عاد الدكتور محمد البرادعى إلى مصر.. وعاد معه الجدل السياسى الصاخب.. ورغم اللقاءات العديدة التى أجراها مع وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية، فإن أحداً لم يرسم لنا صورة كاملة للبرادعى الإنسان.. البرادعى الابن.. الزوج والأب.. أخذتنا السياسة والصراع الدائر، ونسينا أن التعرف على الرجل، الذى طرح نفسه رقماً مهماً فى الحياة السياسية، يبدأ من التكوين فى الصغر، والقناعات فى الحياة.. والثقافة التى ملأته.
فى هذا الحوار الذى أجريناه معه فى حديقة منزله الصغيرة بالقاهرة بحث فى «حالة البرادعى» بعيداً عن السياسة.. إبحار فى أعماقه.. فى نشأته.. فى علاقته بوالده مصطفى البرادعى، المحامى والسياسى الشهير.. فى قراراته.. فى هواياته.. وفى الإنسان الذى يسكنه:
فى البداية كان لابد أن أسأله عن خلفيات التكوين.. عن المكان والزمان والعائلة ومصر التى تربى فيها، وهل تغيرت عن مصر التى يراها الآن..
قال د. محمد البرادعى، وهو يستعيد ذكريات لمعت فى عينيه: والدى «مصطفى البرادعى» كان محامياً، ثم نقيباً للمحامين عدة مرات، وكان رجلاً يؤمن بأن الحرية والديمقراطية هما سبيل التقدم الوحيد لمصر، وكانت له مواجهات أمام الرئيسين جمال عبدالناصر وأنور السادات، وأتذكر أنه عام 1961 كان هناك مؤتمر للتحضير للميثاق فى البرلمان، وكان السادات رئيس مجلس الشعب، وكان يرأس الجلسة، وعندما وقف والدى على المنبر تحدث عن أهمية حرية الصحافة وتعددية الأحزاب، وكان شديد الجرأة فى المطالبة بالإصلاح، فأخبره السادات بأن المدة المخصصة لحديثه انتهت، فقال له: «أنا لم أنه حديثى، وقد انتزعت من المنبر انتزاعا»، كذلك تصدى والدى للرئيس أنور السادات فى فترة رئاسته، عندما جاء بفكرة القضاء الشعبى، وهى مسألة أراها ديموجاجية، فقد كانوا يتحدثون عن قانون العيب ومحاكم القيم، وخرج النظام وقتها عن الإطار العام الذى يقضى بأن القانون لحماية العدالة، واعترض والدى على هذه القوانين، فوصل الأمر فى بعض الأحيان إلى خوف الناس من أن يعهدوا إليه بقضاياهم لأنه عُرف كشخص يقف فى وجه النظام.
ووالدى كان ريفياً، ولد فى الغربية وجاء إلى القاهرة ودخل كلية الحقوق بمجهوده، ووالده كان من هيئة كبار العلماء فى الأزهر الشريف، وأرى فى والدى مثلاً للرجل المكافح الذى شق طريقه بنفسه، وكان يوسع آفاقه ورؤيته، فكان محباً للموسيقى الكلاسيكية رغم ثقافة جدى الأزهرية، وكان يومياً بعد العشاء يقرأ بالفرنسية لتحسين لغته الفرنسية.
■ وهل كانت ثقافة المجتمع وقتها متغيرة عن الآن، بمعنى أنها تسمح لوالدك بالاختلاف عن والده الأزهرى وسماع الموسيقى؟
- بالطبع، فالمجتمع وقتها كان منفتحاً ثقافياً.. كانت هناك الأوبرا وعروض الباليه، والفرق الأجنبية التى تأتى إلى مصر للعزف والتمثيل، فكل زملاء والدى الذين تقلدوا أرفع المناصب نشأوا فى بيئات مشابهة جداً لبيئتنا، فكان أصدق أصدقائه وزير العدل محمد سلامة، والدكتور السعيد مصطفى السعيد، رئيس جامعة القاهرة، والمستشار عبدالعزيز الببلاوى، وكانوا جميعهم من أسر متوسطة، وكنت أجلس بينهم أثناء الغداء، وكانت أحاديثهم ممتعة ولا تمت لأحاديث اليوم بصلة، فقد كانوا يتحدثون فى الأدب والشعر والسياسة، كما لو كانت الدولة وقتها دولة أخرى.
