على الرغم من مرور أكثر من أربعين عاما على الحرب، إلا أنهم كلما تحدثوا عن بطولات الفدائيين ومواطنى السويس سواء فى حرب الاستنزاف أو حرب أكتوبر تذكروها كما لو كانت بالأمس، بل تبدو عليهم كل علامات الانفعال والتأثر بالأحداث التى أثبتت صمود المدينة تجاه كل الأحداث التى مرت عليها منذ 1967 وحتى أكتوبر 1973.
فى منزل بسيط فى حى فيصل، الذى بنى فى إطار إعادة إعمار السويس بعد الحرب، جلس «المغاورى إبراهيم داوود» و«السيد محمد منصف»، و«أحمد حسن عروق» يتذكرون العمليات الفدائية التى قاموا بها فى حرب الاستنزاف خلف خطوط العدو. يبدأ سيل الذكريات مع بداية النكسة وقيام الصيادين الثلاثة بعبور قناة السويس، مع آخرين، لنقل مصابى القوات المسلحة إلى الضفة الغربية لإسعافهم ونقلهم إلى المستشفيات.
مع بداية هدوء حركة نقل المصابين التحقوا بـ«منظمة تحرير سيناء»، التى أنشأها جمال عبدالناصر لتنظيم العمل الفدائى، ومن خلال المنظمة تشكلت مجموعتهم الخاصة التى ضمت إليهم الصياد «حسن على أحمد مغربى»، الذى توفى بعد الحرب، وثلاثة من بدو سيناء هم «حسين كيلانى» من عيون موسى، و«عواد عودة سلمى» من أبوزنيبة، و«سلامة سالم» من الجسيمات. ونفذت المجموعة خمس عمليات فدائية أوقعت خسائر كبيرة بالعدو قبل أن يتم أسرهم فى عام 1969.
تكتيك عمليات المجموعة كان يعتمد على خبرة الصيادين فى عبور القناة بالقوارب ليلا ومعرفة البدو بدروب سيناء، ومع التدريب الشاق المناسب بواسطة المخابرات الحربية أضيفت خبرة زرع الألغام. يقول «مغاورى»، 67 عاما، «كنا بنخش أرض العدو بلنشات الصيد، ومعناش سلاح إلا خنجر صغير والألغام. نزرع ألغام على طرق الأسفلت عشان نفجر عربياتهم، وعملنا خمس عمليات كلهم ناجحين، أقل عملية كانت بتاخد أجازة كاملة». ما يقصده بـ«الأجازة» هنا هو قافلة من الجنود الإسرائيليين الذين يكونون متواجدين فى منازلهم لقضاء إجازتهم من جبهة الحرب.
كانت أهمية الفدائيين نابعة من كونهم يعملون تحت الغطاء المدنى، يعملون نهارا وينفذون العمليات ليلا، ولهذا كان الحفاظ على سرية هويتهم أمراً مهماً؛ اضطرهم إلى اتخاذ إجراءات أمنية أثناء إجراء الاتصال بينهم وبين المخابرات الحربية. كان مكتب المخابرات الحربية يعرف أماكن تجمعهم التى كانت تنحصر فى أحد المقاهى وشقة فى منطقة «الغريب». يقول «السيد»: «كانوا لما يحبوا يجيبونا إما يبعتولنا حد على الشقة أو يبعتوا عربية تمر من قدام القهوة، وكنا بمجرد ما نشوفها نعرف إن فيه علمية النهارده، ونتسحب ورا بعض عشان محدش يعرفنا لأن البلد كان فيها جواسيس».
منعت العمليات الخمس، التى نفذتها المجموعة، القوات الإسرائيلية من المرور فى «جبل البنكية» تماما. وكانت آخر عملياتهم «كشرات»، فى الأول من يناير 1969، والتى زرعوا خلالها ألغاما على طريق ساحل البحر الأحمر، انفجرت وأدت إلى تفجير أتوبيس نقل أفراد وأربع مدرعات للجيش قبل أن يؤسروا فى مجرى القناة أثناء عودتهم. يقول «السيد»: «بعدما زرعنا الألغام فى إحدى المناطق بسيناء عدنا بلنش الصيد، وشاهدنا مركب (كارجوا) للبضائع قادم من أبوزنيبة، وكان فيها يهود رفعوا علينا سلاح وضربوا نار. ناورناهم 3 ساعات وأخيرا ألقينا بالنظارات وأجهزة اللاسلكى ومعدات الألغام فى البحر وسلمنا أنفسنا. وأول ما اتقبض علينا كان عندنا عقيدة إننا هنموت، فموتة بموتة خلينا رجالة ومحدش يتكلم عن حاجة ومنعرفش أى حاجة وإحنا ناس صيادين ومنعرفش أى حاجة عن حد، زميلنا الرابع أصيب أول ما اتقبض عليه بطلقتين ونقلوه بالطيارة لمستشفى (اللد)».
