x

مذكرات وشهادات وصور من حياة الضاحك الباكى.. «نجيب الريحانى» (1)

الإثنين 31-05-2010 04:53 | كتب: نشوي الحوفي |
تصوير : other

لا تعرف حينما تشرع فى الكتابة عنه من أين تبدأ. من حياته التى عاشها مخلصاً للفن وعاشقاً للنساء؟ أم من تأثيره فى تكوين المسرح الحديث فى مصر بكل ما تعنيه الكلمة؟ أم من تصريف القدر الذى جعل من سنوات عمره قصة أشبه بالحكايات التى لا تنتهى مفاجآتها حتى بعد رحيله بسنوات وكأنه أسطورة لا تنتهى؟ رغم أن لحظة النهاية فى حياته قد سُجلت فى دفتر التاريخ فى الثامن من يونيو عام 1949 بإحدى حجرات المستشفى اليونانى بالقاهرة بسبب حمى تيفودية، كما يقول سجل الوفيات لذلك العام. حديثنا عن نجيب الريحانى عملاق الكوميديا المصرية الذى أراد أن يحترف الميلودراما فأبى الفن، وساقه فى طريق الكوميديا التى صار عنواناً لها حيث لا تُذكر إلا واسمه مقترن بها، ولا تأتى سيرته إلا وتحدثوا عن تأثيره فيها.

وحديث «المصرى اليوم» عن نجيب الريحانى الآن يقترن بثلاثة أسباب، أولها اقتراب موعد ذكرى رحيله الـ61 التى توافق 8 يونيو المقبل، وثانيها رعايتنا مع مكتبة الإسكندرية لمعرض فى الفترة من 2-5 يونيو تعرض فيه أفلامه وصوره وتقام فيه الندوات الفنية التى تناقش دوره، وثالثها - وهو الأكثر جدلاً - لقاؤنا بابنته جينا التى مثل ظهورها فى افتتاح مهرجان القاهرة السينمائى منذ نحو ثلاثة أعوام مفاجأة ذكّرت البعض بحياة هذا الرجل، ودفعت آخرين لتكذيبها ونفى قصة أن يكون لنجيب الريحانى أبناء من الأساس. ولكن من يتحدث مع جينا-73 عاماً- يدرك أن لديها الكثير عنه وعنها.

فى أحد شوارع حى لوران الراقى بالإسكندرية تقع شقة جينا تلك الشقراء ذات الملامح الأوروبية الصميمة والروح المصرية الأكيدة. تتحدث بلغة عربية تنقصها بعض الحروف التى تجعل منها «خواجاية» كما يقول أولاد البلد المصريون، وتمتلك من روح الفكاهة ما يجعلك تستشعر تواصل لعبة الجينات المؤثرة فى تلك الدماء الأوروبية. وقد لا يتفق الكثيرون فى قصة الجينات تلك، إلا أن جينا لديها ما يستحق أن تسمعه وتراه عن حياة أبيها. ليست وحدها من يتحتم عليك الاستماع لها، ولكن هناك أيضاً الفنان التشكيلى حمدى الكيال الذى جاوز عمره الستين بقليل ولكنه يحتفظ بتاريخ وسيرة نجيب الريحانى من خلال ما يقرب من 91 لوحة رسمها بنفسه بعد لقائه على مدار 3 سنوات، بدأت فى العام 1961، مع رفيق رحلة الريحانى، بديع خيرى، حكى له خلالها الكثير من المواقف والذكريات التى لخصها فى لوحات وعرضها فى العام 1964 من خلال معرض فنى حضره معظم أبطال فرقة الريحانى ومنهم عدلى كاسب ومارى منيب وبديع خيرى نفسه، ولكن تظل نقطة البداية مع جينا.

عند لقائك بها تتراءى أمام عينيك تفاصيل قصة الأميرة «أنستازيا» صغرى بنات قيصر روسيا الأخير «نيقولا رومانوف» الذى اُعتقل هو وأسرته عقب قيام الثورة البلشيفية فى العام 1917 وأعدموا رميا بالرصاص فى العام 1918. وأحاطت بقصة مقتلهم الكثير من الأساطير وتعلق أكثرها بالأميرة الصغيرة التى ذكر أنه لم يتم العثور على جثتها بعد نجاحها فى الهرب خارج روسيا، لتظهر بعدها بسنوات فى لندن من تدعى أنها «أنستازيا» فيرفض قصتها الجميع، ورغم ذلك لا يملكون تكذيبها وهى من سردت وقائع لا يعلمها إلا من عاش فى القصر الإمبراطورى فى روسيا. وهكذا جينا التى أحدث ظهورها صدمة رفضت هى أن تنساق وراء نتائجها أو أن تدافع عن نفسها أو تبرز ما لديها من أوراق، تكرر لك بين الحين والآخر: «لا يهمنى الناس، يكفينى أننى أعرف نفسى. أنا ابنة نجيب الريحانى». ومن هنا كان لقاؤنا معها فى الإسكندرية جزء من حديثنا دار فى منزل الفنان حمدى الكيال الذى سعت للتعرف به وصار من أخلص أصدقائها هو وأسرته، والجزء الآخر دار فى منزلها لتطلعنا على ما لديها من أوراق وصور ومتعلقات.