نقطة أخرى، أنه برغم توليهم مناصب رفيعة فى مصر، إلا أنهم لم ينسوا جذورهم، فكلما كبروا فى المنصب ازدادوا تواضعاً، وأتذكر أن والدى كل يوم جمعة كان يذهب للصلاة فى مسجد سيدنا الحسين، وعندما جاء إلى مصر سكن فى حى الحسين، وكان يجتمع بأصدقاء الطفولة من أصحاب المتاجر والأطباء وغير المتعلمين، وكان والدى شخصاً خفيض الصوت فى تعامله مع الآخرين، لكنه لم يخفض صوته فيما يتعلق بالمبادئ، كذلك تربيت فى مجتمع يضم مختلف الأعراق والديانات دون أن تكون هناك أى مشكلة فى انسجامهم سوياً، أذكر أننى كنت أذهب فى صغرى إلى محل يسمى «جاتنيو» لشراء الألعاب، وكان البائع يسمى «مسيو إيزاك» يهودى الديانة، وكنا نذهب إلى رأس البر فى الصيف ونقيم بجوار «لوكاندة أصلان» الممتلئة باليهود، كان والدى يعشق التجديف، وكان مدربه إيطالى الجنسية يسمى «سارنتينو»، ووالدتى كانت تذهب إلى خيّاطة فرنسية الجنسية تسمى «مدام أفيجينيه»، كنت ألعب الإسكواش فى صغرى وأشترى حاجياته من محل يملكه رجل أسترالى الجنسية، والإسكندرية كانت مزيجاً من الأرمن واليونانيين والإيطاليين، كان المجتمع مختلفاً ومنفتحاً جداً ويعيش فى وئام اجتماعى.
كانت المواطنة موجودة ومحسوسة دون أن نتكلم عنها، أما الآن فعندما نبدأ فى الحديث عن المواطنة، فإن ذلك يشير إلى أننا نعانى مشكلة فى المواطنة بالفعل. المجتمع وقتها كان يتميز بالتعددية والتسامح الاجتماعى والدينى، وكان مقياس العمل قبل الثورة وفى بداية الثورة هو عمل الإنسان وليس ماله، وكان من يطلق عليهم النخبة يفتخر المجتمع بهم فعلاً، من نجيب محفوظ، وعبدالله الكاتب، والدكتور السنهورى فى القانون، وعلماء الاجتماع والسياسة، وكانت النخبة لا تقل عن النخبة الأوروبية، لذلك أجد أن النظام القمعى الذى جاء بعد ذلك غيّر من صفات الإنسان المصرى الذى تربى على الشهامة والمروءة.
■ تحدثت عن اشتباك والدك مع نظامى عبدالناصر والسادات، وهو ما يعنى أنك شهدت الثمن الذى دفعه والدك نظير مواجهته النظام، فهل التاريخ يكرر نفسه الآن، خاصة أنك تدخل فى نفس المنطقة؟
- نعم، كانت الناس تخاف أن تسند لوالدى القضايا، لكن أحداً لم يستطع اعتقاله أو حبسه لأنه كان رجلاً نظيفاً، وكان سعيداً وهو يدفع الثمن مقابل مبادئه، وهى نفس المبادئ التى نادى بها فى مضابط مجلس الشعب عام 1961، واليوم بعد 50 عاماً تقريباً أنادى بنفس المبادئ، فنحن لم نتقدم خطوة فى طريق التعددية والديمقراطية، حتى إنه حين اشتبك مع السادات فى مجلس الشعب لم تذع الجلسة تليفزيونياً فى المساء، كما هو متبع، وهو ما يعيدنا إلى المناداة بحرية الإعلام واستقلاله منذ ذلك الوقت وإلى الآن، فما أراه اليوم فيلم مكرر وممل، فحديثنا لايزال عن الاستقرار و«لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وكلها أحاديث غوغائية، ومعناها فى النهاية أن يكون الحاكم مهيمناً على الشعب، فالشباب يخرج من مصر ويغرق فى عرض البحر ويعيد الكرة مرة أخرى، لأنه يرى فى الخروج من مصر خلاصاً.
والانتماء الذى نتحدث عنه ليس فكرة مجردة، فالانتماء يعنى أن أجد سبل الرزق والحياة الكريمة، ففى حرب 1967 وأثناء هزيمة الجيش هزيمة مهينة لنا جميعاً، سألت وقتها نفسى: «عن أى شىء يدافع العسكرى المصرى؟»، فهو يعلم أنه حين يعود سيعيش حياة شاقة، فالدفاع عن الوطن ليس فكرة مجردة، الدفاع يكون عن مكاسبى الشخصية من هذا الوطن الذى يقدم خدماته للمواطنين.
