«أموت فى الشغل أحسن ما أموت من الجوع».. جملة عفوية تليق بطفل لم يتجاوز عمره 12 سنة، قالها وهو يسعل، ردا على سؤال لمحرر «المصرى اليوم» الذى خاض تجربة العمل فى إحدى ورش مسابك التونسى لصهر المعادن، حيث تتصاعد الأدخنة الناتجة عن صهر الألمونيوم والنحاس والزهر، لتملأ المكان برائحة كريهة هى أقرب لـ«رائحة الموت».. إذن هو الجوع الذى دفع بـ«عادل» وغيره من الأطفال والشباب للعمل فى تلك المسابك، معرضين حياتهم للخطر، أو الحياة بإصابة مزمنة طوال حياتهم، حتى إذا ما نبههم أحد إلى الخطر لا ينطقون إلا بجملة واحدة: «هنعمل إيه».
هنا فى منطقة التونسى بالخليفة، حيث تنتشر مسابك المعادن.. السواد يكسو جميع الوجوه، فإذا لم يكن السواد يعلو وجوه العمال الواقفين أمام أفران «تسييح المعادن»، ستجده فوق عيون الأطفال بسبب الجوع والأمراض التى تحاصرهم من جراء الدخان المتصاعد من المسابك.. «المصرى اليوم» لم تشأ أن ترصد الأزمة من الخارج، وفضل محررها أن يعمل بنفسه فى إحدى ورش المسابك 7 أيام، ليرصد معاناة العاملين فى تلك الورش، والأمراض التى تحاصرهم، حيث يعانى معظمهم من أمراض الصدر والرمد، خاصة من الأطفال الذين يزداد عددهم مع دخول فصل الصيف، لاسيما بعد انتهاء العام الدراسى وبدء رحلة البحث عن العمل لإعانة أسرهم.
يبدأ العمال أولا بوضع إناء كبير من الفخار على موقد يشعله من 4 إلى 6 أسطوانات غاز من الحجم الكبير، ويتم وضع قطع النحاس أو الألومنيوم داخل هذا الإناء الفخارى حتى يتحول إلى سائل، ثم يتم وضعه على «جبل رملى» أصفر، أو رمل «شيراتون» الذى يتحول لونه إلى الأسود بعد الاستعمال من أول مرة، ويتم استعماله بعد ذلك أكثر من مرة.
إبراهيم رمضان كامل (23 سنة) وظيفته داخل المسبك «الوقوف على النار»، وهى وضع النحاس الخام داخل الإناء الفخارى لبدء عملية التسييح، وخلطه بالرمل وسكبه بعد ذلك داخل «القوالب» حتى يتماسك النحاس مرة أخرى داخل هذه القوالب لعمل الشكل المطلوب، وعن تعرضه للحرارة على مدار اليوم، ومدى تأثير ذلك على صحته، قال: «تعودت على ذلك، فالإنفلونزا لا تفارقنى طيلة 15 عامًا، وهى مدة عملى داخل المسابك، فأنا لا أعرف أى عمل آخر، وأعلم أننى لو ذهبت لطبيب للكشف على صدرى سأجد ما لا يسرنى، لكنى لا أشغل بالى بمثل هذه الأمور (فالعمر واحد والرب واحد)».
محمد سيد (45 سنة) متزوج ولديه 3 أطفال، يقول: «بقالى 30 سنة سباك معادن، وظيفتى هى (واقف على الدرج)، وهى أخذ القوالب بعد وضع النحاس بها، وخلطها بالرمل الذى يسود من كثرة الاستعمال، وأبدأ بإزالة الزيادات فى الشكل النحاسى ليصبح على الشكل المطلوب».
وعن المشاكل الصحية الناتجة عن هذا العمل، قال محمد: «جميع من يعمل هنا يعلم تمامًا أنه سيصاب بأمراض عديدة، خاصة الأمراض الصدرية والجلدية، لكن معظمنا لا يشغل بالة، موضحا ذلك بالقول: «لو مشينا ورا الدكاترة مش هناكل عيش ومحدش فينا يعرف يشتغل شغلانة تانية غير دى» أنا مرة رحت للدكتور قالى لازم تاخد راحة أسبوع عشان عندك نزلة شعبية حادة، مسمعتش كلامه وريحت يوم واحد بس، وأخدت العلاج والحمد لله ربنا ستر وآدينى واقف على رجلى أهو وزى الفل».
مصطفى حمدى (14 سنة) طالب فى الصف الثالث الإعدادى، يقول: «أعمل فى المسبك كل إجازة منذ 4 سنوات، أقوم بغربلة الرمل الأسود المستعمل، وأساعد فى نقل القوالب إلى الأدراج بعد سكب النحاس السائل بها»، يضيف: «راتبى الأسبوعى 100 جنيه، ومصروف يومى 5 جنيهات، أساعد بها والدى وأدفع منها مصاريف الدراسة».