«فى أواخر عام 1920 كان الخلاف قد دب بينى وبين الصديقة «لوسى دى فرناى» فافترقنا إلى غير عودة ويقينى بأن هذا الفراق كان أولى النكبات التى صبها القدر فوق رأسى وساقها فى حلقات متتالية يأخذ بعضها برقاب بعض. فما كان يغمرنى من خير جارف أضحى بعد ذلك البحر جفافاً من كل ناحية بل شرا مستطيراً، حتى لقد اقتنعت بأن هذه الفتاة كانت هى مصدر الأرزاق وأنها إنما حملت فى جعبتها بسمات الدهر وحظ العمر». تلك كانت بعضاً من كلمات نجيب الريحانى نفسه فى مذكراته التى نشرها لأول مرة فى العام 1937 فى مجلة «الاثنين»، ثم أعادت مجلة «الكواكب» نشرها فى العام 1952، ثم صدرت فى كتاب عن «دار الهلال» سنة 1959، ثم تضمنها الكتاب الذى أعده دكتور محمد كامل القليوبى بمناسبة مهرجان القاهرة السينمائى الدولى عام 2007 واستعان فى جزء منه بالحديث مع جينا التى روت جانباً آخر من قصة حياة والدها وعلاقته بأمها. تقول جينا: «نعم لم أعش مع والدى كأى طفلة ولم أشاهده إلا مرات معدودات عاش فيها بعضا من أيام عمره ولكننى عايشت حنانه وأبوته القصيرة فى سنوات عمرى، وخبرت قصة لقائه من والدتى التى لم تعرف الحب إلا معه. وقصة لقائهما جاءت بالمصادفة فى العام 1917 حينما حضرت أمى لمصر ضمن فرقة استعراضية كانت تجوب العالم، وكانت لوسى مجرد راقصة بين راقصاتها. فى هذا الوقت كان أبى يبحث عن راقصة أجنبية تشارك فى مسرحية من مسرحياته فرشح له صديقه أحمد فران اسم أمى التى رفضت فى البداية لارتباطها بالعمل فى فرقتها التى كان مقررا لها مغادرة القاهرة بعد انتهاء عروضها، كما أن المسرحية كانت باللغة العربية وأمى لا تجيدها، وكانت تخشى أن يكون عملها معه لفترة تنتهى بسرعة. ولكنه أقسم لها أنه لن يتخلى عنها وأن عملها معه مضمون ولكنها ترددت فى إعطائه موافقتها وظلت تتهرب منه أكثر من مرة كلما سأل عنها فى البنسيون التى كانت تقيم فيه، حتى ترك لها ورقة قال لها فيها: «البروفة يوم الأحد الساعة 12 وأنا فى انتظارك». حكت لى أمى أنها ذهبت فى الموعد وأدركت منذ لحظة لقائها به أن هناك قوة تشدها إليه. كان الجميع يحبونه ويقدرونه فى الفرقة.

تناسى أعضاء الفرقة اسم لوسى الحقيقى وباتوا ينادونها باسمها فى العرض «جاكلين» وصارت صديقتها المقربة إليها زينب صدقى، إلا أن الأمر لم يخل من مضايقات البعض لها سواء من بين أعضاء الفرقة الذين كانوا يشعرون بمكانتها لدى الريحانى، أو من بعض الجمهور الذى كان يمتدحها بعبارات الثناء على جمالها، فى الوقت الذى توطدت فيه علاقتها بالريحانى. وهو ما تحكى عنه جينا بالقول: «قالت لى أمى إن أبى اعترف لها بحبه وطلب منها ترك العمل والتفرغ له وأن تكون شريكته فى الحياة وهو ما فعلته ولكنهما لم يتزوجا. وعاشت معه وكانا يشعران بأن كلاً منهما تميمة الحظ للآخر على مدى ثلاث سنوات. فأبى خُلق للحب الذى كان كثيرا ما يقع فيه كلما التقى امرأة جميلة، وعرفت أمى أنه على علاقة بفتاة صغيرة كانت قد التحقت بفرقته، وكانت تثور وتمتنع عن الطعام وتبكى وكان يخاف عليها ويعدها بعدم تكرار فعلته ولكنه لم يستطع السيطرة على نفسه حتى إنه ترك لها المنزل يومين قررت فيهما العودة لفرنسا وتركت له خطاباً بألا يبحث عنها لأنه لن يراها ثانية.

