واحدة من الدراسات المهمة عن الأوضاع فى مصر الآن، كتبها آدم شاتس فى مجلة لندن ريفيو أوف بوكس معلقا ومحللا للأوضاع السياسية فى مصر..
المجلة، كما يوحى اسمها، بريطانية، تصدر منذ ١٩٧٩ كل أسبوعين، وتعد واحدة من أكثر المجلات الثقافية رصانة وانتشارا فى بريطانيا وأوروبا، وتعنى بنشر المقالات الفكرية والأدبية الرصينة بالإنجليزية بأقلام الكتاب والأكاديميين والصحفيين البارزين، إلى جانب عروض موسعة للكتب الجديدة، ومقالات نقدية قصيرة فى الفن والسينما، وهى تقدم فى كل عدد تنويعة من الموضوعات السياسية والاجتماعية والأدبية والتاريخية.
آدم شاتس كاتب هذه الدراسة هو مدير تحرير فى لندن ريفيو أوف بوكس، ورئيس سابق للقسم الأدبى فى ذى نايشن الأمريكية، وعمل من قبل فى ملحق الكتب بنيويورك تايمز ولينجوا فرانسا وذى نيويوركر الشهرية الأمريكية، وهو محرر كتاب «رفض الأنبياء: قرن من الكتابات اليهودية المعارضة للصهيونية وإسرائيل» (الصادر عن نايشن بوكس)، و
عمل مراسلا لنيويورك ريفيو أوف بوكس من لبنان والجزائر، وساهم فى العديد من المقالات فى السياسة والموسيقى والثقافة فى مطبوعات أخرى. على خلاف المقالات السريعة فى الصحف اليومية التى يميل مراسلها إلى التقاط خيط من معارض أو باحث مصرى ويطوره تبدو مقالة شاتس أكثر شمولية، حيث يتوقف عند مشاهد ووقائع رمزية ذات دلالة مفصلية فى مجمل الصورة التى يضفرها معا.. بالإضافة إلى عمق التحليل تمثل المقالة- ربما- نموذجا للتحقيقات السياسية المثيرة للتأمل.. بعد القراءة!
فى ٦ أكتوبر ١٩٨١، حضر الرئيس الراحل أنور السادات عرضا عسكريا احتفالا بالذكرى السنوية لعبور قناة السويس فى حرب ١٩٧٣ مع إسرائيل، كان العرض مناسبة أيضا لاستعراض الطائرات الأمريكية والبريطانية والفرنسية التى حصلت عليها مصر مؤخرا: كرمز على التقارب مع الغرب بعد أن ظلت مصر أكثر من عقدين حليفا للاتحاد السوفيتى.
وكان السادات يرتدى بذلة عسكرية على النمط الألمانى البروسى لكنه لم يكن يرتدى القميص الواقى من الرصاص: فقد كان يخشى أن يبدو فى مظهر ضعيف، وكانت التكهنات عن مؤامرة لاغتياله منتشرة، حتى إن نائبه حسنى مبارك حذره من حضور العرض العسكرى لكنه رفض، وعندما وقف لتلقى تحية عدد من الجنود نزلوا من عربتهم ليقتلوا السادات بوابل من القنابل والرصاص.
وبعد ثمانية أيام صعد حاكم جديد مازال حتى الآن فى السلطة.. حسنى مبارك لم يكن خليفته المتوقع: كان تعيينه فى منصب نائب الرئيس عام ١٩٧٥ مفاجأة للمراقبين السياسيين.. فهو مجرد ضابط متميز، لم يكن مثلهما عضوا فى تنظيم الضباط الأحرار، لكنه كان يخدم الدولة بإخلاص،
وقاد الضربة الجوية التى سمحت للقوات البرية بالعبور إلى سيناء، وقد اعترف عند توليه الرئاسة بنقص خبرته السياسية، وتعهد بطلب المشورة، وجعل الفترات الرئاسية محدودة، الآن يبلغ ٨٢ عاما ومازال يحكم مصر منذ ٢٩ عاما، ومن المقرر إجراء انتخابات رئاسية جديدة العام المقبل، لكن مبارك قال إنه سيعمل «حتى آخر نفس فى صدره، وآخر نبضة فى قلبه»، والمرجح أن يفى بهذا الوعد.
لم تكن مصر دولة ديمقراطية على الإطلاق، بل سيطر الجيش دائما على حياتها السياسية، حتى فى عهد الليبرالية الوطنية بعد الحرب العالمية الأولى عندما كان فى مصر حياة برلمانية نابضة، كانت سلطة الاحتلال البريطانى تقلص من السيادة الشعبية، وبسبب ثورة يوليو ١٩٥٢ خضعت مصر لحكم الديكتاتورية العسكرية، رغم أن سياسة التعدد الحزبى فى أواخر السبعينيات منحته قدرا من التنوع الشكلى..
وكانت أخطاء عبدالناصر مذهلة: فشل الوحدة مع سوريا، والتدخل فى حرب اليمن، وهزيمة ١٩٦٧ الكارثية، وإنشاء قطاع عام غير كفء لا تستطيع الدولة تحمل خسائره، وقمع المعارضة، بل وقمع السياسة نفسها، لكن عبدالناصر حقق إنجازات أيضا.. نفذ الإصلاح الزراعى، وأمم قناة السويس وبنى السد العالى، وجعل من مصر قوة رئيسية فى حركة عدم الانحياز،
وكان إذا تحدث وقف العالم العربى كله ينصت إليه، أما السادات فقد اختلف مع رؤية ناصر للقومية العربية، ودفع بأجندة «مصر أولا» التى أدت فى نهاية المطاف لوقوع البلاد فى أحضان الولايات المتحدة وإسرائيل، ولكنه كان أيضا رجل دولة كبيراً يتمتع بقدرة هائلة على أخذ زمام المبادرة، بقيادته لانتصار أكتوبر ١٩٧٣، الذى أزال عار الهزيمة، وتمكن من استعادة سيناء، ورغم أن اتفاقية السلام مع إسرائيل أثارت غضب العرب، تمكن السادات من جعل مصر لاعبا مهما فى العالم،
ولكن بعد ذلك شهدت مصر (أم الدنيا) تراجع نفوذها، وفى القاهرة التى تحول كثير من ضواحيها إلى أحياء عشوائية فقيرة يتجلى بوضوح أكثر من أى مكان آخر إحساس طاغ بتراجع العالم العربى، فى تلك المدينة الضخمة تواجه صعوبة فى التنفس لشدة كثافة الهواء نتيجة التلوث، فالغلاف الجوى خانق بالضبط مثل الحياة السياسية.
لا يحتاج المصريون إلى كثير من الجهد للتعبير عن مشاعر الإحباط واليأس والانكسار.. فمصر لم يحدث فيها تطور إيجابى منذ سنوات، بل تراجعت كقيادة إقليمية وراء السعودية- ناهيك عن دول غير عربية مثل تركيا وإيران- وحتى قطر الصغيرة لديها سياسة خارجية أكثر استقلالا، ومصر أكبر بلد عربى يعتبرها معظم العرب- والمصريون أنفسهم- دولة عميلة للولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين تعتمدان على القاهرة لضمان «الاستقرار» الإقليمى فى الصراع مع «جبهة المقاومة» بقيادة إيران.
استمرار مبارك فى سياسة تحرير الاقتصاد المصرى جعلت البنك الدولى يشيد بإدارته، والدستور الذى تم تنقيحه من الإشارات إلى الاشتراكية فى ٢٠٠٧، يقول إن «الاقتصاد فى جمهورية مصر العربية يقوم على تنمية روح المبادرة»، لكن السوق فى مصر ليست حرة على الإطلاق: صفقات رجال الأعمال تتم بناء على علاقات خاصة مع الدولة وفى دوائر ضيقة ووفقا لمبدأ المنفعة المتبادلة.
ورغم وعود النظام– وعلى عكس توقعات رعاة مصر فى الغرب- لم يؤد التحرير الاقتصادى إلى نتائج ملموسة على صعيد التحرر السياسى: عندما تبنت مصر عام ١٩٩٢ رؤية صندوق النقد الدولى لحزمة التكيف والاستقرار الهيكلى بدأت فى محاكمة مدنيين أمام محاكم عسكرية! أما قانون الطوارئ السارى منذ اغتيال السادات والذى تم تجديده مؤخرا رغم وعد الرئيس بإلغائه، فقد أعطى للحكومة صلاحيات استثنائية لاعتقال معارضيها دون توجيه اتهام واحتجازهم إلى أجل غير مسمى.
