x

«كاميل كلوديل 1915»: رؤية ناضجة عن العقل والجنون والحب والكراهية»

الأحد 17-02-2013 00:18 | كتب: سمير فريد |
تصوير : اخبار

شهدت مسابقة مهرجان برلين، الذى أعلنت جوائزه مساء السبت، العرض الأول فى العالم للفيلم الفرنسى «كاميل كلوديل 1915» إخراج برونو دومونت، وهو من التحف السينمائية، سواء فاز بالدب الذهبى، أو لم يفز بأى جائزة.

هذا هو الفيلم الروائى الطويل السابع لمخرجه الذى ولد عام 1958، ومنذ أول أفلامه «حياة المسيح» يعتبر دومونت من المخرجين المفكرين الذين يعبرون بلغة السينما عن رؤيتهم للقضايا الإنسانية الكبرى، خاصة فى فيلمه الثانى «الإنسانية» الذى فاز بالجائزة الكبرى فى مهرجان كان عام 1999، وموضوعه واضح من عنوانه. إنه حفيد شرعى لفلاسفة فرنسا العظام من حيث اهتمامه بالبحث فى العلاقة بين الفرد والآخرين سواء كانوا من الأقرباء أو من الغرباء، وسواء كانوا من نفس الجنس أو من الجنس الآخر، والعلاقة بين الفرد والوجود فى الواقع وما بعد الواقع.

دومونت فى أفلامه يؤكد حقيقة أن لغة السينما، مثل أى لغة من لغات التعبير، يمكن أن يكتب بها الشعر والقصة، والرواية والمسرحية، وكذلك الفلسفة، وبغض النظر عن القيمة، فهذه مسألة أخرى. والقيمة عند مخرج السينما الذى يعبر عن قضايا فلسفية تستمد من المعادل الدرامى الذى يعثر عليه للتعبير عن هذه القضية أو تلك، ومدى ارتباطه بأسلوب التعبير، وإلى أى مدى يكون الشكل هو ذاته المضمون.

رودان وكاميل

عثر دومونت فى «كاميل كلوديل 1915» على معادل درامى نموذجى للتعبير عن العقل والجنون وعن الحب والكراهية من خلال تأمل العلاقة بين النحات الفرنسى الأشهر أوجست رودان والنحاتة الفرنسية كاميل كلوديل، فقد ربط بينهما الحب وليس فقط النحت، ولكنه لم يتزوجها، وقال إنها مريضة عقلياً، ووافقت أسرتها على إيداعها مصحة لمدة تقرب من ثلاثين سنة حتى توفيت. وكانت كاميل شقيقة الشاعر والكاتب المسرحى الكبير بول كلوديل.

وهذا هو الفيلم الفرنسى الثانى عن كاميل كلوديل بعد فيلم «كاميل كلود» الذى أخرجه برونو نيوتن عام 1988، وقامت إيزابيل أدجانى بتمثيل دورها، وكان موضوعه العلاقة بينها وبين رودان. ولكن دومونت فى فيلمه لا يتناول هذه العلاقة، ولا يظهر فيه رودان أصلاً، وإنما يستخدمها للتعبير عن رؤيته للقضايا التى تشغله. فالفيلم يدور عام 1915 عن كاميل وهى فى المصحة بعد أن قضت فيها عشرين سنة، ولا يخرج منها إلا فى مشاهد قليلة لشقيقها بول. وما يربط بين أحداث الفيلم أن كاميل فى انتظار زيارة لبول الذى لم يزرها سوى مرات قليلة منها هذه المرة عام 1915.

و«الأحداث» فى الفيلم ليست الأحداث بالمفهوم الدرامى التقليدى، وإنما هى تفاصيل دقيقة يتم من خلالها بناء الدراما مشهداً وراء آخر ولقطة وراء أخرى، وهذه هى السينما الخالصة فى أحد نماذجها الرفيعة. وقد كتب دومونت السيناريو واشترك فى المونتاج مع باسيلى بيلكرى، وكان من المنطقى أن يفعل.

يبدأ الفيلم بلقطة متوسطة لكاميل «جولييت بينوش» من ظهرها، وينتهى بلقطة مماثلة لها ولكن من وجهها. و«الحدث» الأول حسب أسلوب الفيلم قيامها بطهو طعامها بنفسها، وذلك لأنها تشعر أن هناك مؤامرة لقتلها بوضع السم فى الطعام. وتبدو كاميل عاقلة فى علاقتها مع المرضى والممرضات ثم مع الطبيب مدير المصحة، وتطلب منه أن يقنع أسرتها بضرورة خروجها من المصحة، ويوافقها على ذلك، ويخبر بول عندما يأتى لزيارتها، ولكنه يرفض. وتصوير المرضى فى المصحات النفسية مثل السير على خيط رفيع حتى لا تمتهن إنسانيتهم ويتحولوا إلى موضوع للفرجة على تصرفاتهم الغريبة، أو السخرية منها، أو الضحك لمشاهدتها. وقد نجح دومونت نجاحاً تاماً فى السير على ذلك الخيط الرفيع، بل إن المتفرج لا يملك إلا التعاطف معهم، تماماً كما تفعل كاميل.

ثلاث لقطات كبيرة

ويستخدم دومونت أحجام اللقطات بعناية فائقة تجعل الشكل هو المضمون ذاته بكل معنى هذه العبارة. فهناك لقطات عامة محدودة للمكان الذى تقع فيه المصحة، حيث الطبيعة الساحرة، والمبنى مثل الكنيسة أو المعبد، وكل لقطات الفيلم الأخرى من الحجم المتوسط الذى يضع مسافة عقلية بين المتفرج وما يشاهده ويدعوه للتفكير والتأمل، وثلاث لقطات فقط من الحجم الكبير (الكلوز أب).

فى اللقطة الأولى، وبينما تقوم كاميل بنزهة فى الحديقة تمسك قطعة من الطين، وتوشك أن تصنع منها تمثالاً، ولكنها تتراجع وتلقى بها. وقد مثلت بينوش هذه اللقطة بأصابعها التى عبرت عن شوق النحاتة للعودة إلى ما تحب، وتوترها وخوفها من النحت فى الوقت نفسه. وفى اللقطة الثانية نرى بول (جان-لوك فينسنت) قبل أن يزور كاميل يكتب فى حجرته عارياً، وتتحرك الكاميرا إلى وجهه، ونرى عليه تشنجات عصبية شديدة توحى بدرجة ما من درجات الاختلال قد تفسر موقفه المتناقض من شقيقته، فهو يوافق على بقائها فى المصحة، وينفق الكثير من المال على علاجها.

وفى اللقطة الثالثة، وهى ذروة «الأحداث»، تتم زيارة بول، وتقول له كاميل ما سبق أن قالته مراراً، وهو أن رودان اعتبرها مجنونة لأنه كان لا يريد أن تكون أعظم منه فى حياته، ولا حتى بعد مماته. وتطلب وتلح فى العودة إلى باريس، وإلى الحياة، وأنها اشتاقت إلى أمها، بل إن أولاده أولى بالمال الذى يدفعه للمصحة. وعندما يرفض بول رغم كل هذا لا تغضب منه كاميل ولا تثور عليه، وإنما تظل تناديه: أخى الصغير.

دور العمر

وفى هذا الفيلم تقدم جولييت بينوش دوراً من أدوار العمر، إن لم يكن دور العمر، حيث عبرت بحساسية فائقة وعمق نادر، بعينيها وحركتها وكل خلجة من خلجات جسدها وروحها وكل كلمة تنطق بها، عن رؤية دومونت الناضجة، وأسئلته عن المنطقة الإنسانية الملتبسة بين العقل والجنون وبين الحب والكراهية.

هل كان رودان يحب كاميل أم يغار عليها أم يغار منها، وهل كانت أسرة كاميل تحبها أم تخاف عليها أم تخاف منها، وقد كتب بول قصائد فى حب أخته، ويشير الفيلم إلى تدينه حيث نراه يصلى فى الكنيسة ويتحدث مع أحد الرهبان بتقدير واحترام، فهل كان إصراره على بقائها فى المصحة على أمل أن تشفى، أم على أمل أن تموت فيها، وهو ما تحقق بالفعل.

إننا لا نرى وجه كاميل فى اللقطة الأولى، فلا نعرف من تكون، ولكننا نرى وجهها فى اللقطة الأخيرة وقد عرفنا من هى. وتجمع نظرة بينوش فى هذه اللقطة بين الاستسلام لمصيرها ومواجهة هذا المصير فى آن واحد، وتعبر عن أنها لم تفقد إنسانيتها، بل وربما تفضل الحياة مع المرضى الذين لا يدركون بعقولهم، وإنما يعيشون حسب مشاعرهم وأحاسيسهم

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية