x

كمين «الريسة».. في انتظار «أشباح» الصحراء (تحقيق)

الأحد 13-10-2013 11:08 | كتب: مصطفى المرصفاوي, محمد البحراوي |
تصوير : تحسين بكر

إذا كانت هي زيارتك الأولى أو الثانية أو العاشرة إلى مدينة العريش بعد ثورة 25 يناير، تأكد أنه عندما سيقترب سائق التاكسي أو الميكروباص من مدينة الريسة وبالتحديد عند مدخل المدينة على الطريق الدولي سيشير لك بابتسامة بسيطة على الكمين وهو يقول: «هو ده بقى كمين الريسة اللى بينضرب كل يوم وبتسمعوا عنه في الجرايد والتليفزيون». اكتساب الكمين صفة «المزار السياحي» ليس له إلا سبب واحد وهو عدد تعرضه لإطلاق النيران من قبل المسلحين بالمنطقة ،حيث وصل إلى 49 مرة على مدار العامين الماضيين، حياة صعبة يعيشها أهالي المنطقة خوفاً من رصاصة طائشة قد تصيبهم من هنا أو هناك، وحياة أخطر يعيشها مجندو الكمين رصدتها «المصري اليوم» بعد مفاوضات استمرت لمدة يومين لتحصل على تصريح بقضاء يوم كامل داخل الكمين بعد تعرضه لـ48 عملية هجوم آخرها كانت منتصف شهر سبتمبر الماضى ولم يصب أي من المجندين وقتها ولكن في المرة الـ49 التي تم تنفيذها الأسبوع الماضي استخدم المسلحون طريقة جديدة للهجوم وهى تفجير سيارة أثناء مرورها بالكمين انتهت باستشهاد 4 من المجندين وإصابة 5 آخرين.

كمين الريسة بالعريش

بمجرد الوصول إلى الكمين يتغير الجو العام. صمت تام لا يقطعه سوى صوت الهواء الذي يحاصر الكمين من جميع الاتجاهات بسبب طبيعة المنطقة الصحراوية الموجود بها الكمين، مجندون لا يفارقون أماكن توزيعهم بالكمين، 16 مجنداً وعريفان وضابط هم كل قوة الكمين. 4 يتمركزون فوق 4 دبابات في الاتجاهات الأربعة، و4 يتابعون عمليات تفتيش السيارات و4 موزعون على أماكن سرية فوق العمارات المحيطة بالمنطقة. الكمين وفقاً للخطط الأمنية والتقديرات العسكرية يعتبر حائط صد لمسلحي قرى الشيخ زويد ورفح والأنفاق سواء بالمواجهة المسلحة أو التفتيش، حيث يفصله فقط 60 كيلومتراً عن الشريط الحدودي، ولكن أسباب تعرضه للهجوم المتكرر هي وجوده وسط منطقة خالية على يمينه تبة صحراوية مرتفعة تمكن المسلحين من «كشف» الكمين تماماً، وعلى يساره منطقة زراعية يستطيع خلالها المسلحون الاختباء فيها وإطلاق النيران.

التوتر وعلامات التركيز تظهر جيداً على جميع المجندين باختلاف مدة قضاء خدمة كل منهم بالكمين، ولم تفلح مرات الهجوم المتعددة في التخفيف من حدة التوتر، ولكن العريف أحمد المنصوري أكثرهم هدوءاً بسبب أنه المجند الأقدم في الكمين. يتجلى هدوئه في خفة ظله وتعليقاته الساخرة وابتسامته التي لا تفارق وجه. «المنصوري» يعرف جيداً موعد وصول كل مجند إلى الكمين وبداية مدة خدمته، ويعرف أيضاً جيداً عدد مرات الهجوم على الكمين وموعد كل هجوم بالساعة والدقيقة دون أن يدون ذلك. يقول: «كله في الدماغ، دي حياتي، بقالي هنا في الكمين 3 سنين تقريبا، مفيش هجوم واحد محضرتوش. الهجوم الأصعب كان في مارس 2012، في الصباح تعرضنا لهجوم من عند التبة وفي الظهر اقتربت سيارة نصف نقل قادمة من اتجاه رفح وفتحت النيران على المجندين وفي المساء تجدد الضرب من عند التبة، كل ده حسبناه هجوم واحد مش 3».

كمين الريسة بالعريش

لا تتوقف ذاكرة العريف «المنصوري» عند ذكريات ومواعيد الهجوم فقط ولكنه يعرف جيداً عدد مرات الهجوم الذي حضرها كل مجند. بخفة ظله يوضح ذلك: «عادل مثلا واخد 45 من 48 يعني حضر 45 مرة هجوم. أحمد 23 من 48، رجب 39 من 48، أنا بس اللي واخد 48 من 48». ولكن بعد الهجوم الـ49 الذي تعرض له الكمين يوم الخميس الماضي وانتهى ولأول مرة باستشهاد 4 مجندين وإصابة 5 آخرين، تحولت خفة ظل العريف أحمد المنصوري إلى دموع وبكاء حزناً على أرواح الضحايا الذين لقوا مصرعهم في الحادث.

مؤكداً في اتصال هاتفى بعد الحادث: «4 من رجالتنا راحوا من بينهم واحد لسة بقاله شهر تقريبا معانا والـ 5 المصابين إصابتهم بسيطة». الخدمة داخل كمين الريسة تختلف كثيراً عن أي كمين آخر، التعليمات واضحة لقوة الكمين بالمبيت بجوار الحاجز تحسباً لأي طارئ، 3 خيام فقط نصبت في الجهة المقابلة للمنازل المحيطة بالكمين منذ عام ونصف العام تقريبا تنفيذاً للتعليمات لكي ينام بها من يحصل على ساعات راحة لا تتجاوز الـ8 ساعات يومياً وهو ما تعود عليه الجميع. يقول المجند القادم من محافظة المنيا أحمد سراج: «8 أشهر تقريبا هي مدة خدمتي بالكمين حتى الآن، نحصل فقط على 8 ساعات راحة بالتناوب ونقضيها داخل الخيام التي نجهز بداخلها أيضا طعامنا يومياً».

كمين الريسة بالعريش

لا يترك المجند «عادل» مكانه تقريبا فوق الدبابة التي تحمى الجهة الشمالية للكمين، يمسك سلاحه المتعدد الطلقات المثبت فوق الدبابة، وبنظرة تركيز نحو التبة التي يأتي من خلالها الهجوم عادة يقول: «الضرب كله بيجي من الناحية دي، بس ضربهم كله فشنك تقريبا، يدوب بيظهروا دقيقة أو دقيقتين يضربوا نار وأول ما نبدأ نتعامل معاهم بيطلعوا يجروا على طول ويختفوا في وسط الصحراء».

على الرغم من أن عدد مرات تعرض الكمين للهجوم هو رقم قياسي، وعلى الرغم أنه تعرض لجميع أنواع الهجوم بدءاً من الطلقات النارية وحتى الـ«آر. بي. جي» والألغام، فإنه لم يصب أي من المجندين خلال 48 هجوماً، بخلاف الهجوم بالسيارة المفخخة رقم 49. الأمر الذي يفسره «عادل» بالقول: «المسلحون عادة يطلقوا نيرانهم من مسافات بعيدة ودائما دون تصويب أو تركيز بسبب خوفهم من المواجهة، قبل أن يهربوا كالأشباح في الصحراء»، مضيفاً: «تدربنا كثيراً على طرق المواجهة واتخاذ مواقع التمركز سريعاً مع سماع صوت أول طلقة، كما اكتسبنا خبرة كبيرة في التعامل مع مصادر إطلاق النيران وسط الانفلات الأمني الذي تشهده سيناء حالياً».

كمين الريسة بالعريش

دور قوة الكمين لا يقتصر على التأمين والالتزام بالتعليمات الأمنية فقط ولكن مع تطور الأوضاع بسيناء جاءت أوامر جديدة بالاستعانة يومياً بإحدى دبابات الكمين بمشاركة 4 مجندين والضابط المسؤول عن الكمين لكي يشاركوا في عمليات تطهير قرى مدينة الشيخ زويد والتي بدأت منتصف شهر سبتمبر ولاتزال مستمرة حتى الآن لمطاردة جميع المسلحين والتكفيريين بالمنطقة. الغريب هو تسابق المجندين على المشاركة في تلك المأموريات على الرغم من ارتفاع درجة الخطورة بها عن الخدمة الثابتة بالكمين، حسب العريف أحمد المنصوري، الذي يوضح: «بعد أسبوع تقريباً من المشاركة في تلك المأموريات تحدثت مع بعض المجندين حول أسباب رغبتهم في المشاركة بهذه العمليات أكدوا لي أنهم يمنون أنفسهم دائماً بمواجهة مهاجمي الكمين باستمرار من مسافات بعيدة أملاً في القبض عليهم». حاملاً ذكريات صديقه المجند محمد الذي استشهد منتصف يونيو بأحد كمائن الطريق الدائري بالعريش، انتقل المجند رجب إلى كمين الريسة لأداء ما تبقى له من مدة خدمته بعد أن تقدم بطلب الانتقال من الكمين الذي قتل خلاله صديقه وجاره من مركز ديروط بمحافظة أسيوط، مشيراً إلى أحد الملصقات الموجودة على بدلته العسكرية والذي كتب عليه «النصر أو الشهادة» قائلاً: «مفيش غير ده اللي في دماغي حق محمد عند كل مسلحي سيناء، والنصر والقضاء عليهم هو اللي هيرجع حقه، لما ببقى في مأمورية خارج الكمين بطلع على طول علشان أرجع حق محمد، وسأرجع البلد بعد ما أخلص مدة تجنيدي بالنصر أو الشهادة».

رجب الذي تحدث مع «المصرى اليوم» قبل أيام قليلة أصيب في الهجوم الـ49 ببعض الشظايا والحروق نتيجة الانفجار. مع استمرار عمليات الهجوم واستهداف الكمين لجأ ضابط الكمين وبالتنسيق مع قيادة الجيش الثاني في تحديد 3 أماكن وتثبيت بها نقط تمركز ومراقبة تكون جاهزة طول الوقت للمواجهة والتعامل مع أي هجوم. يشير الملازم أول أحمد بيده اليمنى على العريف أحمد المنصوري، قائلاً: «اختيار المواقع اعتمد على ذاكرته في تذكر مواقع الهجوم، ليكون التمركز الأول في مواجهة التبة، والثانى أكثر اقتراباً من التبة لمطاردة المسلحين أثناء هروبهم، والثالث لحماية الجهة الغربية للكمين».

كمين الريسة بالعريش

يختلف الوضع كثيراً مع اقتراب الساعة الرابعة عصراً موعد بدء تنفيذ الحظر بمدينة العريش، يبدأ المجندون في إغلاق الطريق بالحواجز الحديدية والاستعداد للتعامل الفوري إذا حاولت أي سيارة الاقتراب من الكمين، فالأوامر واضحة طلقة أولى في الهواء للتحذير وإذا تحرك السائق بعدها تكون الطلقة الثانية من نصيبه، وتختلف أماكن توزيع المجندين أيضاً حيث يبقى 2 فقط على الأرض للتفتيش بينما يتوزع الباقي على الأماكن الثابتة استعداداً لأي هجوم.

تزداد حدة التوتر والتركيز مع ساعات الليل التي تحمل المفاجآت دائما وعدم وضوح الرؤية جيداً وتحديد أماكن إطلاق النيران منها. يتذكر المجند عادل اليوم الأصعب عندما تعرض الكمين لأكثر من 4 ساعات ضرب من فوق التبة: «نكون حريصين دائما أثناء التعامل وننتظر كثيراً لتحديد مصدر النيران جيداً لأن مدى إطلاق النيران تقطعه أحياناً عمارات سكنية ونخشى دائماً على أرواح الأهالى». يسود الصمت بالمكان ولا يتغير الوضع إلا مع الساعات الأولى للفجر وبداية ظهور ضوء النهار ليحصل بعدها الجنود على 5 ساعات تقريباً للنوم والراحة استعداداً ليوم جديد قد يحمل الرقم الـ50 لتعرض الكمين للهجوم.

كمين الريسة بالعريش

أحمد محروس.. الحياة على أصوات الرصاص

داخل منزله المواجه للكمين مباشرة جلس أحمد محروس، أحد سكان مدينة الريسة، خمسيني يظهر على وجهه تفاصيل حياته الصعبة التي عاشها في سيناء عاملاً بلزراعة، جلس يتذكر تفاصيل الهجمات على الكمين طوال العامين الماضيين.

«منذ شهور قليلة كان هناك موعد محدد لضرب هذا الكمين بعد أذان المغرب مباشرة، لدرجة أن أطفالنا كانوا يخرجون قبل هذا التوقيت بدقائق معدودة لانتظار بدء ضرب النار ومشاهدته من البلكونات المجاورة للكمين. كان المسلحون يعتلون أسطح المباني ويطلقون الرصاص على الجنود والضباط في الكمين، ولكن قائد الكمين استأذننا في اتخاذ مواقع ثابتة أعلى أسطح مساكننا لمواجهة المسلحين ووافقنا على الفور، وشيد الجنود (دشماً) من الرمال لكي تحميهم من الرصاص أثناء التعامل مع الإرهابيين فوق الأسطح».

يضيف: «تعودنا على أصوات طلقات الرصاص وصواريخ الـ(آر بي ي)، لكننا نتعاون مع الجنود أثناء المواجهة ونحميهم بكل ما نملك ولو طلبوا منا الاستحواذ على شققنا السكنية لاتخاذها كمواقع للمواجهة فلن نتأخر، الجنود هنا يطلقون الطلقات التحذيرية في الهواء ببعض الأوقات كنوع من التمشيط لكي لا يقترب المسلحون من الكمين».

يستطرد وهو يشير إلى سطح العمارة التي يقيم بها: «هؤلاء 2 من الجنود ومعهم ضابط صف، أحدهم يحمل بندقية آلي، والآخر يخدم على مدفع 14 مللي، وضابط الصف يراقب عبر منظار رؤية، كل منهم يعرف دوره جيداً عند بدء أي هجوم على الكمين، ونحن الأهالي علينا دور عند الهجوم، حيث نؤمن المداخل ونمنع اعتلاء أي مسلح أسطح العمارات للاعتداء على الجنود، ونغلق الأبواب جيداً والنوافذ خوفاً من إصابتنا. الحياة هنا في البداية كانت رعباً ولكننا تعودنا على أصوات الرصاص بمرور الوقت، ومع استمرار العمليات والهجوم اجتمع ضابط الكمين بعدد من الأهالي في المدينة وقدموا بعض النصائح والتعليمات كان ذلك تقريباً منذ عام، ملخص النصائح أنه على السكان الالتزام بالمنزل مع بداية إطلاق نيران المسلحين على الكمين وعدم الخروج من البلكونات أو الصعود إلى أسطح العمارات حتى لا يصاب أحد».

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية