حياة مليئة بالمعاناة وأيام بطعم الألم.. تلك التى تعيشها آلاف الأسر فى منطقة الدخيلة، منذ سنوات طويلة، بسبب استمرار انبعاث ما وصفوه بــ«الجرعات المكثفة» من أتربة الكلينكر (مادة خام تستخدم فى صناعة الأسمنت) وغبار الفحم، من داخل أرصفة الميناء إلى منازلهم وأجسادهم مباشرة. تأكيدات كثيرة وانتقادات حادة انطلقت من جانب الأهالى فى الآونة الأخيرة بشأن زيادة تلك المعاناة مع مرور الأيام، نتيجة اتباع مسؤولى الأجهزة الرقابية والتنفيذية، سواء داخل المحافظة أو خارجها، لأساليب اتسمت - بحسب قولهم - بالمماطلة المستمرة، خاصة بعد أن انتهى المطاف بشكاواهم واستغاثاتهم العديدة داخل أدراج المسؤولين.
آمال مختار، موظفة بإحدى الهيئات الحكومية، إحدى المتضررات من أتربة الكلينكر، لم يتبق لها فى أعقاب زواج أبنائها ورحيلهم عن المنطقة، ما يبدد همومها ويقضى على الفراغ الكبير فى حياتها اليومية - والذى تسبب فيه انقطاع هؤلاء الأبناء عن زيارتها نتيجة تخوفهم من تعرض أطفالهم لوعكات صحية بسبب غبار الفحم وأتربة الكلينكر المتطايرة فى الهواء طوال اليوم - إلا تصفح مجموعة من ألبومات الصور التى تضم مقتطفات من مراحل حياتهم المختلفة، بدءا من طفولتهم ووصولا إلى زواجهم.
ما إن سألناها عن طبيعة حياتها وسط هذه الكميات اللامتناهية من مصادر التلوث، حتى بدأت فى سرد ما وصفته بـ«المعاناة» وسط نظرات زائغة لعيون حاولت أن تخفى وراءها إحساساً شديداً بالحزن، وقالت: «مش هاكذب عليك لو قلت لك إنى تعبانة كتير هنا، خصوصاً بعد ما أولادى بطلوا يزورونى وقالوا لى لو عاوزه تشوفينا تعالى عندنا، علشان إحنا مستحيل نيجى عندك إنتى وبابا لأن العيال بتتعب».
اغرورقت عيناها بالدموع وهى تحتضن ألبوم الصور وقالت: «الموضوع ده مأثر فى نفسيتى جداً، لدرجة إن العلاقة بينى وبين أولادى أصبحت مقتصرة على المكالمات التليفونية فقط والزيارات النادرة التى أقوم بها لهم».
وتحشرجت فى حلقها الكلمات وهى تقول: «أنا مخنوقة بجد من الوضع ده، وكل اللى فاضل لى من عيالى شوية صور باشوفها وأنظفها من التراب كل يوم، واللى مزود الإحساس ده عندى إن السبب فى كل ده ناس معدومة الضمير والقلب، بس هاعمل إيه أنا ولا غيرى وإحنا مش عارفين نروح فين ولا نشتكى لمين».
أصبحت «آمال» كغيرها من النساء اللاتى تمتلئ بهن المنطقة تعانى أشد المعاناة فى عملية تنظيف محتويات الشقة الخاصة بها بشكل يومى، بالإضافة إلى صعوبة قيامها بنشر غسيل الملابس الخاصة بها وزوجها فى «البلكونة» المطلة على تجمعات الكلينكر: «الغسيل كله سواء الأبيض أو الملون بيبقى أسود من الغبار بتاع الفحم والأسمنت».
وبلهجة غلب عليها طابع تهكمى، وخلال حديث قصير ظهر فى ثناياه إحساس شديد باليأس، استنكر أسامة عبدالحكيم إبراهيم، أحد سكان أرض درويش، السماح باستمرار تشوين الكلينكر بالقرب من المنطقة السكنية رغم حظر منظمة الصحة العالمية لاستيراد هذه المواد أو تصنيعها فى أى مكان مكشوف بجميع أنحاء العالم المختلفة، وقال أسامة: «ده لو حيوانات قاعدة هنا كانوا خافوا عليهم لكن إحنا واضح إنه مالناش ثمن عندهم».
وأضاف: «أن دول العالم المتقدمة امتنعت عن تصنيع هذه المواد بعدما وجدت - بحسب تأكيده - أن تكلفة علاج العاملين بها أصبحت أكثر من تكلفة تصنيعها، فضلا عما نصت عليه الأعراف والقوانين الدولية المنظمة لشؤون البيئة بشأن تجريم إقامة أى نشاط صناعى أو تشوين للمواد الملوثة داخل المناطق التى تشهد تواجدا سكانيا».
وتابع بنبرة غاضبة: «نسكن فى المنطقة منذ أن كانت هذه الأرض مطاراً قبل مجىء هذه المصانع بأعوام كثيرة، ومن يشكك فى صحة هذا الكلام، نحن على استعداد تام لتقديم العقود الرسمية المسجلة لمنازلنا، والتى تؤكد أسبقيتنا فى التواجد فى المنطقة».
وأمام باب خشبى لإحدى الشقق الموجودة فى الدور الثانى بالعقار المواجه لتشوينات الكلينكر فى شارع الميناء، وقفت إخلاص سيد محفوظ، «ربة منزل»، وقالت: «ساكنة هنا بقالى 14 سنة وكل يوم بيعدى علينا هنا بنموت فيه 100 مرة، لدرجة إن زوجى وابنى البالغ من العمر 22 عاما مش بيتحركوا من غير استخدام (البخاخة) نتيجة الحساسية التى أصيبوا بها».
«الكلام مش هيجيب نتيجة ما إحنا اشتكينا كتير لكن إيه اللى حصل ولا حاجة طبعا.. لأنه مفيش فايدة هما خلاص ناويين على موتنا».. كلمات قليلة مباغتة نطق بها لسان رجل ستينى أطل برأسه من باب الشقة المقابلة، تسببت فى توقف جارته إخلاص عن الحديث، والذى رفض الإفصاح لنا عن اسمه عندما وجهنا إليه سؤالا يتعلق بالوضع الراهن الذى تعيش فيه المنطقة منذ فترة، مكتفيا فى الوقت نفسه بترديد جملة واحدة هى: «لو عاوز تعرف أو لو فيه حد تهمه أرواح آلاف الناس هنا وعاوز يعرف إحنا بنعانى إزاى، انزل وشوف نسبة مبيعات أدوية الحساسية وأمراض الصدر فى الصيدليات الموجودة فى المنطقة وأنت تعرف».
وقال حسن أنور عبدالعزيز، «محام»، أحد سكان المنطقة، إن موقع أرصفة الفحم والكلينكر مخالف للأعراف والقوانين الدولية المنظمة للبيئة، خاصة قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994، حيث يتم تخزين هذه المواد الملوثة للبيئة داخل أسوار الميناء فى ظل غياب الرقابة البيئية عليها، «من الآخر كده إحنا عايشين حسب إرادة الناس دى».
وأضاف: «حصلنا على أكثر من 50 حكماً قضائياً بصفة نهائية منذ سنوات تقضى بمنع وإزالة تخزينات المواد الأولية الضارة بالبيئة والموجودة داخل الميناء لكن لم يتم تنفيذها ولاتزال المشكلة مستمرة».
واعتبر عبدالعزيز استخدام خطوط «مواسير» ضخمة تمر أسفل الأرض يتم من خلالها ضخ المواد الأولية الملوثة للبيئة والموجودة على السفينة سواء كانت (كلينكر) أو فحماً، بشكل مباشر بواسطة أجهزة «الكومبروسر» (ضواغط الهواء) ليتم تخزينها داخل الشركة، بعيدا عن المناطق السكنية، حلا منطقيا لمشكلة التلوث، ووصف ما يتم استخدامه حاليا من وسائل مثل رشاشات مياه والأشجار بالحلول «الفاشلة»، «علشان بمجرد شروق الشمس تلاقى المياه المرشوشة على التراب جفت وكمان الشجر مش مستحمل التلوث».