.. هنا كان السؤال واجباً.. فما بين الماضى والحاضر ثمة أوجه تشابه عديدة.. وكأن الزمن لا يتحرك كثيراً فى مصر:
■ المواطن المصرى الذى نراه غير مشارك الآن يشبه المواطن المصرى الذى كان يخشى إسناد القضايا إلى والدك، فهل عملية الخوف من السلطة قديمة وموجودة فى تكوين المواطن المصرى، فالناس قد تخاف من الالتفاف حولك مثلما خافت من الالتفاف حول والدك؟
- أنا أرى أن هذا الأمر فيه جزء كبير من الصحة، فالنظام من أيام الفراعنة قائم على الحكم الفردى المستبد، فقد حققنا إنجازات عظيمة، لكن مصر حُكمت من كل من مر عليها باستثناء بعض الصحوات القليلة مثل ثورتى عرابى و1919، لأن المواطن الذى يعيش فى السهول مسالم بشكل كبير عن غيره ممن يسكن الجبال، فالمواطن يعتقد أنه بمرور الوقت سيتحسن الحال، ولكنه لايدرك أن مشاركته السياسية عملية تأتى بالممارسة، حتى فى فترات الحكم الإسلامية منذ أيام معاوية بن أبى سفيان، الذى كان يحكم بما لا يقره جوهر الإسلام وهو الشورى، لذا فكل الإنجازات التى نقوم بها فردية، ووضعنا فى مخيلتنا أن الحاكم ثوابه وعقابه عند الله، وهو فكر لايزال موجوداً، وأنا يضايقنى أن أسمع من يقول: مادام الحاكم فاسداً ولم يعلن فساده فثوابه وعقابه عند الله، ولا يجوز أن يثور الشعب عليه.. هذا ليس له علاقة بالإسلام، طبعاً المجتمعات الغربية أنشأت نظاماً مدنياً منذ القدم، وفى رأيى أن معنى وجود الإنسان ليس بمقدار ما حققه من إنجازات شخصية، ولكن بقدر إنجازاته نحو أسرته ودولته والبشرية جميعاً، فأنا جزء من تلك البشرية وأدافع عنها، وأحزن عندما يموت شخص فى العراق مثلما أحزن على موت شخص فى أوروبا.
■ أنا مهموم فى هذا الحوار ببحث حالة البرادعى أكثر من قضية الرئاسة، لأنك تحدثت فى ذلك كثيراً وقلته فى حوار سابق مع «المصرى اليوم» قبل ذلك، فإذا كان المواطن اليوم هو امتداداً للمواطن أيام والدك وقبل ذلك بكثير، وإذا كان البرادعى فى اشتباكه مع النظام الحالى امتداداً لوالده، فإن الفارق أن والدك لم يطرح نفسه رئيساً لمصر، كيف ترى هذا الاختلاف؟
- والدى لم يطرح نفسه رئيساً لمصر، ولا أنا فعلت ذلك، فأنا لدىّ ما يكفينى من الرزق والشهرة والتقدير الأدبى، ولكن هذه الأمور لا تعنينى حالياً، وإذا كان أحد أسباب قلق والدى هو خوفه على رزقه كمحام، فهذا الأمر أنا متخفف منه، إلى جانب أن الظروف مختلفة، فالقمع فى نهاية 1967 كان شديداً، وكان الناس يخافون من الحديث فى التليفون، لأنهم سمعوا عن الإخوان المسلمين الذين دُفنوا أحياء، والشيوعيين الذين اختفوا، وعدد كبير من المعارضة الذين قبض عليهم صبيحة النكسة، وكأنهم هم السبب فى فشل النظام فى الحرب، كذلك فى أواخر حكم السادات عام 1981، حين صفق مجلس الأمة أثناء إعلان السادات القبض على 1500 شخص، وأنا ليست لى ضغينة مع النظام، فلكل نظام حسناته ومساوئه، فنظام عبدالناصر أدخل العزة للمصريين بمقولة «ارفع رأسك يا أخى» والتركيز على العدالة الاجتماعية، وفى عهد السادات أيضاً كانت هناك مساوئ وحسنات، فأنا أرى أن 90٪ من العالم منطقة رمادية.
