تحررت الروائية ميرال الطحاوى فى روايتها الأخيرة «بروكلين هايتس» الصادرة عن دار ميريت، من قوالبها وهواجسها المعتادة، وتخلصت من تحايلها الرمزى وتلاعبها باللغة وأيضا من خجل لازم كتاباتها طويلا، كتبت هذه المرة بجرأة وحرية، عن لاجئة تحيا فى أمريكا مع طفلها فتدرك أن ما ينتظرها ليس أفضل مما تركته وراءها.
ميرال تدرس الأدب العربى حاليا بجامعة نورث كارولينا، أجرينا معها هذا الحوار عبر الإنترنت، وحكت فيه عن روايتها باستفاضة.
■ إلى أى مدى يمكن اعتبار الكتابة وسيلة للتطهر وعقد صلات جديدة مع العالم، خاصة أن ملامح بطلتك هند فى «بروكلين هايتس» تتماس بدرجة ما مع ملامحك..؟
- لا أعرف إلى أى مدى تتماس معى بطلاتى، أحيانا أصدق أننى عشت معهن بقدر ما أخذت منهن، ولم أحاول إخفاء التصاقهن بى، بل حاولت العكس، دعم الاعتقاد بأنهن جزء منى، وأعتقد أن نجاحى يكمن فى تحقيق هذا الإيهام، فى «بروكلين هايتس» تحديدا كنت راغبة فى التمثيل كبطلتى تماما، فى امتلاك وجوه كثيرة وحيوات أكثر مما يمكن لفرد أن يعيش، أنا كل نساء روايتى وليس هند فقط، ولا حاجة لبى للاعتذار عن تلك الخطيئة، لذلك حين اخترت أن أقدم الرواية بهذا المقطع للشاعرة الإيرانية فروخ فرخ زادة:
«مضى الزمن.. ودقت الساعة أربع دقات
وها أنا ذا امرأة وحيدة على عتبات فصل البرد»
كنت أعرف أن تجربة النساء فى الكتابة ليست تعبيرا عن التطهر الشخصى بل هى تطهر اجتماعى، لقد كانت فروخاً شابة صغيرة على تلميحات أشعارها كانوا يحاكمونها ويتهمونها بالخيانة ويعدون عليها العلاقات المختلسة ويجلدونها باسم المجتمع، ويفسرون نصها حسب الشائعات والتكهنات ويتلذذون بمشاهدة روحها عارية تثير الشفقة، كانت وستظل كتابة المرأة عرضة لذلك دائما.
■ هل يمكن إدراج الرواية تحت أدب الاعتراف أو السيرة الذاتية؟
- طوال الوقت هناك رغبة اعترافية تلازم الكتابة فى كل أعمالى لكنها كانت تتخذ أشكالا من التحايل الدلالى والتلاعب باللغة لتعطى أكثر من مدلول رمزى، فى هذه الرواية صارت اللغة أكثر حيادا ولم أرغب فى التستر وراء الرموز، هناك جمال لرؤية الأشياء عارية وصادمة وإنسانية كما هى، لم أرد أن أتستر بغلالات اللغة.
فى هذا النص تخلصت من الخجل الذى لازم كتاباتى، من الرقابة على ذاتى، كنت أريد فقط أن أكون حرة وأن تصبح أيضا الكتابة حرة من كل التوقعات، وكنت أعرف أن نصى قد يثير كثيرا من الإحالة على واقعى الشخصى، لكننى للمرة الأولى أشعر بالرغبة فى التخفف من هذه الأحمال، أشعر أن الفائدة العظمى لاغترابى حاليا، هى تلك المساحة المختلسة التى أعتقد فيها أننى أمتلك فضاء وهميا يحرر روحى.
■ احتفاؤك بالموروث الشعبى النسوى فى روايتك الأخيرة مثل أغانى الجدات البدويات وأشعار نساء البشتون.. هل يمكن اعتباره نوعا من الانتصار للنساء المهمشات؟
- لا أعتقد أننى انتصر لشىء فى هذه الرواية، ولا حتى للنساء، جزء من النص يرسم التغيرات التى لحقت بالمجتمع المصرى منذ الثمانينيات واشتداد المد الدينى والهجرة المصرية العبثية للخليج، تغير عالم شاهدت احتضاره فى طفولتى عندما تحولت القرى إلى ميادين لصراعات عرقية ودينية، ثم ذهبت لنيويورك وشاهدت أيضا انهزام فكرة التعدد والانصهار فى الكيان الأمريكى فأطراف نيويورك مستعمرات تفرز جيوبا اثنية وعرقية مثلما كانت (تلال فرعون)، النساء جزء من المشهد بآلامهن، وجزء من وجودى وخبراتى وطفولتى، لكن الحكاية لا تعرف الانتصار سوى لمخلوقاتها بصرف النظر عن النوع، وإن كانت تنتصر لحيرة البطلة التى هى (حيرة المؤنث) إن صح التعبير لكنها تكشف الكثير عن عالم الرجال أيضا.
■ هل أردت فى هذه الرواية أن تختصرى علاقة أمريكا بعدد من الشعوب العربية والعالم الثالث؟
- لا شىء فى الحقيقة يمكن أن يختصر التعدد الديمجرافى والثقافى فى أمريكا، وصراع الهويات، وإرث الذنب والخطايا التاريخية.
السياسة الأمريكية ليست سوى جزء صغير من المشهد، لكن أردت أن أقول إن كل ما نتركه شرقا نجده غربا، وأن الصورة ليست منفصلة تماما بل ربما صورة واحدة نراها من جوانب متعددة، فالمد الدينى والصراع الإثنى والعرقى والفقر والقهر السياسى منتجات متوفرة فى الشرق والغرب معا، وأن أحياء بروكلين العربية هى معادل رمزى لقرية صغيرة كانت تسمى على الخارطة : تلال البدوان، فرغم كل الفروق، قسوة الحياة الإنسانية مشتركة، ومثيرة للحزن وربما هم يدركون الآن بعد الحادى عشر من سبتمبر أنهم جزء من الجريمة وهم أيضا بعض الضحايا.
■ تناولت العلاقة بين المسلمين والمسيحيين بشكل مباشر وصريح يعبر عن مدى تربص الطرفين ببعضهما البعض سواء فى مصر أو فى أمريكا.. ما سبب تناولك هذه القضية رغم حساسيتها المفرطة؟
- لأننا نعتقد أننا متسامحون مع الأقليات وربما نعتقد أننا أيضا عادلون ومتصالحون مع الآخر، لكن فى الحقيقة عندما نعيش مشاعر الأقلية كمسلمين فى بلاد المهجر نشعر بقسوة أن تكون مختلفا ومضطرا أن تصبح مسالماً ولطيفا ومسحوقا وموضعا للشفقة. إنها فقط جزء من لعبة المرآة التى تطرحها روايتى، المرايا المتعددة للوجه الواحد، لا أقصد إثارة محن ولا خلق مهاترات للهرطقة الدينية حول الكنائس والمساجد فقط أرسم الوجه الآخر لأن تكون من عرق ودين ولون مختلف رغم مظلة اللغة الواحدة، وأعتقد أن هذا موضوع ينبغى أن يفتح وأن يتم التعبير عنه بصراحة، نعم المد الدينى السلفى الذى توغل فى ثقافتنا يخلق تعصباً مضاداً. ولقد عشت حرب بناء كنيسة أم النور فى طفولتى ولا أستطيع نسيان ذلك. يجب أن نتحرر من هذا التواطؤ. بناء كنيسة لن يغير وجه مصر، كما أن بناء مسجد فى مدينة برلين مثلا لن يغير وجه أوروبا.
■ هل تتوقعين فرصا كبيرة فى الفوز بالبوكر العربية بعدما تردد عن ترشيح روايتك الأخيرة للجائزة؟
- على الإطلاق. أنا فقط سعيدة بالكتابة، وسعيدة بالأصداء الجميلة التى تصلنى عن روايتى. وأعتقد أن تلك الأصداء جائزة كبيرة فى حد ذاتها.