ضربتان وجهتهما المحلة الكبرى، المصنع والمدينة، لمبارك ونظامه على مدار ثلاثين عاماً، قبل أن تصفعه مصر كلها الصفعة الأخيرة فى 25 يناير.
الصفعة الأولى، عندما حمل عمال غزل المحلة «نعش مبارك» عام 1988 وطافوا به أنحاء المدينة، عقب إلغائه «منحة المدارس» التى كان يحصل عليها العمال، أما الصفعة الثانية، فتلقاها مبارك من المحلة الكبرى عندما كانت المدينة الأولى التى داس أبناؤها على صوره لأول مرة فى أحداث 6 و7 إبريل 2008.
لم تبخل المحلة الكبرى على الرئيس محمد مرسى بضربتين شبيهتين، فى مدة زمنية لا تتجاوز 5 شهور من وصوله إلى الحكم: الأولى عندما أسقط شباب المحلة لافتات جماعة الإخوان المسلمين، التى ينتمى إليها مرسى من على مقارها، والثانية كانت رمزية، عندما أعلن ممثلو الحركات الشبابية فى المدينة تشكيل «مجلس إنقاذ الثورة» و«إعلان استقلال «المحلة» عن «حكم المرشد».
يشتعل الغضب فى كل مصر، وتبقى المحلة دائماً ترمومتر الثورة وعاصمة العمال المصريين، فترفض الظلم قبل أن يرفضه الجميع بسنوات، وتبدأ التمرد قبل أن يبدأه الجميع الذين يتلمسون خطاها.
«بنك مصر عمل مصنع يغزل القطن اللى انتوا بتزرعوه ويعمل منه القماش اللى انتم بتلبسوه، كنا زمان بنزرع القطن لياخده منا الإنجليز، إحنا النهارده بنزرع القطن، وهانحوله إلى قماش، إحنا اللى هنزرع القطن وحنغزله وحننسجه عشان يبقى كل شىء فى مصر صناعة وطنية، ابعتوا ولادكم يتعلموا صنعة وحياخدوا أجر كويس».. هكذا وصف فكرى الخولى، عامل غزل المحلة، فى روايته «الرحلة»، بدايات تأسيس شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، كإحدى شركات بنك مصر سنة 1927، حيث طاف المنادون على القرى المحيطة بالمحلة الكبرى، يدعون أبناءها للعمل فى شركة مصر.
هرب الفلاحون من سخرة الإقطاع فى القرى المحيطة بالمحلة، وأتوا ليعملوا فى أولى الشركات الوطنية التى أسسها بنك مصر، وأطلق عليهم أهالى المحلة فى ذلك الوقت الكثير من المسميات مثل «بتوع الفابريكة»، «المكنجية»، «الصنايعية» و«الشركاوية»، حتى تعارف عليهم الجميع بأنهم «العمال».
بعد أقل من20 عاماً فقط من تأسيسها، شهدت شركة غزل المحلة إضراباً طالب فيه العمال بزيادة الرواتب ورفع الظلم الواقع عليهم. ويعد هذا الإضراب، الذى شارك فى قيادته العاملان عطية الصيرفى ومحمد شطا، أكبر إضراب عمالى واجه حكومة إسماعيل صدقى عام 1946، لدرجة جعلته يأمر قوات الجيش بمحاصرة الشركة بالدبابات لفض الإضراب وإخراج العمال بالقوة، ورغم ذلك أسفر نجاح الإضراب عن زيادة الأجور وتحسين ظروف العمل.
بعد ثورة يوليو، تحولت الشركة إلى القطاع العام وتوسع النظام وقتها فى إنشاء المصانع والإنتاج حتى أصبحت شركة مصر للغزل والنسيج الأولى على مستوى الشرق الأوسط، والثالثة على مستوى العالم.. إلا أن سياسة الانفتاح التى بدأت فى السبعينيات أعادت فكرة الإضراب إلى أذهان عمال المحلة من جديد، خاصة عندما عاد عدد كبير منهم إلى العمل فى الشركة عقب انتصار أكتوبر مصدومين بضعف الأجور، الأمر الذى اضطرهم إلى بيع «الأفارولات» للإنفاق على أسرهم، وتنفيذ إضراب كبير ضم 30 ألف عامل فى فبراير 1975.
ورغم نجاح الحركة العمالية بالمحلة فى تحقيق مطالب مظاهرات 1975، إلا أن الهدوء لم يستمر طويلاً، وبدأت المظاهرات العمالية المطالبة بزيادة الحوافز والبدلات تندلع ابتداء من عام 1983 حتى عام 1986، الذى شهد انتفاضة عمالية كبيرة فى المحلة، مطالبة بإضافة أيام الجمعة إلى الراتب، وتم إغلاق الشركة لمدة أسبوع، حتى نجح الأمن فى اعتقال القيادات العمالية، على أمل إجهاض الحركة، إلا أن عاملات المحلة كان لهن رأى آخر، حيث رفضن العودة للعمل حتى يتم الإفراج عن زملائهن المعتقلين، رافعات شعار «الإفراج قبل الإنتاج»، الأمر الذى أجبر الحكومة على التفاوض مع القيادات العمالية داخل السجن وانتهت المفاوضات بالتوقيع على عريضة تقضى بإضافة «جمعتين» على الراتب طوال عام 1986، وإضافة الأخريين فى عام 1987.
فى عام 1988، أعلن حسنى مبارك عبر شاشات التليفزيون إلغاء «منحة المدارس» التى تمنح للعمال، ولم تمض نصف ساعة عقب إعلان مبارك إلغاء المنحة حتى توقفت جميع الماكينات داخل شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة، واعتصم العمال داخل الشركة لمدة يومين، بعدها خرجوا فى مظاهرة ضخمة حملوا فيها نعشاً لمبارك وطافوا به أرجاء المدينة.
ومنذ عام 1988، عمل النظام على إسكات أى صوت عمالى يخرج من المحلة الكبرى، واعتمد فى ذلك فى الأساس على نفى القيادات العمالية إلى محافظات نائية، أو نقلها للعمل فى أماكن بعيدة عن تجمعات العمال، إلا أن الخبرات النضالية لعمال المحلة حاولت إفشال ذلك، فوقعت بعض التحركات العمالية المحدودة، خاصة فى مصانع القطاع الخاص، أهمها إضراب عمال كمال السامولى فى 2001. إلا أن الحراك العمالى داخل الشركة، والذى وصل إلى انتفاضة عمالية كبيرة فى ديسمبر 2007، شهد اعتصاماً لعمال الشركة لمدة 6 أيام، نصبوا خلالها الخيام وأقاموا حياة مشتركة، ولعب هذا الإضراب دور القائد للحركة العمالية على مستوى مصر، حيث اشتعلت الإضرابات فى كل مكان، وهى التى لعبت دوراً كبيراً فى التحضير لثورة 25 يناير، ومن قبلها للإضراب العام فى 2008، الذى كان «بروفة» لثورة يناير بعدها بـ3 سنوات.