أيديولوجية الحزب الوطنى الحاكم شهدت فى السنوات الماضية تحولات ملحوظة فى اتجاهين متناقضين أحيانا، تراجعت وحدة الصف العربى –كما يشير الروائى صنع الله إبراهيم- إلى «وحدة من السلع الأجنبية التى يستهلكها الجميع»، ولم يعد مبارك الضابط الأكثر شعبية على لوحات الإعلانات فى مصر وإنما الكولونيل ساندرز رمز محال كنتاكى فرايد تشيكن، وبينما يتفاخر الحزب الوطنى بالعولمة المتزايدة للاقتصاد وتحقيق نسبة نمو ٧.٥ فى المائة،
يبدو الموقف مختلفا بالنسبة لغالبية السكان: معدلات التضخم ارتفعت منذ تعويم الجنيه فى ٢٠٠٣، ونسبة البطالة الحقيقية أصبحت ٢٦.٣ فى المائة، ولم تحول الإصلاحات مصر إلى «نمر على النيل» كما وعد مبارك، ومازال الاقتصاد يعتمد بشكل غير مستقر على أسعار النفط، والمساعدات الأمريكية (أكثر من ٦٢ مليار دولار منذ عام ١٩٧٧) والسياحة، ومازالت مصر تستورد أكثر من نصف استهلاكها من القمح.
السياسة الخارجية موضوع مؤلم.. السلام الذى توصل إليه السادات مع إسرائيل عام ١٩٧٩ جعل مصر تبدو فى نظر واشنطن دولة «معتدلة»، لكنه أثار توتر المصريين، وتعلم مبارك درسا من مصير السادات: عقد صفقة مع إسرائيل من جانب– ومن جانب آخر محاولة تلطيف عواقبها، أن يحترم معاهدة السلام، لكنه لا يذهب إلى تل أبيب، بكلمات أخرى: لا يجاهر بصداقاته مع إسرائيل حتى لا يجرح كرامة المصريين،
وأن يغض الطرف عن الهجوم العنيف على إسرائيل فى الصحافة، لكى ينفث معارضو «التطبيع» مع تل أبيب غضب المجتمع.. من خلال حفاظه على المظهر فى علاقته بإسرائيل استطاع مبارك إصلاح العلاقات مع جامعة الدول العربية وأعضائها الذين قطعوا علاقاتهم مع مصر وقتها، لكنه أسس شراكة مع إسرائيل فى التجارة بشكل أعمق كثيرا مما كان يمكن أن يتصوره السادات،
فالأجهزة الأمنية فى البلدين تعمل معا بشكل وثيق، ومبارك قدم للسلطة الفلسطينية السلاح ووفر لها التدريب فى مواجهتها مع حماس، والحكومة المصرية تبذل كل ما بوسعها للحفاظ على حصار غزة، حيث تخشى إن هى فتحت معبر رفح أن تغلق إسرائيل جميع نقاط العبور نحو قطاع غزة، للتخلص من الفلسطينيين على حساب مصر التى تعتبر قادة حماس فى غزة حلفاء للإخوان المسلمين خصوم النظام فى الداخل، وإيران وحزب الله خصومه فى الخارج.
النظام المصرى لا يريد أن يتحمل مسؤولية إعاشة أكثر من مليون فلسطينى، ولا أن تتهمه إسرائيل بالمسؤولية عن أى صاروخ قسام يطلق من غزة على سيدروت.. عندما نسفت حماس فى يناير٢٠٠٨ جزءا من الحاجز الحدودى فى رفح وعبر آلاف الفلسطينيين الحدود إلى مصر، وكان بعض المصريين مقتنعون برؤية مبارك فى «الحفاظ على مصر أولا»، لكن كثيرا منهم غضبوا عندما رفض فتح المعبر أثناء الغزو الإسرائيلى لغزة، ويشك كثيرون فى وجود تواطؤ بين إسرائيل ومصر ضد حماس: فقد بدأت الحرب بعد ٤٨ ساعة من زيارة وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبى ليفنى للقاهرة.
بالإضافة إلى تأمين الحدود فى رفح تبنى مصر حاجزا من الفولاذ لا يمكن اختراقه بعمق ١٨ متراً تحت الأرض، وقد أفادت تقارير مختلفة أن بناءه يتم بمساعدة أمريكية رغم نفى الولايات المتحدة، ولم يرد النظام المصرى لفت الأنظار إلى ما يسميه «إنشاءات هندسية»، حجته الرسمية منع تهريب الأسلحة إلى حماس، لكن الجدار يستهدف خنق اقتصاد غزة الذى يعتمد على الأنفاق، ومع ذلك يصر مبارك: «لا نقبل النقاش حول هذا الموضوع مع أى شخص».
