بالرغم من مرور مائتي عام على مولده، لكن تراثه الهائل والضخم دام وسيدوم على مر الزمان وهو يجاري الابداعات الفنية العالمية غير العادية.. ولهذا فان أعمال الموسيقار البولندي العظيم «فردريك شوبان» مازالت تعيش و تحيا وتؤثر في محبي الموسيقى.
وبفضل أنغامه الخلابة، ترك هذا المؤلف الموسيقي البولندي بصمة وأثرا عميقا لا يمحيان من الثقافة العالمية.. فبدون أنغامه لما عرفنا أعمالا موسيقية لاحقة.
تقول بعض المصادر أن «شوبان» ولد في الأول من مارس عام 1810، في إحدى بلدات مدينة وارسو لأم بولندية وأب فرنسي وهناك جدل كبير حول تاريخ مولده فأحيانا يقال 23 فبراير، وأحيانا مارس، ولكن الثابت أنه تم تعميده في 23 أبريل قبل مائتي عام.
وأيا كان تاريخ ميلاده فيعتبر «شوبان» أعظم من قدم الموسيقى في عصره. حيث شكل تراثه حجر الأساس الذي أقام عليه كثير من مؤلفي الموسيقى من معاصريه وآخرين من بعده ممن لحقوا به أعمالهم. وهذا بالفعل ما حدث مع صديق شوبان وأكبر معجبيه، «فرانز ليسزت»عازف البيانو الموهوب والمؤلف الموسيقي المبدع. وهو ما رأيناه يتكرر في مرحلة لاحقة مع «سيرجي رحمانينوف» عازف البيانو والمؤلف الموسيقي والمايسترو الروسي.
وتوضح «آنا جيخارو»، أستاذة البيانو في معهد الموسيقى الملكي العالي في مدريد والمتخصصة والخبيرة في دراسة «شوبان»: "غير «شوبان» الفكرة الأساسية والجوهرية لموسيقى البيانو.. تراثه الموسيقي مؤثر ومثير للاعجاب، فقد قام بثورة جديرة بالاحترام في تقنية وفنيات العزف على البيانو ونجح في تغيير طريقة العزف".
وتستكمل الأستاذة «آنا جيخارو» حديثها وهي تصف «شوبان» بأنه "موسيقي غاية في الغموض، قام باكتشاف أن يد الشخص الذي صمم وركب البيانو أكثر حساسية ورقة في طبيعة تكوينها. وتسترسل في قولها: "باختصار. أهم وأعظم ما قدمته لنا أعمال «شوبان» من ثورة ونقلة كان من الناحية التقنية والجمالية"، وتؤكد: "كل ما قدم لاحقا لا وجود له دون «شوبان»"، فقد كان له وجود جوهري في أعمال من خلفه من موسيقيين أمثال: الفنان «كلود ديبوسي» و«انريكي جرانادوس» أهم الملحنين ومؤلفي الموسيقى الانطباعيين. في حين أنه أثر بدرجة أقل في «ايزاك ألبينيث» و«مانويل دي فايا».
وبصفتها رئيسة قسم البيانو في معهد الموسقى الملكي العالي في مدريد، ترى «آنا جيخارو» أن كل فنان وعازف بيانو يجب أن تكون موسيقى ومؤلفات «شوبان» أساسا لابداعاته .
بدأ «شوبان» خطواته الأولى مع الموسيقى على يد والدته «جوستينا» وأخته «لودوفيجا» ثم أظهر بعد ذلك مهارات فائقة وغير عادية في العزف على البيانو منذ صغره. وكانت أول أعماله في سن السابعة تحت اسم "بولونيزا ان سول مينور" أو "رقصة بولندية من مقام السلم الصغير" ولم يتأخر في حفر ونقش اسمه كمعجزة. وبدأ في تقديم مقطوعاته في صالونات رفيعة المقام و العزف في حفلات خيرية.
وفي السادسة عشرة من عمره، تلقى «شوبان» دروسا على يد «كساويري السنار»، مدير مدرسة وارسو العليا للموسيقى، ولأن «شوبان» كان مرتجل عظيم ولديه القدرة على التطوير والتحسين السريع، فقد حول تقنية العزف التى تعلمها وتدرب عليها إلى مادة للتلحين والتأليف الموسيقي.