ولابد أن نتعلم من أخطائنا، فبعد نحو 57 عاماً من قيام الثورة لابد من إعادة النظر فى الأخطاء السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولكى يكون الإنسان منصفاً لابد أن أقول إن هناك مساحة حرية أفضل من عهد عبدالناصر الذى كانت مصر فيه تعانى أعتى مراحل القمع، وفى أيام السادات قلّت درجة القمع نسبياً، حيث اتخذ الرئيس حركة بسيطة نحو مشاركة الشعب رغم أن العملية كان مصطنعة وشكلية، اليوم هناك تحسن نسبى أكبر، لكن ذلك لا يسمح بأن أقول إننى أعيش فى نظام ديمقراطى، فقد أخذنا بعض أشكال الديمقراطية وفرّغناها من جوهرها، وكذلك هناك الكثير من الخوف، فلدينا الآن 30 سنة من قانون الطوارئ، فضلاً عن محاكمة المدنى أمام القضاء العسكرى، وهذا أمر يتعبنى كرجل قانون، فعندما تحدث حالات اعتقال دون جريمة فهذا يعنى أننا لسنا فى شارع ديمقراطى.
بدا واضحاً فى كلمات د. البرادعى أنه مهموم، مثلى ومثلك، بما حدث للإنسان المصرى فى الحقبة الأخيرة.. وهو ما دعانى لطرح الأمر بشكل مختلف.. قلت له:
■ عشت طفولتك فى فترة عبدالناصر.. وشبابك فى عصر السادات، ورأيت التغيير الذى حدث للإنسان المصرى، فما تحليلك لما حدث له فى نصف قرن كامل.. أو بمعنى آخر ماذا تغير من قبل الثورة وما بعدها؟!.. فأجاب:
- قبل يومين من حضورى السابق لمصر، تم اعتقال شابين كل ما فعلاه هو كتابة عبارات تأييد لتغيير الدستور على الحوائط، وعندما قرأت التهم المنسوبة إليهما تعجبت جداً، فقد اتهموهما بقلب نظام الحكم بالقوة، وتغيير الدستور بالقوة، وهذا يعنى أننى بدلاً من أن أشجع الشباب على المشاركة السياسية أقوم بحبسهم، وعندما خرج الشباب لاستقبالى فى المطار لم يخرجوا لشخصى وإنما لكونى رمزاً قد يعطيهم ثقة فى أنفسهم، كانت فى المواجهة تحذيرات بوجود إجراءات أمنية، لدرجة أننى قرأت أن الشباب يطالب بعضه البعض بالخروج فى مجموعات لا تزيد كل واحدة منها على خمسة أفراد حتى لا يتم القبض عليهم، وكأنهم يرتكبون تهمة.. أختى، وهى أستاذة جامعية، عندما ذهبت إلى المطار أوقفها ضابط شرطة، وطلب منها ألا تحمل العلم المصرى معها.. هكذا وصلنا إلى مرحلة يطلب فيها ضابط شرطة من مواطنة ألا تحمل العلم، وهو رمز مواطنتنا وكبريائنا، وأنا أجد الآن أن كتبة الصحافة الحكومية يكتبون الكذب والإسفاف فى مواجهتى، رغم أن كل ما أملك هو لسانى والرغبة فى التغيير.. هذا الإنسان المصرى لا يمكن أن أخذله، وفى ظنى أن هناك انفصالاً بين نظام الحكم وبين كل ما هو مصرى، فنحو 95٪ من الشعب مغيب عن السياسة، قيل له عام 1952 هذا ليس شأنك ونحن أوصياء عليك، ففقد إحساسه بالوطن وانتماءه إليه، فى مقابل ذلك لم أقدم له، كدولة، تعليماً وصحة ووظيفة وأملاً، فما حدث للإنسان المصرى هو أننى أهنته وأصبته باليأس.
■ قد يكون سؤالى صادماً للقارئ، ولكن تبدو القضية الآن خاسرة.. فعلى ماذا تراهن مادمت تعترف بأن 95٪ من الشعب تم تغييبه عن السياسة.. فما الذى جاء بك، وما الذى ستغيره فى ظل ذلك؟
- أنا أعرف أن تغيير المواطن المصرى لن يكون بين يوم وليلة، لكن داخل كل مواطن مصرى المبادئ التى أنادى بها: رغبته فى الحياة الكريمة والتعليم الصحيح والعلاج المتاح والسكن بعيداً عن العشوائية، وقد يتطلب ذلك سنة أو أكثر، لكن بذرته موجودة.
يكفى أن أضرب لك مثلاً أنه قبل مجيئى كان هناك 60 ألف شاب على «الفيس بوك»، وفى الأيام الثلاثة الأولى لمجيئى ارتفعوا إلى 90 ألف شاب، ورغم أن مصر ليست كلها «الفيس بوك»، إلا أن هؤلاء الشباب هم النواة، وفى المطار كانت هناك سيدة منتقبة وأخرى متحررة، أى أن رغبة التغيير ليست مقصورة على فئة وحيدة.
هو لايزال يراهن على الإنسان المصرى رغم اعترافه بأنه تغير كثيراً عن الماضى..
■ ولكن لو أن الدكتور محمد البرادعى تم اعتقاله اليوم كم شخصاً سيخرج فى مظاهرة من أجله.. هذا هو الاختبار الحقيقى؟
- لا أعلم، لكن المواطن فقد القدرة على التعبير عن نفسه ورأيه بشكل سلمى، ورغم أن مصر وقّعت على جميع الاتفاقات الدولية التى تضمن ذلك، إلا أنها تعتقل من يقومون بالمظاهرات وتعتبره تهديداً للسلم.. هناك كثير من الخوف لكن هناك حراكاً سياسياً أيضاً، وأنا أرى أن كل إنجازى هو أننى أعدت الروح للشارع المصرى، يكفى حديث الناس فى الشارع حول مستقبلهم أو من يحكمهم فى 2011، كما أنهم يتحدثون حول تعديل الدستور.. المواطن الذى لم يفهم أهمية الدستور بات يعرف أن تغييره هو سبيله للعيش حياة كريمة والحصول على أنبوبة البوتاجاز، ولكننى أعترف بأننى لا أعرف مدى استجابة المجتمع بشكل سلمى لكسر الجدار بيننا وبين الديمقراطية.
■ وهل توجه حديثك حول الحياة الكريمة والبوتاجاز للحكومة أم للنظام.. وهل ترى أن الحكم الموجود حالياً هو امتداد للحكم الذى نشأ بعد الثورة؟
- أنا أوجه حديثى للاثنين.. للحكومة والنظام.. وأرى أن نظام الحكم منذ الثورة حتى الآن يعتمد على الرئيس القادم من خلفية عسكرية، بالإضافة إلى عدم امتلاكنا أى رؤية.. فقد انتقلنا من أصدق أصدقاء الاتحاد السوفيتى إلى أصدق أصدقاء الولايات المتحدة، ومن الاشتراكية إلى نظام يقول إن رأس المال هو المخلّص، وعندما تشاهد ما حدث خلال 50 عاماً لا تعرف ماذا ينتظرنا غداً، لأننا لم نناقش ذلك شعبياً وإنما فُرض علينا من الحكام.
وعندما نقول إن دستورنا مستمد من الدستور الفرنسى، نجد أنه لا يمت بصلة للدستور الفرنسى، وإنما هو نسخة مشوهة منه، الدستور الفرنسى يؤكد على الاشتراكية بينما نحن لا نستطيع النطق بتلك الكلمة الآن، ودستور السويد والنرويج يمزج بين الحرية والاشتراكية، والاشتراكية تعنى هنا العدالة الاجتماعية، فمصر بها 42٪ تحت خط الفقر المدقع، وترتيب مصر فى التقدم الإنسانى فى الأمم المتحدة رقم 123.. يجب ألا نضحك على أنفسنا، لابد أن نعترف بالحقيقة، ثم نعالج المشاكل بشجاعة.
■ إذا وقعت مواجهة بين السلطة والنخبة، وانتهت بقمع النخبة واعتقالها، مثلما حدث فى سبتمبر 1981.. هل سيصفق مجلس الشعب الحالى مثلما فعلها مع السادات؟
- وجهة نظرى الشخصية غير المبنية على معطيات علمية، أنه سيصفق، فالنظر إلى مجلس الشعب يدفعنا للسؤال: هل تم انتخابه بشكل حر أم لا؟ فما أستطيع أن أطلق عليه مجلس شعب، فى نظام يمكن أن نطلق عليه ديمقراطيا، لابد أن تكون فيه معارضة قوية منظمة، وأن تحتل 45٪ من البرلمان، بينما الواقع الآن أن الحزب الثانى له فى مجلس الشعب الحالى من 3 إلى 5 أشخاص، عندما يكون عدد كبير من الأعضاء دخل وخرج محاكم الجنايات لا يمكن أن يكون هذا المجلس حراً، ومجلس الشعب بات هو من يقر صحة عضوية أفراده، وبذلك أصبح الخصم والحكم رغم أن مجلس الشعب سياسى، لا يمكن أن يتدخل فى مسائل قانونية، مازلنا نتحدث عن مجلس به 50٪ من العمال والفلاحين، وهم من يقرون النظم السياسية والاقتصادية لمصر، فالعمال والفلاحون هم أهلنا بالطبع، لكن مجلس الشعب يجب أن يكون من النخبة السياسية، فهذه المرحلة تعداها العالم منذ أمد بعيد، فلا يوجد برلمان فى أى دولة، باستثناء سوريا، به كوتة للعمال والفلاحين، ولا يوجد دستور ديمقراطى يعطى الحق فى الانتخاب مدى الحياة للرئيس، ولا يوجد دستور يعطى كل هذه الصلاحيات للرئيس، فقد قمنا بترقيع الدستور، وليس تعديله، أو تغييره.
■ نعود إلى فترة التكوين لأسألك عن موقع البرادعى بالنسبة لأسرته الصغيرة؟
- أنا أكبر إخوتى، ونحن 5 إخوة: طارق هو التالى، وهو مستشار قانونى فى صندوق التنمية الكويتى، ثم الدكتورة منى التى كانت عميدة لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، والتالى هو على وهو صاحب دار نشر تعليمية، وليلى أستاذة فى الجامعة الأمريكية، ونتيجة كونى الكبير فقد نلت اهتمام والدى ووالدتى لأكون مثالياً، ثم توليت مسؤولية إخوتى الصغار، وكان هناك تركيز بأن أكون مجتهداً فى الدراسة ونموذجاً وقدوة.
وكان والدى أكثر حزماً، ولكنه لم يتدخل كثيراً فى تربيتنا باعتبار أنه دائم العمل، أما والدتى فقد كانت ربة منزل ومتعلمة، حيث حصلت على التوجيهية، لكنها لم تذهب إلى الجامعة، وكانت التوجيهية «حاجة كبيرة» وقتها.
■ كيف تعامل معك والدك فى تربيتك.. وهل ضربك يوماً ما؟
- لم يضربنى والدى أبداً، وإنما كان ينهرنى، وكان وقع ذلك أشد بكثير، فقد كان يوبخنى على أخطائى، لكنه لم يضربنى ولم يضرب أحداً من إخوتى، أما والدتى فقد ضربتنى مرة أو اثنتين وأنا صغير، ولكن كان وقع ذلك أخف علىّ من أن يقدم والدى على توبيخى، ولم يكن هناك احتكاك بدنى فيما بيننا.. فالطفل عندما يُعامل معاملة غير لائقة تؤثر فى تكوينه النفسى، وأذكر أننى كنت أحصل على المركز الأول فى صغرى ولم أكن متفوقاً فى «الحساب»، وفى سنة من السنوات طلعت الثانى، فحرمنى والدى ووالدتى من أن يأتيا لى بمضرب تنس، أذكر هذه المسألة إلى الآن لأننى شعرت أننى عوقبت لأننى متميز.
فى الصغر تعاملت معاملة الإنسان، وأذكر أننى كنت أباهى فى الماضى بالشهامة والجدعنة الموجودة فى مصر، وأن السيدات كن لا يخفن من السير فى الشوارع حتى لو كانت الساعة 2 صباحاً.
وفى التعليم كنت فى مدرسة الأورمان النموذجية فى الدقى، حيث كنا نعيش، بدءاً من الابتدائى إلى الثانوى، وكانت الدراسة طيبة لكنها لم تكن المنشودة، إذ كانت تعتمد أيضاً على التلقين، وحرص والدى على الذهاب لمدارس مصرية، ففى صغرى ذهبت إلى المدرسة الفرنسية وسرعان ما خرجت منها لأنها لم تكن تدرس اللغة العربية، ووالدى أراد أن أتعلم اللغة العربية.
■ وماذا عن علاقتك بالقراءة أثناء مراحل تكوينك الأولى؟
- كنا نملك مكتبة لا حد لها ولا حصر، لدرجة أن الغرفة ضاقت بالكتب فانتقل بعضها إلى مكتبة، وكانت الكتب فى مختلف المجالات، وكان والدى قدوة فى كل المجالات، فقد كان رجلاً متديناً لكنه لم يأمرنا بالصلاة، وإنما يكتفى بأن نراه قدوة فنحذو حذوه، ومن الكتب التى كنت أقرؤها مؤلفات طه حسين، إذ تركت فى نفسى أثراً كبيراً لأننى رأيت فى هذا الضرير الذى جاء من أسرة شديدة الفقر وحصل على الدكتوراه من «السوربون» نموذجاً للإنسان المصرى الذى بنى نفسه بنفسه عن طريق الفكر والعلم والتميز، وقرأت كتاب «أدب الشعر الجاهلى»، وقرأت مؤخراً أنهم حاولوا إلغاء كتاب «الأيام» من المناهج التعليمية لانتقاده الأزهر، وهذا فى رأيى يمثل ردة للخلف، رغم أنه يوجد العديد من الأسباب التى تدفعك لانتقاد الأزهر، ولا يمكن أن تكون الدولة وصية على فكر المواطن.. قرأت أيضاً كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبدالرازق، وبعدها أخرجوه من الأزهر، وكنت أقرأ أيضاً لزكى نجيب محمود، بالإضافة إلى مشروع الألف كتاب فى فترة عبدالناصر، وسلسلة كتب «الهلال»، وقد أميل لقراءة الكتب التى تسير ضد التيار القمعى، وكنت أقرأ من كل بستان زهرة، وأعشق الأدب والتاريخ، وحرصت على كل كتابات طه حسين وتوفيق الحكيم لأنهما كانا شخصين بلا قيود على تفكيرهما، أما زكى نجيب محمود فكان وصلة بين التفكير العربى والإسلامى، والتفكير الغربى، وقرأت بعد ذلك «ثلاثية نجيب محفوظ» و«أولاد حارتنا» لأنها تخطت حواجز كثيرة، وقرأت كذلك «الخبز الحافى» للمغربى محمد شكرى، وكتب طاهر بن جلون.
■ .. ولماذا تعشق الأدب المتمرد؟
- لأنه يدفعنى إلى التفكير، فهو ليس عملية استمتاع فقط، وإنما هو قدرة على التفكير، فالكتب التقليدية لن تدفعنى للتفكير، فكتب «كافكا» مثلا أثرت فى شخصيتى، لأنها عبرت حواجز كثيرة فى التفكير.
■ ولمن تقرأ حالياً فى الأدب والفكر قبل الصحافة؟
- لم يكن لدىّ وقت للقراءة كثيراً فى الأدب فى الفترة الأخيرة، لأن عملى كان شاقاً وكان سفرى كثيراً، كنت أقرأ قراءات كثيرة متعلقة بعملى، لكننى أعجبت كثيراً بكتب علاء الأسوانى وأبرزها «عمارة يعقوبيان» لأنه يعطى صورة أدبية لتدهور أحوال مصر، وهناك كُتاب سمعت بهم ولم أقرأ لهم بعد مثل بهاء طاهر وجمال الغيطانى، والفترة المقبلة سأتواصل فى القراءة مع الكتاب الحاليين فى مصر.. وفى الفترة الأخيرة أيضاً ازداد تواصلى مع الموسيقى الكلاسيكية والجاز، لأن وقتى كان يسمح بذلك مع قراءة الصحف.
■ يمكن أن نفهم تعلقك بالموسيقى الكلاسيكية بحكم تكوينك وحب الوالد لها.. ولكن لماذا الجاز؟
- الموسيقى الكلاسيكية هى بناء درامى منطقى بشكل كامل، وتخرج أفضل الأحاسيس الإنسانية، أما الجاز فهى مختلفة بصورة كبيرة عن الموسيقى الكلاسيكية، فهى شديدة التلقائية وشديدة الارتجال، وهو ما تحتاجه بشكل كبير بعد عمل شاق، أستمع إلى مايكل ديفيز، فهناك مكان للعواطف، وهناك مكان للتلقائية، وفى الفترة الأخيرة بعد الصراعات والمشاكل فى العالم كانت فترة الخلاص فى حياتى هى وضع قرص مدمج للجاز والاستماع إليها، والجاز عبارة عن إنسان يعبر عن نفسه بالشكل الذى يراه فى الوقت الذى يراه، وهى تشبه أن أرتدى بنطلون جينز عندما أعود إلى منزلى، وأنا أمتلك بيتاً ريفياً فى جنوب فرنسا وأعتبره أقصى ما أتمناه على وجه الأرض، هدوء جميل، وجيراننا من المزارع العظيمة وعباد الشمس ومزارع البقر الجميل.. كنت فى إجازاتى أجلس مع حفيدتى «مايا» ذات العامين نتناول الخبز الفرنسى المميز وأشعر بالسعادة، فحريتى أن أكون مع نفسى وعائلتى، وإحدى هواياتى اليومية هى المشى منفرداً، وهو ما تشتكى منه زوجتى لأننى أعود بمئات الأفكار بعدها.
■ محاولة الهروب الشخصى والنفسى بين موسيقى الجاز والريف الفرنسى، كيف ستوازن بينها وبين صراعات العمل العام فى مصر؟
- لدىّ رسالة واضحة هى إقناع الشعب المصرى بعدم اليأس، وأن حقوقه تم سلبها، ويمكن أن يستعيدها ويستعيد كرامته من خلال الديمقراطية الحقيقية، وإذا كان يرانى قادراً على ذلك فسأقوم به من مساحة التكليف وليس التشريف.
■ وهل ستحصل على استراحة المحارب بعد ذلك فى جنوب فرنسا أم فى مصر؟
- يتوقف ذلك على الظروف، فإذا كنت فى مصر سآخذها فى هذه الحديقة - وأشار إلى حديقة منزله - فأنا لا أود أن تحدث صراعات فى سبيل ما أراه صواباً، وما أجده عمليات سب وقذف فى الصحف الحكومية، يجب أن يحال أصحابها إلى المحاكم، ولكننى لن أذهب بهم إلى القضاء، ولكن الصراع الفكرى يحيى حالة نشاط بداخلى، فمن يتناقش معى فى أفكارى سأكون مستعداً له.
■ هل أنت متمرد بطبعك أم رجل يحب أن يكون ضد التيار فى مصر؟
- تكوينى يمنحنى القدرة على التفكير، وكان والدى محافظاً عنى فى تفكيره، لكن ما لا أستطيع التخلى عنه هو حرية التفكير، لأنه يعنى بالنسبة لى الحياة.
■ أى رواية أو عمل أدبى عبر عنك وعن تكوينك سواء كان عربياً أو أجنبياً؟
- رأيت نفسى فى طه حسين، فهو رجل تحدى كل الظروف، وحين ترى ما الذى فعله ستكتشف أنه رجل عظيم، لذا فأنا أحب أن أرى نفسى بطلاً لرواية «الأيام» مع اختلاف الظروف، فمساحة التحدى تستهوينى للغاية.. وعلى الصعيد الدولى رئيس الوزراء الهندى مانموهان سينج، فقد ظل يذاكر لمدة 10 سنوات على لمبة جاز إلى أن حصل على الدكتوراه وأصبح مفجر ثورة الهند الاقتصادية كوزير مالية ثم رئيس للوزراء، وبرغم أنه من طائفة السيخ التى لا تشكل سوى 2٪ من الشعب الهندى، فهو يحكم البلد، ولم يتساءل الهندوس الذين يمثلون 80٪ لماذا يحكمهم رجل من الأقليات فى الهند، ذهبت له فى الهند فى بيته المتواضع، وعندما وضع إقراره للذمة المالية أكد أنه لا يملك سيارة أو بيتاً، فهو لا يملك شيئاً فى حياته...
والمشكلة أننا فى مصر بعيدون جداً عن ذلك، وياريت أستطيع أن أقوم بتجربة مماثلة أو شبيهة، فالظروف مختلفة لأننى لست أقلية وأملك مورداً مالياً أفضل، إلا أن الميزة فيه أنه موظف لدى الشعب، ووجوده مرهون بذلك، وإذا توليت أى منصب سأرى نفسى موظفاً لدى الشعب ووجودى مرهوناً برضاه، ولن أصلح شيئاً إلا بالشعب.
■ لماذا ترى نفسك مثل بطل «الأيام»؟
- لأننى أستطيع الدخول فى معارك فكرية من أجل الوصول إلى ما أراه حقاً، فطه حسين أول من نادى بمجانية التعليم واعتبره كالماء والهواء، والشيخ محمد عبده - كمثال آخر - رجل يذهب إلى الغرب فى بداية القرن التاسع عشر ليقول رأيت إسلاماً بدون مسلمين، ورأيت فى العالم العربى مسلمين بلا إسلام، وما رآه محمد عبده أراه اليوم، فقد فرغنا الإسلام من جوهر التسامح والمحبة والشورى ليصبح مجرد طقوس.
■ وما الذى جعلنا نفرّغ الإسلام من جوهره؟
- هذه الحالة امتداد لحالة التدهور العام، فالدين هو مجموعة من القيم، عندما تدهورت منظومة القيم ككل تدهورت معها القيم الدينية، فالإسلام الذى تربيت عليه فى البيت لا علاقة له بالإسلام اليوم، فهو قيم التسامح والمحبة والسلام وليس مجرد ملبس وطقوس.
غداً.. الجزء الثانى من الحوار