محاولات يائسة ومجهودات يومية مضنية بلا فائدة.. تلك التى يبذلها الأهالى ممن يقيمون فى العقارات القريبة من أرصفة الفحم والكلينكر، فى عمليات تنظيف محتويات الشقق وواجهات ومداخل المنازل من طبقات الأتربة السوداء، والتى قال عنها محمود سلامة، أحد سكان أرض حكمت: «أصبنا بحالة شديدة من اليأس نتيجة استمرار وجود الكلينكر والفحم فى المنطقة، لدرجة أننا فكرنا ولانزال نفكر فى تركها بسبب معاناتنا فى عمليات إزالة الأتربة من المفروشات داخل الشقق والبلكونات».
أوضاع وهموم سكان أرض العوضى لم تختلف كثيرا عن هموم سكان أراضى درويش وحكمت، فالمشكلة واحدة وإن بدا تأثيرها أقل وطأة على سكانها نتيجة مواجهتها المباشرة لتجمعات خام الكلينكر وأكوام الفحم التى تراوحت ارتفاعاتها بين 5 و6 أمتار، ورغم قيام شركة «سيسكو» المسؤولة عن تجميع وتخزين خامات الكلينكر فى الميناء بتركيب رشاشات مياه فى المنطقة المواجهة للعقارات أملا فى منع وصول الغبار إلى السكان، فإن أقوال أهالى المنطقة أكدت بما لا يدع مجالا للشك عدم جدوى استخدام هذه الرشاشات التى لا تعمل - بحسب تأكيداتهم - إلا فى حالة وجود زيارة رسمية أو تفتيش من قبل مسؤولى البيئة.
وأكد على مصطفى توفيق، فى الخمسين من عمره، أنه يعانى مشاكل كثيرة فى الصدر، وأنه أحد ضحايا التلوث، وقال إنه على الرغم من انخفاض تأثير التلوث الصادر من رصيف الفحم فى الميناء بشكل واضح عن السنوات الماضية، فإن معدل التلوث الحالى بسبب تواجد تشوينات الكلينكر أصبح مجاوزا للاشتراطات والمواصفات البيئية، مما تسبب - بحسب قوله - فى قيام الكثير من الأسر بهجر منازلهم أو بيعها بأبخس الأثمان من أجل الهروب من ملاحقة أتربة وغبار الموت، على حد وصفه.
استند توفيق على قطعة من القماش وضعها على سور «البلكونة» المغطى بطبقة سوداء من تراب «الكلينكر»، وهو يتذكر أجواء منطقة الدخيلة قبل إنشاء رصيف الفحم عام 1988، وقال بنبرة كادت تتدفق معها دموعه مما وصفه بـ«تواطؤ» و«محاباة» بعض المسؤولين لأشخاص بعينهم على حساب أرواح مئات الآلاف من المواطنين الأبرياء الذين يقيمون فى المنطقة: «قبل إنشاء الرصيف كانت هذه الأرض تضم مطارا ومصيفا لا مثيل له، وكنت عندما أجلس فى هذه البلكونة أستمتع كثيرا بمنظر المياه الزرقاء فى البحر مباشرة، لكن هذه الحياة لم تدم طويلا خاصة بعد إنشاء رصيف الفحم وتسببه فى مشكلات كثيرة للمنطقة وسكانها، ومن بعده جاء رصيف الكلينكر الذى أدى إلى رفع معدلات التلوث بشكل غير طبيعى، وهجرة الكثير من السكان لمنازلهم هربا من الموت البطىء الذى يلاحقهم مع كل لحظة تمر على وجودهم فى المنطقة».
وأضاف توفيق بعد صمت دام لحظات: «أرسلنا مئات الشكاوى إلى مجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية والمحامى العام والمحافظ اللواء عادل لبيب، باعتبار أن هذا الأسلوب الحضارى يعد احتراما منا لهؤلاء المسؤولين الذين نقدرهم كثيرا، ورغم ذلك محدش سأل فينا».
وتابع: «الدولة تحركت كلها علشان موضوع أنفلونزا الطيور والخنازير اللى راح ضحيته 50 أو60 مواطناً، وإحنا اللى أكثر من 150 ألف بنى آدم، مش صعبانين على حد فيها، وكل ده علشان مصانع الأسمنت والفحم والحديد أصبحت أهم من الشعب المصرى نفسه».