بعد حرب ١٩٦٧ اشتدت وتيرة أسلمة المجتمع المصرى، بل أصبحت سياسة واضحة للحكومة فى عهد السادات، الرئيس المؤمن الذى «دعم الإسلاميين فى معركته مع اليسار، وفى ظل مبارك أصبح التدين ظاهرة يومية كالتسوق أو تشجيع كرة القدم، ويستهدف استخدام الحكومة للدين حاليا صرف الانتباه عن الإحباطات اللامحدودة فى حياة المصريين، وأصبح الخطاب الإسلامى يلبى بشكل متزايد الاحتياجات الاستهلاكية.. ولا يشكل هذا الخطاب تهديدا للنظام، بل يسهل الحياة فى ظله.
اتساع تأثير المساجد– وانتشار نفوذ الإخوان المسلمين فى الأحياء الفقيرة– زاد من قلق الأقلية القبطية، التى زاد تدينها وارتباطها بالكنيسة أيضا، ورغم أن كثيرين منهم فقراء– كثير من جامعى القمامة فى المقطم شرق القاهرة أقباط-
إلا أنهم يعتبرون مميزين من الناحية الاقتصادية، فأغنى عائلة مصرية هى عائلة نجيب ساويرس صاحب شركة أوراسكوم العملاقة ويتمتع بعلاقات قوية بالرئيس مبارك.. الأقباط يعانون من عدة أشكال للتمييز: لا تتم ترقيتهم إلى المناصب العليا والكنائس، على عكس المساجد لا تحصل على دعم أو إعانات من الدولة، والأقباط لا يشعرون بالاطمئنان من خطاب الإخوان المسلمين- الذين أعلن مرشدهم السابق مهدى عاكف أنه يفضل مسلما ماليزيا رئيسا لمصر على أن يحكمها مسيحى مصرى- ويخشون من أن تصبح مصر دولة إسلامية فيضطرون إلى مغادرتها،
أما المتطرفون من أقباط المهجر فقد تحالف بعضهم مع المسيحيين الصهاينة فى الولايات المتحدة، ليثيروا شكوك المسلمين فى أن المسيحيين باتوا حصان طروادة للغرب. مناخ من عدم الثقة أدى إلى إحداث عنف طائفى بشكل متزايد، فى ليلة عيد الميلاد العام الماضى قتل ستة أقباط فى نجع حمادى عقب خروجهم من الكنيسة، انتقاما على ما يبدو من اغتصاب فتاة مسلمة، وأعقبتها أحداث شغب ونهب ضد مسلمين وتدخلت الحكومة بسرعة، وأعلنت أن أعمال العنف لم تكن طائفية وإنما جريمة ثأر بين عائلات، ولم يخدع هذا الادعاء أحدا.
غالبا ما تقارن مصر حاليا بإيران فى الأيام الأخيرة للشاه: طبقة وسطى تقلصت بسبب التضخم، غضب على النظام لتحالفه مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وشعور عميق بالمهانة يجرى التعبير عنه بشكل متزايد من خلال حماس إسلامى، وغضب عام تجاه الطبقة الحاكمة فى دولة تآكلت شرعيتها بالكامل تقريبا.
فى عام ٢٠٠٥ نظمت الحركة المصرية من أجل التغيير- وهى تجمع من اليساريين والناصريين والإسلاميين معروف باسم حركة كفاية- سلسلة من المظاهرات بوسط القاهرة، حيث تجرأ المصريون للمرة الأولى على انتقاد الرئيس مبارك علانية، وطالبوا بتنحيه عن السلطة، منذ ذلك الحين تظاهر مئات الآلاف من المصريين: اليساريون والإسلاميون يطالبون بإنهاء حالة الطوارئ، والقضاة يرفضون التعديلات الدستورية التى حرمتهم من حق الإشراف على الانتخابات، والعمال يضربون من أجل تحسين الأجور ومن أجل نقابات عمالية مستقلة،
وفقراء المزارعين الذين أعاد ناصر توزيع الأراضى عليهم يدافعون عن أنفسهم ضد محاولات كبار ملاك الأراضى استعادة ممتلكاتهم – بدعم من الدولة فى كثير من الأحيان، وأحيانا بمساعدة البلطجية- انتشار هذه الاحتجاجات بشكل لم تشهده مصر منذ مظاهرات الطلبة ضد سياسة الانفتاح الساداتية فى السبعينيات، دفع بعض المراقبين إلى الاعتقاد بأن مصر تمر بلحظة «التغيير»، تلك الكلمة التى تمثل القاسم المشترك فى نوعيات جديدة من الحركات الاجتماعية المصرية.
ومع ذلك لم تتبلور الاحتجاجات فى حركة أوسع ذات أجندة واضحة، ونجح النظام جزئيا فى تحييد المعارضة بإتاحة هامش من الحريات: من خلال السماح بصدور العديد من الصحف المعارضة المستقلة والسماح بالانتقاد العلنى لمبارك، فيقول أحد نشطاء كفاية «ما هو مسموح به لنا هو حرية الصراخ وتنفيس الغضب»، ولكن ما النتيجة؟: معظم المصريين ينأون بأنفسهم عن الاحتجاجات، منذ مظاهرات يناير ١٩٧٧ بسبب رفع سعر العيش البلدى، مازال المصريون صامتين، حتى رغم انخفاض مستويات المعيشة،
المزاج العام للشعب المصرى يرتبط بدرجة أكبر بالتقاليد التاريخية مقارنة بالتفكير العقلانى الواقعى، ٢٥ فى المائة من المصريين يعيشون فى مدن الصفيح، وأكثر من ثلث سكان القاهرة البالغ عددهم ١٩ مليونا يعيشون فى العشوائيات بدون مياه شرب نظيفة أو شبكات صرف صحى، من عينة الناس الذين تراهم فى أماكن مثل سوق الجمعة فى منطقة المدافن، حيث تقيم عشرات الآلاف من الأسر فى الأضرحة..
هنا يأتى الفقراء لشراء المستلزمات المنزلية.. حيث يباع أى شىء وكل شىء: الفضيات القديمة وإطارات السيارات وقطع الكمبيوتر والطيور والقرود والخضروات المغلفة بالغبار والأوساخ والفسيخ الذى تصدر عنه رائحة لا يمكنك أن تنساها.. هؤلاء الناس يفضلون التسول على أن يشاركوا فى المظاهرات.
يشير هانى شكر الله، أحد قيادات الحركة الطلابية اليسارية فى السبعينيات إلى أن «النظام يتبع سياسة متعمدة من القمع الانتقائى على أساس فئوى»، ويوضح ذلك من خلال وصفه لصورة فوتوغرافية من مظاهرة لحركة كفاية بوسط القاهرة «يمكنك أن ترى ثلاث دوائر: الدائرة الأولى للمتظاهرين وهم بضع مئات من الأشخاص، حولهم حلقة من عدة آلاف من ضباط الشرطة، وحولهم دائرة الشعب، الشعب مجرد مارة عابرين أو متفرجين»، المهنيون من أبناء الطبقة الوسطى فى حركة كفاية يمكنهم أن يهتفوا بشعارات مثل «يسقط مبارك» لأنهم يخاطرون فى أسوأ الأحوال بالتعرض للضرب.
وجد النظام الحاكم وسائل ترهيب كثيرة، إحداها وجود أمن الدولة فى الأحياء السكنية وداخل الحرم الجامعى، على مسافة دقائق سيرا على الأقدام من مبنى السفارة الأمريكية –حيث الحواجز الأمنية الدائمة منذ غزو العراق فى ٢٠٠٣- تقع وزارة الداخلية التى لا يمكن إنجاز شىء دون موافقتها: تعيين أساتذة الجامعات والقضاة والصحفيين يتطلب موافقة من ضباط أمن الدولة، وأى شخص يريد إنشاء منظمة غير حكومية أو مدرسة أو محطة تليفزيونية عليه أن يحصل أولا على موافقة الداخلية..
الوزارة لديها جيش من مليونى مخبر: أى مخبر لكل ٤٠ مواطناً، وزارة الداخلية صارت واحدة من أقوى الأذرع فى الدولة، فمنذ انسحاب مصر من الصراع مع إسرائيل تحولت نحو قمع أعدائها فى الداخل وهم اليساريون ونشطاء حقوق الإنسان، وقبلهم الإسلاميون.