محمد لا يرى شكلا محددا لمستقبله، فهو لا يعرف إذا كان سيستمر فى التعليم أم لا، وإذا استمر ما هو نوع التعليم الذى سيصل إليه، وهل سيلتحق بالجامعة أم سيكتفى بالحصول على دبلوم صناعى أو تجارة، ولا حتى يشغل باله بشأن استمراره فى المسابك أم محاولة البحث عن مكان عمل آخر أكثر أمانا، كل ما يريده محمد يلخصه فى جملة واحدة: «مش عايز أعمل حاجة غير أنى مخليش عيالى يشتغلوا عشان يساعدونى زى ما أبويا عمل معايا».
تم زرع هذه المسابك وسط منطقة التونسى منذ منتصف الثمانينيات، وظلت تبث سمومها على أهالى منطقة التونسى على مدار أكثر من 25 عاماً، وصدرت عدة قرارات من وزارة البيئة ومحافظة القاهرة بنقلها من المنطقة المذكورة، ولم يتم تنفيذها حتى الآن.
ويقول أهالى التونسى، إن هذه المسابك تم بناؤها تحت مظلة الحزب الوطنى المنحل، وقت أن كانت النائبة فايدة كامل، عضو مجلس الشعب عن دائرة الخليفة وقتها، واعترض الأهالى على مدار السنوات الماضية على وجودها وسط الكتلة السكانية، بسبب ما تسببه من أمراض صدرية خطيرة لأطفال المنطقة، وتعددت الإصابات هناك ما بين الربو وحساسية الصدر، واكتفت وزارة البيئة بزيارة المنطقة منذ أكثر من 15 عاما، وقامت بتركيب أجهزة رصد بيئى على أسطح أحد المساكن.
يقول هشام محمد (46 سنة) إنه أثناء زيارة لجنة وزارة البيئة، اندهش أحد المهندسين من المؤشرات التى ظهرت على أجهزة الرصد البيئى، وأكدت وجود تلوث عال، تصعب معه الحياة، حتى إنه قال وقتها: «إنتوا إزاى عايشين لحد دلوقتى؟»، مشيراً إلى أن الوزارة اكتفت بتغيير العمل بالمازوت إلى استخدام الغاز.
قال الحاج رجب عيسى، 72عاماً، من سكان المنطقة: «أصحاب هذه المسابك كانوا دائماً فى حماية الحزب الوطنى منذ أيام النائبة فايدة كامل ومن بعدها الدكتور عبدالمنعم بخيت، فتخيل معى كيف لعضو مجلس شعب يقوم بإيذاء أهل دائرته بهذه الدرجة، فهذا المسابك وباء منتشر بين أطفالنا الذين يسكنون بجوار هذه المسابك، فجميعهم مصابون بحساسية الصدر والربو، نتيجة الأدخنة المرئية وغير المرئية الناتجة عن هذه المسابك».
وقال سيد محمد حسانين (50 سنة): «أعيش بهذه المنطقة منذ 27 عاما، وتقدمنا بعدة شكاوى لنقل هذه المسابك من هنا، لكن دون جدوى، ونعلم أن أصحاب هذه المسابك من «علية القوم» ومفيش حد قادر عليهم، وكانوا «مسنودين» من فايدة كامل، ومن بعدها عبد المنعم بخيت، نائبى دائرة الخليفة، ورغم أن الأخير يسكن بجوار هذه المسابك، ومن المتضررين من وجودها، إلا أنه لم يجرؤ أن يقوم بنقلها أو حتى إيقاف بث سمومها على أهالى دائرته».
ويضيف عزت مبروك (32 سنة) من أهالى الحى: «لدينا العديد من المشاكل فى جميع الخدمات، لكن وضع هذه المسابك وسط المنطقة يزيد من المشاكل الصحية، وخاصة للأطفال، وذلك لوجودها بجوار مركز شباب، يتجمع به الأطفال والشباب دائما للعب الكرة وبعض الألعاب الأخرى، فلك أن تتخيل أنك تلعب رياضة وفى نفس الوقت تستنشق السموم بدلاً من الهواء النقى».
اللواء تيسير مكرم، نائب المحافظ للمنطقة الجنوبية، أكد أن قضية التونسى لم تعرض عليه من قبل، وقال إنه سيدرس الوضع فى أسرع وقت، وأضاف: «حسب خطة المحافظة لتطوير المناطق العشوائية وأيضا المناطق الشعبية، نهتم بأهالى هذه المناطق، لكن علينا الصبر قليلاً، فكل شىء لن يحل فى وقت واحد، وسنقوم بدراسة الوضع ونرسل لجنة من المحافظة والبيئة لتقييم الوضع فى المنطقة».