شعر الريحانى فى تلك الفترة بحجم الفراغ الذى تركته لوسى بعد رحيلها حتى إنه كتب عبارته التى عبر فيها عن ذلك فى مذكراته ودون أن يعلم أن القدر سيعيد له لوسى مرة أخرى بعد 16 سنة وبالمصادفة أيضاً. فلوسى التى عادت لفرنسا فى العام 1920 التحقت بالعمل كراقصة فى كازينو «مولان روج» وفى العام 1925 تعرفت على شاب ألمانى تزوجته وسافرت معه للعيش فى ألمانيا، لكنها تركته بعد 4 سنوات بعدما اكتشفت أنه سكير كما خسر كل ماله فى القمار فتركته وعادت لباريس، حيث التحقت بالعمل كمصممة أزياء فى فرقة «أوبرا كوميك» حتى كان اللقاء مجدداً مع الريحانى فى العام 1936. وهو ما تحكى عنه جينا قائلة: «كانت أمى فى استوديو بباريس تنفذ تصاميم مطلوبة منها، وتأخر عليها عامل البوفيه فى إحضار الشاى لها، فذهبت لتحضره بنفسها، لتجد نفسها أمام أبى وجهاً لوجه، وكان قد حضر لإنهاء أعمال مونتاج أحد أفلامه، فتعانقا وهما يبكيان من الفرحة، وقد كان على أبى أن يبقى فى باريس لمدة أسبوع واحد، ولكنه ظل مع أمى 3 أشهر عادا فيها للعيش كحبيبين، ولكن اضطر للعودة لمصر بعد انتهاء تلك المدة لارتباطه بأعماله، على وعد بالرجوع لها مرة أخرى. وما هى إلا أسابيع قليلة حتى أرسلت أمى لأبى خطاباً أخبرته فيه بحملها فى، فأرسل لها فى نفس اليوم برقية يطلب منها الاهتمام بصحتها وإخباره بموعد الولادة ليكون فى استقبال الوليد.

جاءت «جينا» للدنيا فى 14سبتمبر من عام 1937 فى ألمانيا دون أن يكون والدها فى انتظارها، فأرسلت لوسى برقية للريحانى تخبره فيها بمولد ابنتهما ولكنه لم يستطع السفر إليهما. ولتعمدها فى الكنيسة بغير حضور والدها الذى كتب اسمه فى خانة الأب بالألمانية فى شهادة التعميد. وهو ما تحكى عنه جينا قائلة: «لم يستطع بابا الحضور لرؤيتى وليدة، وكان هتلر وقتها فى قمة زهوه بما يحققه لألمانيا وكانت أمى تخشى من التعرض لأى مساءلة إن هى سجلتنى فى الأوراق الرسمية باسم مصرى لا يتناسب والعرق الآرى كما كان يقول هتلر. ولذا سجلتنى باسم عائلة أبيها، وكتبت اسم والدى فى شهادة التعميد فى الكنيسة. والتقينا بأبى فى صيف العام 1938 فى باريس وكان يدللنى باسم أميرتى الصغيرة، يومها وضع وديعة باسمى فى بنك «كريدى لونيه» مبلغ 50 ألف فرنك كى تنفق أمى على من ريعه. وظل معنا حتى اضطر للعودة مرة أخرى لمصر، ولكننا سافرنا له وقضينا معه 15 يوماً فى الفيوم فى أعياد كريسماس عام 1938 عدنا بعدها أنا وأمى مرة أخرى لباريس.

هنا يقفز السؤال ولما لم يعلن نجيب الريحانى زواجه من لوسى وإنجابه منها طفلة؟ ولم كان يحضرهما فى الخفاء ويزورهما سراً خلال تواجدهما فى مصر؟ الإجابة تأتى على لسان جينا التى تقول: «كان أبى متزوج فى ذلك الوقت من الراقصة «بديعة مصابنى» التى كانت شديدة الغيرة عليه ولم يكن يستطيع إعلان زواجه بغيرها حتى لو كان ذلك فى الخارجاً. ولذا كان وجودنا دوما سرياً فى حياة أبى، وكان سبباً فى بعض الأحيان فى نشوب المشكلات بين بابا وماما التى كانت تشعر بالإهمال من جانب بابا والخوف من معرفة قصة زواجهما.

مرة أخرى يلتقى الريحانى ولوسى وابنتهما فى باريس فى العام 1939 أثناء تواجده بها لعمل مونتاج أحد الأفلام، يطلب منها قبل مغادرتهما أن تجهز نفسها للمجىء لمصر لأنه قرر أن يستأجر لهما شقة فى حى الدقى القريب من المدرسة الألمانية لتدرس بها جينا، واعداً إياها بالتردد عليها بين الحين والآخر. وهو ما كان واستمر حتى العام 1940 حينما تلقت لوسى رسالة من والدتها تخبرها بأن أباها مريض للغاية فى ألمانيا ويطلب رؤيتها، فتسافر مع جينا لألمانيا لزيارته ولكن تمنعها ظروف الحرب من العودة للقاهرة بعد إعلان هتلر إغلاق الحدود الألمانية وإعلان حالة الطوارئ لتصبح ألمانيا بلداً مغلقاً لا يمكن الخروج منه أو الدخول إليه، وانقطعت الخطابات بين لوسى والريحانى. وعانت جينا من مناخ الحرب الذى تتذكره بقولها: «كان كل شىء حولنا كئيب وكانت أعداد القتلى تزداد، وهتلر يردد أن ألمانيا فوق الجميع وعندما مات الرجال أخذ الصبيان الصغار للمشاركة فى الحرب. كانت القنابل تنهار علينا من كل جانب واضطررنا للانتقال لكوخ صيفى من الخشب بجوار شاطئ البحر لم تكن به نوافذ فوضعنا عليه ورق الكارتون، كثيرا ما شعرت أنا وأمى ووالداها بالجوع نتيجة نقص الطعام ولكن كل الشعب الألمانى كان يعانى لم نكن وحدنا.أذكر أن أمى كانت تنطلق فى الغابة لجمع بعض الأعشاب وطبخها لنا، كما كان الخبز يوزع فى المدارس بمعدل رغيف لكل فرد مرة واحدة فى الأسبوع. كانت أمى وجدتى تحملان أجساد الموتى ويضعنها فى صندوق من الخشب لدفنها دفناً جماعيا حتى لا تتفشى الأمراض».

وقتها كانت جينا تبلغ من العمر 5 سنوات وقد ألحقتها أمها بمعهد لتعلم الباليه، وأظهرت فيه تفوقا وموهبة حتى صارت بطلة لعدد من عروض المعهد ببلوغها ست سنوات من عمرها. ولكنها ظلت تعانى مع أسرتها ويلات الحرب التى اشتدت تفاصيلها وصار الحديث عن رعب يصيبهم منها، أو ملاجئ يختبئون بها خوفاً من طلقات مدافع أو قذائف طائرات، حديثا مكرراً. تقول جينا: «فى العام 1944 وكان عمرى 8 سنوات حاولنا أنا وأمى وجدتى الهرب لسويسرا ولكن فشلت محاولتنا وتم ترحيلنا إلى قرية «كينتس» فى المنطقة الشرقية وظللنا بها حتى انتهاء الحرب فى العام 1945 وتقسيم ألمانيا إلى جزءين تسيطر روسيا على الشرقى منه، بينما تسيطر أمريكا وإنجلترا على الجانب الغربى منه. فى العام 1946 نجحنا فى الهرب إلى الجزء الغربى من ألمانيا بمساعدة جنود إنجليز، واستقررنا فى ميونيخ والتحقت أمى بالعمل كممرضة فى احد المستشفيات. كان الفارق فى المعاملة بين الروس والأمريكان والإنجليز كالفارق بين الأرض والسماء. ولكن أخذت الأمور فترة طويلة حتى استقرت. ونجح والدى فى لقائنا فى باريس فى العام 1946 وقضى معنا شهرين. كانت تلك المرة الأولى التى أرى فيها والدى منذ سنوات. أذكر يومها أن والدتى ألبستنى فستاناً نظيفاً وحضرت الطعام، وقالت لى سيأتى ضيف مهم اليوم لزيارتنا. وعندما دق الباب وجدت أبى يدخل وهو يحمل فى يده عروسة صينى رائعة وجرى على واحتضننى. أتعرفين عندما أشاهد فيلم «لعبة الست» أشعر أنه أكثر الأفلام تعبيرا وقربا من شخصية بابا الحقيقية. كان هكذا حنوناً هادئاً محباً للبيت ومن فيه».

