوعي؟ يعني مسيحي وشيوعي؟».. ينظر أبي ثانية إلى الغلاف الرديء وينتبه للغلطة ويقول لي: «ما انت لو مركز هاتعرف إن ده واحد تاني يا طشط» كنت أنا هذا الطشط منذ أكثر من إحدى عشرة سنة وكان أول لقاء مع صبري موسى.
***
قرأت فساد الأمكنة فلم أستمتع، داهمني قلق وجودي حقيقي عن جدوى الكتابة ومعنى الرواية، خصوصا أنها جاءت تالية لملحمة الحرافيش تلك الملحمة الفارقة في علاقتي بالكتابة ومنها إلى التصوف في رحلة خاصة بها من العطب والتهويمات الكثير.. مع صبري موسى أعادني حيا إلى الأرض بمفردات الخيال، القسوة تعيدني للأرض دائما، وإن كانت سليلة خيالات خصبة..عالمه شديد القسوة مقتصد -عكس الشائع- في بذل المجازات، المجازات كبنية جمالية لم تحضر في هذه الرواية، لكنها الضرورة اللغوية، المجاز ابن الخيال في حالاته الطيبة..هكذا كنت أدرب نفسي على محبة المجاز.. حتى التصوف استُخدم في هذه الرواية، إنه واحد من عيال صبري موسى ويطوعه لخياله الطفلي العنيف.. هكذا كنت أفكر وقد كنت أدرب نفسي على عدم الخوف من صبري موسى، مطيلا النظر إلى جبل الدرهيب من مكاني الآمن في حواري المحفوظ مأمون السرد واللغة والمجاز.
***
إن مئات الخطايا الصغيرة التي نرتكبها بسهولة ويسر في المدينة ضد أنفسنا وضد الآخرين تتراكم على قلوبنا وعقولنا ثم تتكثف ضبابا يغشى عيوننا وأقدامنا فنتخبط في الحياة كالوحوش العمياء. فالمدينة زحام، والزحام فوضى وتنافس وهمجية. ولكنهم في الصحراء قلة، والخطايا الصغيرة تصبح واضحة تطارد من يرتكبها، ويصبح ضبابها على النفس أشد كثافة وثقلا، بينما تحتاج دروب الحياة في الصحراء إلى بصيرة صافية نفاذة لتجنب أخطارها. إن الفضائل تمنحهم قدرة على الصفاء، فيمتلكون حسا غريزيا مشبعا بالطمأنينة، يضيء في عقل البدوي حين يضيع منه الطريق في رمال الصحراء الساخنة الناعمة فيهتدي في طريقه، وتجعل قلبه يدق له إنذارا بالخطر وهو نائم في ليل الصحراء السحري حينما يقترب من جسده عقرب أو ثعبان.
***
قبل عدة أيام انتشر خبر موت حيوان «عروس البحر» النادر على شاطئ سفاجا، وبجهل الواثق قمت بنشر الخبر على فيس بوك غير مصدق للخبر ولا لوجود حيوان يدعى «عروس البحر النادر» إلى أن داهمني أحد الأصدقاء «أنا عمت معاها!» ثم استطرد: «فاكر عروس البحر في فساد الأمكنة؟» قلت لنفسي: «صبري موسى..يااااه» فتحت نافذة البحث في جوجل وكتبت اسم الرجل «صبري+ موسى» فتوالت أخبار حديثة عن علاجه على نفقة الدولة، لم أندهش وقلت «كالمعتاد» طالما أن الرجل لم يتول منصبا ثقافيا لافتا، ولم يكن في صدر المشهد الثقافي الرسمي لفن يُذكر إلا في معاناة مادية أو صحية أو كليهما..
عدْتُ إلى مكتبتي لأبحث عن نسخة «فساد الأمكنة» القديمة لأجدها ممزقة الغلاف، بكتابة بخط عريض ورديء –أظنه لأبي- على الصفحة الأخيرة «يا باغي الخير أقبل» فقلت لعله أنسب الأوقات لقراءة دراسة غالي شكري، غير أني تجاوزت الدراسة وشرعت في قراءة الرواية ثانية.. هذه المرة أردت أن أطيع أبي وأن أقبل على «الخير» محملا بشرور العالم التي اختزنتها طوال أحد عشر عاما تفصل بين قراءتين، هل سأخاف من صبري موسى ثانية؟ أعتقد أني سأخاف أكثر.
الطاهر شرقاوي: نصف متر كافٍ لتحديد مصائرنا
يبدو الروائي صبري موسى مختلفا عن جيله، ليس في الكتابة فقط بل في الحياة أيضا، الأمر يبدو كأنه اختيار شخصي منه، لذا قررأن يمشي وحيدا وبعيدا عن الآخرين، مشغولا بالإنسان فقط، بعيدا عن أى أيديولوجيات أو توجهات سياسية معينة.
لغة صبري موسى محايدة وغير متورطة، متخلصة من كل الشحنات العاطفية، حرة تماما، وهادئة أيضا، وفي نفس الوقت رشيقة، هو من يقودها ويوجهها حيث يريد، ولا يدعها تأخذه إلى طرق غير مسلوكة، ستجد ذلك فى «فساد الأمكنة» و«حادث النصف المتر»، في الرواية الأخيرة تنطلق اللغة حرة راصدة على لسان الراوي قصته والتي من الممكن أن تورط أي لغة أخرى في الوقوع في فخ العاطفية والانفعالات الزائدة.
البساطة هي ما تميز«حادث النصف المتر»، والتي صدرت في طبعتها الأولى عام 1962، نوفيلا صغيرة بشخصيتين رئيسيتين فقط، وأماكن محدودة، هل من الممكن أن يصنع ذلك عالما روائيا؟ هذا ما فعله صبري موسى، طارحا ببساطة صراع الإنسان مع ذاته وأفكاره، من الذي سينتصر في الحرب الدائرة بداخلنا؟ الموروث الذى ننحي طول الوقت تحت ثقله أم الإنسان العصري المتحرر؟ سؤال لم يستطع الراوي أن يحسمه مع نفسه، حتى عندما قرر أن ينتصر للإنسان كان الوقت قد فات تماما.
نصف متر فقط هو ما يلزم لأن يتم تحديد مصائرنا وأقدارنا في الحياة، نصف متر كاف لتشكيل هويتنا ومستقبلنا، في نصف المتر هذا يقابل راوينا حبيبته فى أتوبيس للنقل العام، لتبدأ اللعبة التقليدية بين الذكر والأنثى، بداية من الإغواء إلى الصدام مع الموروث إلى محاولة تخطيه، لماذا ينظر الموروث الاجتماعي إلى المرأة التي فقدت عذريتها باعتبارها آثمة بينما يتغاضى برضا عن الرجل؟ وهل يمكن للماضي أن يشكل مستقبلنا؟ وهل يمتلك القدرة على تقييدنا؟ تحديدا هذا ما تحاول الرواية أن تلمسه، الماضي يتحكم في مستقبلنا بل يشكله، الماضي بكل ما يحمله من أفكار ومسلمات ورؤية للحياة، وفي اللحظة التي ينتصر فيها الرواي على الماضي ويقرر الزواج من حبيبته التي عرفت رجلا قبله، يكتشف أن الوقت غير مناسب، لأنه في نفس اللحظة كان الطرف الآخر قد نبتت بداخله زهرة الحزن السوداء، فقرر تخطي الماضي بقفزة كبيرة إلى الغد مع آخر يبدو أنه قد تحرر من الأثقال التي تكبل الراوي.
الرواية تبدأ بما يشبه الكوميديا السوداء، يذكر الراوي بكل هدوء وبساطة أيضا، أن رجلا طويلا انحنى قليلا وطلب منه باحترام أن يترك حبيبته لأنه سيتزوجها، ألا يذكرنا هذا بما فعله ماركيز بعد ذلك فى روايته «سرد أحداث موت معلن» عندما أفصح في أول سطر أن سانتياجو نصار سيتم قتله اليوم. في الحالتين البداية تبدو مشوقة وباعثة على متابعة القراءة ومعرفة التفاصيل، والمفارقة هنا الكاتبان «أى ماركيز وصبري موسى» جاءا من منطقة العمل بالصحافة، ربما يكون لهذا دور فى لغة صبري المحايدة، وتخلصه من الحشو والزوائد، وهو ما أجاد استخدامه بجدارة في كتاباته، انظر مثلا إلى كتابيه «فى الصحراء وفي البحيرات» وهما نتاج رحلات صحفية لمجلة صباح الخير، لدرجة أن هذه اللغة تخلق منطقها الخاص بها وجمالياتها، بل القدرة على تعرية الواقع.
حادث نصف المتر لا يحمل أبطالها أسماء، في الحقيقة هم لا يحتاجونها، ليس لقلة شخصيات الرواية، ولكن لأنه لا فائدة من حمل اسم، إطلاق اسم سيمثل قيدا على الشخصيات، وربما يحد من قدرة الراوي على السرد، إنه نوع آخر من التحرر، الراوي المنحدر من سلالة أتت عن طريق باشا تركي أعجبته فلاحة فاغتصبها ولما حملت زوجها لخادم عنده، وجندي فرنسي رأى فلاحة فاغتصبها هو الآخر، ولما حملت وجدت فلاحا وافق أن يستر عليها، سيتيح له هذا التاريخ أن يعرض لنا رؤيته للحياة بكل حرية، مراوحا بين تزمت تركي مبالغ فيه وتحرر فرنسي يرى العالم من زاوية مختلفة.
قلت إن صبرى موسى مختلف عن أقرانه، وهو ما يمنحه تلك الفرادة في الكتابة، لم يكرر نفسه في أعماله الإبداعية، فـ«فساد الأمكنة» التي اقتحمت جبال علبة في جنوب مصر لا تشبه «السيد من حقل السبانخ»، وهما بالتأكيد مختلفتان عن «حادث نصف المتر».
محمد ربيع: أن تعذب بطلك حتى السطور الأخيرة
صدمتان تعرضتُ لهما أثناء القراءة، صدمة موت الجبلاوي في أولاد حارتنا؛ مع أني كنت أعرف أنه سيموت. وصدمة اجتماع نيكولا وإيليا.
كنت أقرأ رواية فساد الأمكنة أثناء ركوبي المواصلات، قرأتها في ثلاثة أو أربعة أيام، وأذكر جيدًا وصولي إلى لحظة الاجتماع تلك، توقفت عن القراءة، وتذكرتُ أوديب، وتأملت شعاع الشمس يضرب الصفحة، ثم أغلقت الكتاب وأعدت قراءة اسم الكاتب: «صبري موسى»، سأذكره أبدًا.
بعد ذلك، سأتذكر فساد الأمكنة عندما أقرأ «واحة الغروب» لبهاء طاهر، الصحراء تسيطر على أبطال الروايتين، لكن الأولى أكثر انفعالًا وشاعرية، وبالطبع صادمة لكل من يقرأ. سأقرأ نصيحة الكاتب الأمريكي «كيرت فونيجيت» بعد ذلك بعدة سنوات، يقول إن على الكاتب أن يعذب بطله إلى أقصى درجة، أن يجعل منه هدفًا لكل اللعنات، ألا يرحمه حتى مع السطور الأخيرة، وهو ما فعله صبري موسى مع بطله في «فساد الأمكنة».
هناك أيضًا «الرجل من حقل السبانخ»، وفيها يعذب صبري بطله عذابًا فكريًا خالصًا، فيجعله يتخلى عن الحياة الرتيبة الهانئة، طلبًا لحرية مرهِقة. في هذه الرواية، كما في «فساد الأمكنة»، يبدو صبري متشائمًا إلى أبعد درجة، تنتصر المادة في النهاية، كما ينهزم نيكولا في نهاية الرواية الأولى. بهاتين الروايتين يدشن صبري موسى نظرته تشاؤمية للعالم كاملًا، ورفضه الكامل للسلطة ولأدواتها، في زمن قديم ملكي، أو في زمن مستقبلي يخلو من الحكّام. أيضًا، يبدو صبري يائسًا عدميًا، فلا مفر من انتصار ما يعتبره شرًا في النهاية.
محمد علاء الدين: رفض المدن وبرع في فنها
جمع صبري موسى بين الإبداع في الرواية والإبداع في السيناريو، وتميز في القصة القصيرة، بل درس الرسم لفترة من حياته. عنوان روايته العمدة يبرز هذا التناقض المذهل: كاتب الفن المديني الذي يبغض المدينة. لا أعرف إن كانت التفسيرات تنحو إلى اعتبارها بغضا حقيقيًا أم إحباط كبير لحالم كبير، ولكن ما أعرفه أن هذا الكاتب المتفرد قد اختط لنفسه أدبًا لا يعرف الأيديولوجيا مثلما يعرف الإنسان، أدب مختلف سواء في نوعه في «السيد من حقل السبانخ»، أو في حساسيته وذكائه في «حادث النصف متر». هذا الكاتب المدهش الذي قد يقع أحيانا في فخ الحكمة، ولكنها حكمة حقيقية في أرض افتقدتها. جسد صبري موسى ما أراه في أي كاتب متفرد: كيف يقول لنا، في عبارة واحدة أنيقة مشذبة، ما نحس به ونعجز أحيانا عن وصفه بهذا الوضوح والسطوع.
أحمد أبو خنيجر: صحراء صبري موسى
قال: «لو حجر اتقلب فى الوادي.. لازم الخبير يعرفه» هكذا راغ الخبير من سؤالى عن كيفية معرفة الدروب فى الصحراء المتشابهة إلى حد التطابق؛ كنت أقف على بعد أكثر من ثلاثين عاما مقتفيا آثار الرجل الذى عبر من هنا، ووضعني مباشرة فى مواجهة قاسية مع صحرائي التي ما خبرتها بالقدر نفسه، إنها صحراء العبابدة كما يطلقون عليها.
قال: «راح للحاج ناصر.. وهو اللي طلعه الجبل». وكانت الحكاية القديمة معروفة ومكررة، يأتي الكثير من الصحفيين والكتاب لكتابة مقال أو سلسلة مقالات أو يقوم بتحليل الصحراء وناسها وعاداتهم؛ كنوع من العناد والقدرة المتفردة على خوض مغامرة عبور الصحراء ومعرفة أسرارها، يبقى التبجح الوقح حاضرا متسربلا بهدف نبيل ألا وهو تقديم جزء (غالٍ) من الوطن إلى الوطن الكبير، كي يطلع على حياة الصحراويين وطريقة معيشتهم وعاداتهم، الأهم أن يركز على الغريب والمدهش من تلك العادات، فيقصها بخفة واستغراب، مخفيا جهله وراء هالة الثقافة والمدينة التي بعثت به إلى هنا، وبدلا من المعايشة يستريح القادم للاستسهال والبقاء في الظل بعيدا عن الهجير المتقد للصحراء، فتبادله الصحراء خفة بخفة وتغلق سرها دونه وليذهب بمعرفته واستعلائه إلى المدينة، فلا حاجة للصحراء بها.
قال: «يوووه... كتير رجعهم... تقدر تقول ما ارتحش لطلتهم» وبالحق أقول أنا: إن رؤية ملامح وجه صبري موسى الهادئة والصمت الذى يلفه يجعل تلك القلوب التي تبدو قاسية حتى على أصحابها- التي وصفها في كتابه الرائع: الصحراء. بأنها قلوب طيبة ونقية- جعل تلك القلوب تأنس إليه وتفتح بعض مغاليق أسرارها التي هي من أسرار أمهم: الصحراء. ليس هذا وحسب، بل تسمح له بالدخول إلى الدروب شديدة التمايز والوضوح لعين الخبير المدرب والمتأمل، والتي تبدو شديدة التشابه لعين الجاهل المتعجل. حينما قرأت الصحراء/ الكتاب وقعت في تناقض بيّن، ما بين فتنتي ببساطة الكتابة والعذوبة التي تروي جزءا من حكاية الصحراء المترامية، ترسم على مهل الملامح والأماكن لتقتنص روحها، تلك هي صحرائي بشكل خاص ومتحيز، وهنا يكمن التناقض، فكيف لرجل غريب عن هذه النواحي أن يعبر بكل هذه البساطة والألفة عن شيء لا يخصهن وكأنه لا يفعل شيئا؛ كنت في ذلك الوقت أتحسس دروب الكتابة- ولا أزال- تلك الدروب التي تشبه دروب الصحراء، بمعنى أدق تطابقها، كيف لقلب، إن لم يكن بمثل هذا النقاء، أن يتلقى ذلك الإلهام الصحراوي خفيص الهمسن بعذوبة وفتنة المتأمل؛ هذا القلب الذي سبقني بثلاثين عاما ليحط في قلب هذه الصحراء، وليدفعني أنا لأقتفي ليس أثره فحسب، ولكن محاولة تبين الخطوط الدقيقة التي تمحوها الريح بعد لحظة، هذه الخطوط شديدة التلاعب في الصحراء القريبة وعلى مرمى البصر والبعيدة بعمق البصيرة.
قال: «مش زيك... قليل الصبر.. بيسمع بس» من أين أتاه ذلك الصبر والاطمئنان وهو القادم من الحقول البعيدة ومن عاصمة الصخب والضجيج، هل هذا الصمت هو الذي كان حليفه لينجز بعد «الصحراء» صحراءه الخاصة: فساد الأمكنة. واحدة من أعذب وأمتع الروايات العربية المعاصرة، رواية عالمية بكل مقاييس الرواية، لا يستطيعها إلا أولو العزم من الكتاب الجبابرة. إن «الصحراء» تعد اعتباطا في باب أدب الرحلات، لكنها رواية بكل معاني الفن الروائي واتساعه، إنها رواية المعايشة والصبر والترقب والانتظار والتأمل للحظة الاصطفاء لتمنحه الصحراء واحدة من جواهرها: فساد الأمكنة.
قال: «........» بعد كل هذه السنوات أقف مقلبا وجهي ومازالت الدروب تلاعبني وما عرفت الحجر الذي قلبته الريح بليل، أنتظر من صحرائي أن تهبني بعضا من سرها، من حكاياتها.. وأقلب وجهي فأرى الأستاذ وما حاق به فأهتف: هل أقف على سراب الروح أم أنه قد أدركنا فساد الأزمنة؟!