معاناة قد ترصدها وسائل الإعلام فى لقطة مصورة أو مقطع فيديو يشاهده أحد مسؤولى الحكومة ليخرج معلقاً عليها فى تصريح يتضمن بعض الكلمات غير المجدية للمواطن الذى يظل فى الشارع لأكثر من 12 ساعة أملاً فى الحصول على أنبوبة. على مدار أكثر من أسبوعين ذاقت فيهما أسر مصرية المرّ من أجل الفوز بأسطوانة بوتاجاز بسعرها المدعم بعيداً عن جشع تجار السوق السوداء الذين رفعوا سعرها إلى 50 جنيها كى تتمكن أم من إعداد الطعام لصغارها، وأن يتمكن أب من تناول كوب شاى بعد عناء يوم كامل فى عمله.
محررة «المصرى اليوم» خاضت تجربة الحصول على «أنبوبة» بدأت من أحد المنازل القريبة من مستودع أنابيب فى شبرا الخيمة، واستمرت الرحلة لأكثر من11 ساعة عاشت خلالها فى طابور الأنابيب حتى حصلت على أنبوبة بسعر 10 جنيهات من المستودع.
بدأت رحلة البحث عن أنبوبة عندما أشارت عقارب الساعة إلى السادسة صباحاً. عباءة سوداء وأنبوبة غاز فارغة ثم ركوب «توك توك» من أمام أحد المنازل الكائنة بشبرا الخيمة لنصل إلى مخزن الأنابيب بتكلفة عشرة جنيهات قد لا تتحملها أسر كثيرة تكتفى بحمل الأنبوبة فوق رأسها، وتسير بها مسافة طويلة كانت أم قصيرة فالأهم هنا هو أن تسرع قدر إمكانك كى تلحق بمكان متقدم فى طابور الأنابيب. يصل المواطن إلى المخزن وبمجرد وصوله ويقوم بالسؤال عن الدور، يفاجأ بأن الدور فى آخر الشارع. يسير مسافة طويلة بالأسطوانة الفارغة بين الجالسين على الأرض. وبالرغم من الوصول فى ساعة متقدمة من الصباح فإن نظرات الجميع تتساءل: لماذا هذا التأخير؟ فبعضهم جاء فى الساعة الثانية صباحاً، وبات أمام المخزن من أجل الوقوف فى أول الطابور. هنا مئات من البشر اختلفوا فى الأعمار والشكل والملبس والنوع لكنهم اتفقوا جميعاً على سمة واحدة وهى الفقر الذى دفعهم للانتظار فى طابور لا يعلمون موعد انتهائه من أجل الحصول على أنبوبة مدعمة بـ10 جنيهات بدلا من 50 جنيها.
دقائق قليلة من الوصول إلى المكان الذى أخذت فيه المحررة لقب «الأخير فى الدور»، قبل أن يمتلئ الطابور خلفها بالمزيد من المواطنين آملين فى الحصول على أنبوبة البوتاجاز.
انتظار المحررة ساعات طويلة فى الطابور فتح الباب لحوار مع العديد من ربات البيوت اللاتى تركن منازلهن وأطفالهن بحثاً عن الأنبوبة. من بين هؤلاء سيدة فى الخمسين من عمرها جاءت إلى المخزن فى السابعة صباحاً تبحث عن مكان لها، بعد أن استقر بها الحال فى هذا المخزن بعد جولة أخرى بدأتها فى الخامسة من صباح نفس اليوم زارت خلالها ثلاثة مخازن أخرى، وفشلت فى الحصول على أسطوانة بسبب كثرة أعداد الناس فيه ونفاد الكمية المتاحة من الأنابيب. تقول أم رضا: «على مدار أسبوع كامل لم أقم بإعداد وجبة أو حتى كوب شاى فى منزلى بسبب الأنبوبة الفارغة»، وأضافت:« كنت أنزل كل يوم خلال هذا الأسبوع إلى المخازن القريبة من بيتى لكن مع الأسف كنت أرجع فاضية، عيشنا على علب الكشرى طول الأسبوع بشكل أرهق زوجى مادياً». حلم الحصول على أنبوبة بوتاجاز جعلها تغامر بحلمها الأكبر ألا وهو أن تكون أمًّا لأول مرة، إذ اضطرت وفاء الحامل فى شهرها التاسع إلى النزول بأنبوبة البوتاجاز من الطابق السادس فى بيتها الذى يبعد عن مستودع الأنابيب حوالى 300 متر، سارت على قدميها تحمل الأنبوبة فوق رأسها.
مشهد وفاء لم يدفع أحداً للتعاطف معها «فالجميع جاء للمخزن يحمل مأساته»، إذ حاولت «وفاء» الحصول على دور متقدم فى الطابور، إلا أن السيدات اللاتى سبقنها فى المجىء إلى الطابور قالوا لها «احمدى ربنا إن ابنك لسه فى بطنك.. احنا سايبين عيالنا فى الشارع». ترد عليهم وفاء: «كل شىء يهون من أجل الحصول على أنبوبة البوتاجاز ففرحتى بالحصول على أنبوبة مثل فرحتى بقدوم طفلى الأول».
ارتفعت الشمس فوق رؤوس الواقفين، واضطر الجميع للانتقال بالأنابيب إلى اليمين تارة واليسار تارة أخرى، فى محاولات لاهثة لإيجاد مكان بعيد عن الشمس. لم يستسلم المنتظرون فى الطابور لساعات الملل بل حاولوا التغلب عليها بتناول بعض المشروبات كالشاى والقهوة والتمر، وشراء ساندويتشات الفول والطعمية كوجبة إفطار فى الشارع فوق أسطوانات الغاز. تمر الساعات ويخرج الأطفال من مدارسهم ويحضرون إلى طابور الأنابيب ليرافقوا أمهاتهم خلال ساعات الانتظار أمام المستودع.
الثالثة بعد الظهر، بعد طول انتظار هتف صاحب المخزن قائلا للواقفين: «اعدلوا الطابور العربية جاية فى السكة»، وقف الجميع وفتح باب المخزن ووقف أحد العاملين يوزع كوبونات على الواقفين، كلٌّ حسب دوره، بينما دفع أصحاب الأنابيب 10 جنيهات، وسلموا الكوبون للمستودع، وراحوا يقفون فى طابور آخر، فالحصول على الكوبون لم يكن هو نهاية ساعات الانتظار؛ حيث انتظرنا ساعتين كاملتين بعد الحصول على الكوبون، حتى وصلت العربة. توقف كل ذلك مع فتح باب العربة وبدأ الجميع فى الاندفاع للحصول على الأنبوبة بينما يلقى أحد العاملين بالأنابيب من العربة إلى الأرض. ووقف شخص آخر ممتلئ الجسد، يفرق بالقوة طوابير السيدات والرجال، ويسمح بمرور السيدات من أسفل ذراعه بحيث تمر 5 سيدات ثم 5 رجال بالتناوب لمقدمة العربة، ليحصل كل واحد على أنبوبة مقابل تسليم الكوبون. وينطلق كل منهم حاملاً أنبوبته ليركب أول «توك توك» ويعود إلى بيته سعيداً بالحصول على أنبوبة على رحلة امتدت لأكثر من 11 ساعة.