سرعان ما تنتهى زيارة نجيب الريحانى لابنته وأمها ويعود لمصر إلا أنه فى صيف عام 1947 يعاود لقائهما فى باريس، ثم تكرر لقائهما فى مصر فى أعياد كريسماس عام 1947 ليقضيا الإجازة فى فندق «وينتر بالاس» بالأقصر بعيداً عن أعين الناس، فى تلك الزيارة زارت جينا مسرح الريحانى هى وأمها وشاهدته على المسرح والناس تصفق له دون أن يجرؤ أى منهما على الدخول له فى الكواليس. وسرعان ما تنتهى زيارتهما لتعودا إلى ألمانيا من جديد. ويغيبا عن نجيب الريحانى لمدة عام كامل لا ترياه فيه إلا فى أعياد كريسماس عام 1948. كان قد استأجر لهما شقة فى جاردن سيتى وكان يتردد عليهما خفية بين الحين والآخر، إلا أن أعماله وانشغاله بقصة حب جديدة جعلت من لقائه بهما فى تلك الفترة أمراً نادر الحدوث، وهو ما أغضب لوسى التى شعرت بأنه لا يحفل بها ولا بابنته ولذا ثارت بينهما المشاكل كلما حل لزيارتهما. وهو ما تقول عنه جينا: «كنت أشعر بالخوف والقلق كلما رأيتهما يتحدثان بغضب أمى تقول أنها ملت تلك الحياة وهو يقول لها أنه لا يستطيع فعل شىء آخر، ولذا جاء سفرنا أنا وأمى بعد انقضاء إجازة الكريسماس. لم أكن أعلم أن تلك هى المرة الأخيرة التى ستتاح لى فيها رؤية أبى. كان عمرى وقتها 11 عاماً».

فى يونيو من العام 1948 أصيب الريحانى بالتيفود ونقل إلى المستشفى اليونانى، كانت حالته تزداد سوءاً يوماً بعد يوم حتى كانت وفاته فى الثامن من يونيو فى إحدى حجرات المستشفى، لتصل برقية للوسى وابنتها جينا من أحد معارفه تخبرهما بوفاته. فلم تسعيا لإثبات حقهما فى الميراث أو للحصول على أى شىء تركه، لأن لوسى كانت تعلم أن هناك من سيقاتل فى سبيل تلك الأشياء. وهو ما تعلق عليه جينا قائلة: «شعرت يوم وفاة أبى بأننى فقدت كل شىء فى حياتى وقتها تعايشت مع الواقع، ولكن ظل فى نفسى حنين لمصر التى لم أحس أن لى وطناً غيرها. علمت فيما بعد أن من استطاع أن يأخذ شيئاً من شقة أبى فى عمارة الإيموبيليا أخذه. وقد مات أبى وعليه ديون 200 جنيه للضرائب فباعوا ما تبقى من مقتنيات شقته لسدادها».

تمر سنوات الطفلة وحنينها لأبيها وكل ما يذكرها به يعيش بداخلها تقول: «بعدما نضجت صحبت فرقة الباليه التى كنت أعمل بها للشرق الأوسط لإحياء بعض الحفلات وعندما حضرنا لمصر حاولت تقصى سيرة والدى لكننى لم أعرف، فعدت لألمانيا بعد خلاف مع الفرقة وعملت فى شركة لتنظيم المعارض الدولية. وفى إحدى المرات كان لدينا مهمة المشاركة فى المعرض الزراعى فى القاهرة وعندما حضرت شاهدت زوجى وكان محاسباً مصرياً من عائلة ثرية ومحافظة من الصعيد. تطورت الأمور بسرعة وطلب منى الزواج وسافر للقاء والدتى التى لم تكن مرحبة لأننى سأبتعد عنها، ولكننى كنت أعرف أن قدرى فى مصر فتزوجنا وعشنا فى الإسكندرية. كان زوجى غيوراً يرفض حتى أن أتبادل الحديث مع أى أحد فعشت معه أحاول أن أطيع طبيعته تجنبا للمشاكل، وأنجبنا ابناً وابنة ولم أظهر للناس إلا بعد وفاته منذ عامين».

فى منزل «جينا» شاهدنا صور زوجها وأبنائها وأحفادها ولكنها طلبت منا ألا نعرض لهم فى الحديث احتراما لرغبة زوجها وأبنائها. والآن صدق جينا أو لا تصدقها، اعتبر قصتها دربا من الخيال إن شئت أو انظر لها على أنها حقيقة تؤكدها شهادة تعميدها. ولكن من قال أن الحياة دائما ما تسير على نسق المنطق ودربه؟

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية