رغم ما يبدو على هذه المجموعة الشعرية من أنها حالة بوح ذاتى، فإنها تتقاطع وبقوة مع هم وطنى عام، لا يفارقه الحنين إلى وطن مفقود وحس أسيان على ما صارت عليه أحوال العرب، أما المجموعة الشعرية فتحمل عنوان «لاجئ له أوطان» وهى للشاعر سامى القرينى، ولعل التعريف بالشاعر أولاً يوجد لنا مدخلاً للوقوف على الحالة الشعرية لهذه التجربة، إذ ينطبق عليها توصيف أنها من لحم التجربة، فسامى القرينى رجل أعمال ومستثمر حول العالم، وهى مفارقة من نوع خاص إذ يجمع بين لغة الأرقام ولغة الشعر، فهو منخرط فى الإبداع منذ نهاية الستينيات، وهو مولود بالقاهرة فى عام 1957م لأب وأم فلسطينيين من جذور مصرية، وقد ولدا فى يافا، وسامى القرينى مهندس معمارى تخرج فى كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1981م وانخرط فى نشاطه الثقافى منذ عام 1968 من خلال قصر ثقافة الإسكندرية إلى أن انتقل مع أسرته إلى كندا منذ سبعة أعوام.
هناك مبرر لنزعة الاغتراب فى قصائده وقد ولد بلا وطن، تتضمن المجموعة الشعرية 22 نصاً شعرياً، كان لمصر ويافا وكندا حضور ظاهر فى هذه النصوص، غير أنه من المظلم أن نقول إن نصوص هذه المجموعة تقتصر على هم وطنى أو تخيم عليها نزعة الاغتراب فقط، فهناك أيضاً نصوص تحلق فى أفق إنسانى أوسع حيث التجربة الإنسانية ونزعة التأمل أيضاً، ولأن حالة من الشجن الأسيان تخيم على معظم نصوص المجموعة فإننا نقف على ذلك الإيقاع المتهادى.. الذى يكرس لإيقاع هذه الحالة الشعرية.
يقول سامى فى إهدائه الذى يعبر عن مدخل عام يؤطر التجربة «إلى كل لاجئ بلا وطن إلى كل من يشعر بالغربة فى وطنه، إلى أوطانى التى أحب وأعشق، إلى وطنى الأعظم العظيمة أمى».
إذن فالأم هنا رديف الوطن ولكنها وطن يقينى متعين فى مقابل وطن مفقود ومسلوب، لقد قدم لهذه التجربة فوزى الجزايرلى الذى وصف شعر سامى «إنه مثلما اقترب من شعر سامى فقد اقترب من نفسه وشعر بالفائدة والاستئناس» كما قدم لها الشاعر الكبير أحمد عنتر مصطفى الذى قال «إن الصدق هو المعيار الأساسى للحكم على أى شاعر، وأن تجربة سامى تتدفق ألماً ونبلاً بغير شكوى أو أنين وأنها تعكس ثراء مشاعره، ونقف من خلالها على جرح إنسانى عميق، خلفته أبشع المآسى فى قرننا الماضى، وهى مأساة الشعب الفلسطينى المنكوب».
الشاعر أيضاً يعرف بنفسه فيقول «مسلم كندى أنا.. فخرى عروبة تسرى فى شرايين مصرى حتى النخاع دمى.. تهتف خلاياى إنى فلسطين».
إنها فسيفساء هوية تحت عنوان «موسيقى الخلود» ونجد مصر حاضرة مرة أخرى فى نص شعرى يحمل عنوان «فلتحلمى يا مصر» يقول مطلعها: «فلتحلمى يا مصر.. ولتتحررى.. حطمى كل القيود.. تجاوزى - إن شئت رفعة - كل الحواجز والحدود.. وتغيرى».. وفى امرأة فلسطينية يقول: «يملؤنى إحساس أنى قزم.. فى محراب امرأة فلسطينية عمرها.. عمر القضية» إن هذه المرأة التى تجسد صمود الشعب الفلسطينى يقول عنها الشاعر «بصدر عار.. تواجه وطفلاها دبابة.. مدججة بالقوة مغرورة لا تشغلهم سطوتها.. لا ترهبهم قوتها.. يرونها ذبابة»، فى هذه القصيدة تتجلى سطوة المشهد الفلسطينى ومن ثم تتجلى دراما مواجهة هذه الشعب الأعزل للآلة الإسرائيلية الغاشمة، إنه ميراث النضال الذى لا يفتر، إن المرأة الفلسطينية والطفل الفلسطينى يقاتلان نيابة عن أمة.
ويكتب الشاعر عن محنة شعب غزة نصاً مطولاً تحت عنوان «كهنة الظلام» قال فيه إن جريمة أهل غزة «جريمتهم أن أحيوا فى أمتهم بعض الكرامة» أما عن موقف العرب مما يحدث فى غزة فيقول «بلهاء.. نشاهد كجمهور يتابع مسرحية»، إن هذا الموقف العربى المتخاذل يعبر عنه الشاعر فى قصيدة «من نحن؟؟»: «ابتلينا بقوم قالوا عنا بلهاء.. حكمونا فألبسونا ثياب النساء.. وارتضوا لأنفسهم ثياب العملاء.. فحلت على بلادنا لعنة الأرض.. والسماء».. ويستطرد فى تفاصيل المأساة فيقول: «صرنا نلعن الصامدين الرافضين.. نلعن حتى الشهداء.. لعلنا من جلادنا ننال بعض الرضاء».
ونهاية نحن إزاء حالة شعرية بلا زخرف ولكنها عامرة بالوجع مشحونة بالتفاصيل الحميمة، ولكنها تفاصيل تفيض عذوبة وعذاباً وحنيناً واغتراباً وتقطر ألماً على الوطن السليب والأمة التى لحق بها الهوان وتداعت عليها الأمم غير أن هناك الكثير من المناطق الإنسانية المشرقة فى التجربة حيث الأمل القادم مع الأطفال وحيث المرأة الفلسطينية «مدرسة الصمود الأولى» وحيث المناضلون المناهضون لهيمنة الغرب فهم الجيل الذى لم يفرط بعد، ومن أجمل قصائد الديوان تلك التى تسافر فى النفس الإنسانية وتسبر غورها.. وتبعث نقاط القوة والأمل فيها وإلى أن تتجاوز الأمة عثرتها ومحنتها فإن الشاعر المهاجر والمغترب واللاجئ سيظل الوطن العربى كله وطنه فهو لاجئ له أوطان.