ذكريات الأسْر استدعت نظرات متناقضة على وجوه الثلاثة، من حزن وأسى بسبب التعذيب وما شاهدوه داخل السجون الإسرائيلية، وفخر بما فعلوه فى المقاومة الشعبية التى أدت إلى حصولهم على نوط الامتياز من الطبقة الأولى من الرئيس الراحل محمد أنور السادات عام 1980. يقول «عروق» عن الاستجواب داخل السجن إنهم تعاملوا بحسب تعليمات وتدريبات المخابرات الحربية لهم فيما يجب عليهم فعله حال القبض عليهم، وقالوا للمحققين «إحنا صيادين والحكومة مش بتدينا فلوس والحالة صعبة فطلبنا من العرب دول إنهم يساعدونا إننا نجيب المخدرات، على أساس أن الوقة بـ6 جنيه. واللنش سرقناه من الحكومة المصرية ومعناش تصريح، وطول التحقيق بنقول نفس الكلام ومكناش بنغير كلامنا، وحتى زمايلنا فى الحجز كانوا يعرفوا إننا تجار مخدرات وبس».
أربعة عشر شهرا قضتها المجموعة فى السجون المختلفة الواقعة تحت إمرة القوات الإسرائيلية فمروا على سجون «أبوزنبية» و«أبورديس» بعد أن قضوا ثلاثة أشهر فى سجن «سرفنت» الحربى بتل أبيب. تلك الشهور الثلاثة كانت هى الأصعب عليهم، بحسب قولهم، بسبب برودة الجو وتعرضهم للتعذيب داخل السجن. فى «سرفنت» كانوا محبوسين مع فدائيين من فلسطين ولبنان والأردن. يحكى الثلاثة كيف كانوا يواجهون ضباط السجن بكبريائهم وعواقب ذلك كانت إحداها أن أمر أحد الضباط بأن يربط «السيد» فى جذع نخلة بعد نزع ملابسه عنه، باستثناء ما يستر عورته، حتى يأكل النخل جلده.
عندما يئس الإسرائيليون من استجوابهم أحالوهم إلى المحاكمة، وأثناء نظر القضية كانت مصر تجرى اتفاقا لتبادل الأسرى مع إسرائيل خرجوا بمقتضاه فى صفقة استبدل فيها أربعة طيارين وأربعة عشر فدائيا مصريا بطيارين إسرائيليين فى عام 1970. وجاء موعد خروجهم من السجون قبل موعد النطق فى محاكمتهم بأربعة أيام، وعندما صدر الحكم عليهم وهم فى السويس كانت عقوبة الفرد الواحد منهم خمس «مؤبدات».
فرحتهم بخروجهم من السجن لم يعكرها سوى منعهم من العمل الفدائى مرة أخرى؛ نظرا لقواعد المخابرات الحربية التى تمنع الأسرى المصريين من العمل مع القوات المسلحة مرة أخرى بعد الإفراج عنهم؛ خوفا من أن يكون بعضهم قد تم تجنيده من قبل العدو.
كُرمت المجموعة من القوات المسلحة، ووعدهم الرئيس الراحل أنور السادات بتمليك كل منهم خمسة فدادين فى ميت أبوالكوم، وأثناء انتظارهم تنفيذ قرار السادات تم اغتياله، وتولى بعده مبارك الحكم، ولم يتم الاهتمام بهم ولا تكريمهم. يقول «المغاورى»: «كل اللى خدناه من اللى حصل هو نوط الامتياز وبدون مرتب، كل اللى باخده مرتب 175 جنيه كل شهر من القوات المسلحة وكل لما أسأل فين مرتب النوط يقولى المدنيين ملهمش مرتب».