لم أتبين وقتها أعين صغارنا تطلُ علىّ من أعماق عينيها.. الآن أراهما، وصغارهم يملأون حجرى.. تتكرر الأعين، طازج دفئهم يسرى إلى برد عظام وحدتى.. لا أعرف كيف تملأهم حرارتها.. فتنتعش رأسى، تهاجمنى الحكايا، وهى تطلُ علينا.. لا أعرف من أين.
صباح عاصف.. بقدمها كانت تزيح الأسطوانة الكرتونية إلى جهتى.. بعنف وفحيح تطلق الأسطوانة الغازات البنفسجية المسيلة للدموع.. نظرت إليها، تبتسم.. فتضىء الغيمة البنفسجية الخانقة حولها.. بينما تغوص نظراتها فى أغوار نفسى.. انحنيت أتناول الأسطوانة.. ترَكَتْ الأبخرة البنفسجية لونها على الجورب الأسود الرقيق، وحذائها الأسود اللامع.. أسرعتُ لألقى بالأسطوانة ثانية عليهم خارج السور الحديدى المغلق. حلوقنا مختنقة بالغاز.. نتبادل النظرات فى زحام الزملاء.. لا أرى سواها.. لم تعد أصوات الهتافات تبين.. اختنقت.. وجوهنا باهتة بعرق بنفسجى الغاز الخانق.
أشرتُ لها لترجع فى الظل.. لدهشتى تراجعت، وبخفة على كعبها العالى.. تقف هناك بين البنات، بينما نحن نتولى رد قنابل الغاز فى صمت.. وقد جفت حلوقنا، ولم تتوقف القنابل.. منشورات ذلك اليوم مازال أحدها فى الدرج، إلى جوار فراشنا.. يطل على كلما فتحتُه، اصفرَّت أوراقه.. مخطوط عليها فى عجلة وبالكربون «الاعتصام بالمدرّج الكبير.. من بعد العصر، ونرفض لقاء المسؤول الكبير الآتى للمناقشة وإطفاء الغليان». فى زحام المدرج حول عازف العود بقبعة جوركى.. تشتعل الأغانى بأصواتنا الخشنة المبحوحة.. تجلس فى ركن أول المدرّج، رفعت يدها لأراها، تحتفظ بمكان إلى جوارها بحقيبتها والبلوفر الصوفى الأحمر.. اتجهت إليها بالغ الإعياء:
شايفِك طبعاً.. ليه سايبة البلوفر والشنطة.. دول غاليين قوى، وممكن يضيعوا
فى الزحمة..
تضايقها كلمة «غاليين قوى».. تبتسم بعد عبوس، بينما تنقلهم إلى حجرها لأجلس.. اخرجَتْ باكو البسكوت بالشيكولاتة.. تحبه.. لم نأكل طوال اليوم، والمقصف لم يعمل.. تقتسمه.. كعادتها تحتفظ بنصيبها لتعطيه لى بعد أن التهمتُ نصيبى.. أصرّتْ.. لنقسم النصف الباقى.. وأنا أرجوها، يرتفع صوتى.. يشير إلينا الزملاء لنشاركهم.. تعلِّق صديقتها مُداعِبة:
تعالوا اهتفوا معنا.. خلّونا نشوف مصيرنا.. لا حرب ولا أكل ولا شرب..
هاتعيشوا إزاى أن شاء الله.. ولا كفاية تحلموا وبس..
ترد عليها متلطفة:
ما إحنا معاكم هنا من الصبح.. وهو خلاص رايح الجيش بعد كام شهر.. وكلكم عارفين، كل مكان فيه حظر وحصار.. وأنا ما بصدّق أخرج.. أجى لكم..
بدا عليها الانفعال.. اقتربت منها الصديقة، تحتضنها.. وتربت على كتفى.. تهامستا.. أعرف شكواها.. تعبث أصابعها بعصبية بالبلوفر الأحمر.. هى أيضاً فى حصار خانق.. انفرادى.. رتبت لها الأسرة الثرية زيجة أيضاً ثرية.. منفعلة فى أحضان صديقتها.. فى رأسها الجميل، تتضارب أفكار تعتنقها وتحياها نهاراً معنا.. ثم تعود للحبس – كما تسميه هى - ولعدة أيام.. تمر علىّ كالدهر.. إلا من اختلاس اتصالات هاتفية.. تطمئن علينا، وتصف حيل الضغط عليها لقبول العريس الثرى.. والمقابل تهديد بعدم الذهاب إلى الجامعة مرة أخرى.. والجميع ضدها.. يأتى صوتها ضجِرة:
تصور.. لا يعرفون أن هناك مظاهرات.. أو أن البلد تستعد للحرب.. أهم حاجة شنط الملابس اللى جاية من بره، والمحلات والعمارات.. وهم عارفين إن كل ده سوق سودة..