ومن وجهة نظر السيدة «آنا جيخارو»، كان «فردريك شوبان» يعلم ذاته ويثقف نفسه في كثير من الجوانب .. أما الدور الذي لعبه «السنار» فقد اقتصرعلى توجيهه إلى طريق خبرته ومعرفته كمايسترو، وترسيخ ما يعرفه بطريقة متناسقة وموائمة".
تمتع «شوبان» بفرصة السفر لمدن أوروبية مثل: فيينا وبراغ ودريسدن وبريسلو "فروتسواف حاليا" لحضور حفلات عديدة، للتعرف والتواصل مع موسيقيين آخرين ومثقفي وفناني عصره، كذلك ذهب إلى وطنه لتقديم العديد من حفلات البيانو. وقد ساعد تنقله الكثير والمتكرر داخل حدود بلاده على معرفته وقربه من الموسيقى البولندية الشعبية. التي الهمته فيما بعد عند تأليف بعض من أعماله، فله الكثير من المؤلفات ذات طابع فلكلوري.
وتشير «آنا»، بصفتها أستاذة فن البيانو، حيث خصصت ولازالت تخصص عند حديثها عن البيانو جزءا مهما لـ«شوبان»، إلى أن «شوبان» كتب المازوركا والبولونيزا والفالس، وهي موسيقى ومؤلفات راسخة ومتأصلة في الفولكلور البولندي، عززت وكمنت في جزء من كتابة «شوبان» النوذجية والنمطية.
حنين «شوبان» لم يتركه لحظة في حياته وكان رفيقا لدربه، إنه الحنين لوطنه الذي تركه وشعر بمدى تمسكه وتعلقه به. هذا الشعور بالاشتياق للوطن هو ما جعله يأتي بعناصر من الفولكلور في كثير من مقطوعاته الموسيقية. وبتذكر الأحداث السياسية في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1830، تاريخ اندلاع الثورة البولندية ضد السيطرة الروسية في وارسو، التي أحدثت تحولا غير مسبوق في حياة شوبان قبل الانتهاء من دراسته.
وكان هذا الحدث المأساوي هو الذي أجبره على مغادرة وطنه للأبد والاقامة بعد ذلك في باريس لمدة عام. وأنتجت هذه الفترة، التي شكلت محنة عميقة، عمله الشهير "مارتشا فونيبري" أو "المارش الجنائزي".
إن العصيان والفوران البولندي والانتصار الروسي الذي خلفه، أبعدوا «شوبان» نهائيا عن وطنه حتى آخر أيامه. هذا الأسى الناتج عن انفصاله عن بولندا والفتور وأحزان القلب.. هو الذي ظهر في مؤلفاته بطريقة صريحة نوعا ما، الأمر الذي أدهش كثيرا معجبيه المعاصرين، كما حدث مع «الماركيز كوستين» بعد حضوره احدى حفلات الاستماع في باريس، وكتب لـ«شوبان»: "لقد تفوقت يا سيدي على المعاناة في القصيدة فالحزن النابع من مؤلفاتك يخترق ويتغلغل في وجدان القلب مباشرة ".
وعلى الرغم من الامكانيات الصوتية الضعيفة أدهشت طريقته وأسلوبه في العزف جمهور الحاضرين لما بهما من أناقة ورشاقة ورقة في الأداء. وقالت «آنا جيخارو»: أعتقد أن هذا هو جوهر موسيقى «شوبان»: جمال الألحان، التجانس الذكي والرقيق.. التغيرات والتبديلات المتوائمة.. اللعب بالمقامات المفاجئة التي تحرك العواطف وتؤثر في القلوب.. نعم هذا هو الجوهر". وأضافت: "إن عالمية «شوبان» تكمن في الجمال الذي لا يتعثر أو ينتهي.. فالعالم مليء بالجمال، لذلك فـ«شوبان» هو الجمال الخالص". وأتفق لحد كبير مع الكاتب الألماني «هاينريتش هاينري» الذي وصف المؤلف الموسيقي البولندي بأنه "شاعر البيانو" وان "موسيقاه قصيدة صافية خالصة" واليوم يقف «شوبان» قامة شامخة في عالم الموسيقى مع «بيتهوفن» و«موتسارت» و«باخ».