أحارُ فى الرد عليها:
كل جماعة لها أسلوب حياة..
كثيراً ما تقاطعنى بهيستيرية:
لأ.. لأ.. دول بيسخروا مننا.. ومن الظروف، وبيستثمروها كمان.. مش ممكن..
مراراً أتلمس منها كيف سيكون مصيرنا.. أرتجف لمجرد تصورى بعدها عنى.. تفاجئنى عيناها فى ظلام المعسكرات الذى طال أمده.. تشعان فىّ الثقة والأمان.. ربما بحشد أعينهم فيهما.. بعثت براءتهم الخفية فينا القوة للمواجهة.. أدرك ذلك الآن.. ومع النصر كان نصرنا، ومع السلام جاء طفلنا الأول..
لا أنسَ يوم أن عادت من العمل متأخرة.. ثائرة، والعصرية خانقة.. يجهز الصغار معها السفرة للغداء.. يأتى صوتها حانقاً من المطبخ:
تصور.. فى زحام الطريق، من الحافلة.. ألمح الولد وأخته فى مظاهرات الجامعة.. وبعدين.. غلبنا كلام معاهم .. لم أجد ما أقول.. يدور التاريخ.. تشاغلتُ بالطعام.. لم يخف قلقى: مُعترضين على السلام الهش.. إحنا كنا فى ظروف مختلفة.. وهم مش مدركين التغيير عبر السنين.. لكن لازم نواصل الكلام معهم..
لا يكف الصغار عن الحملقة فينا.. يترقبون النشرات فى التليفزيون، وبمكر يسألون عن تأخر أخوهم وأختهم.. يتابعون كل نقاشاتنا معهم.. قلت لهم وقد رفعتُ صوتى لأُسمعها:
كلها أسبوع ويبدأ الاستعداد لامتحانات نصف العام.. ويضطرون للهدوء والمذاكرة..
فى أمسياتنا الصيفية الكثيرة، لم نكف عن الجدل حول ما يجرى حولنا، وجدوى استقراء التاريخ وأصول الصراعات.. وكيفية التعبير عن ذلك.. تعترض بحِدة.. فالهدف هو المذاكرة ثم التخرج.. لا يتوقف الجدل.. نخفى إعجابنا بالنقاش..
ذلك الصيف الخانق.. المبنى الضخم للمستشفى يواجه الجامعة.. بصعوبة أتمكن من الدخول إليها، فى زحام الأولاد والشرطة.. التسارع المذهل للمرض أصابنا بالهلع.. تقبض على كفى بوهن بعد كل قذيفة من قنابل الدخان.. أنظر إليها، تبتسم.. تشير إلىّ لأقترب.. تعتدل مشيرة إلى قوس الدخان البنفسجى يبدو من الزجاج.. تضغط على يدى، ترجع رأسها للخلف على الوسادة:
فاكر.. صوتها فى أذنى زى دفوف الزفاف..
أغالب دموع تتسلل.. أدير رأسى.. لم تعد تقوى على الوقوف، لترقب المظاهرات من خلف الستار معى.. قبل رحيلها بأيام.. أحتضنها لأخفى دموعى فيما بقى منها.. اقتحم الولد الحجرة فى الظهيرة.. يقف أمامنا ومعه حسناء ترتدى الجينز.. يكسو عرق بنفسجى وجهيهما.. صوت الهتافات فى الخارج يخفت بقفل الباب.. قال لها، لم تخف رنة الأسى:
هما دول يا ستى..
اقتربت الفتاة لتقبلها.. انسلّت من حضنى، تشبثت بها بقوة.. احتضنتها الفتاة.. أدارت رأسها إلىّ من فوق كتف الفتاة.. ابتسمت لى تلك الابتسامة.. يوم الدخان البنفسجى..