قصص بحجم الكَفيْن
■ مُصطَفى
الليل مترامى الأطراف، وثقيل، فى ميدان التحرير.
الليل طويل، على مئات الآلاف من المعتصمين، بارد وقاس على العجائز، والكهول، والفتيات، والرجال، ومظلم فى الخِيام الصغيرة، وظلال شاحبة تتحرك على الأسفلت، والرصيف، وفوق عشب الحديقة.
وسط الظلمة، وصمت ما قبل الفجر، فى قلب الميدان، ثمّة هالة ضوء، وابتسامة خافتة على وجه جميل، لم تذبل نضارته بعد، امرأة فى نحو الأربعين لها وقار، وحجاب أبيض. المرأة ساكنة فى مكانها، صامتة، ترفع عاليًا بيديها، المفرودتين لأقصى ما تصل ذراعاها، صورة كبيرة فى برواز، بعلامة سوداء، ولافتة قماش، مكتوباً عليها «مصطفى الشهيد».
ليلة أمس قُتلَ مصطفى، بإصابة مباشرة، رصاص حىّ، واحدة فى جبهته، والأخرى فى الصدر، فى القلب.
قنّاص من فوق عمارة وادى النيل اختار، من بين مئات الآلاف فى الميدان، صدر مصطفى، وصوّب، تصويب قاتل محترف، أُصيبَ قلب الشاب، ونزف الدم غزيرًا من صدره، ولم يسقط الجسد والرأس، ظل الجسم واقفًا منتصبًا على قدميه، فقط تلوّن قميصه بالدم.
القنّاص فوق العمارة، خلف منظاره المُعظِم، تعجّب من منظر «الهدف»، وأصرّ، لم يفكر، لحظة أخرى لم يتأن، بسرعة رفع رشاشه ثانيةً، وبعين صقر، صوّب، وأطلق رصاصة أخرى على الرأس، فى منتصف جبهة الشاب.
فى لحظة تهاوى الجسد اليافع، المنتصب فى وقفته أمام المتحف المصرى، سقط الشاب، كتلة واحدة، إلى الخلف، ارتطم ظهره بالأسفلت، وبالأرض التصق، مغطيًا صدره، وجبهته، ووجهه، الدم.
سكن مصطفى بلا صخب، أو ضجيج، أو حشرجة موت، سكتت الحياة فى جسد الشاب، وكانت عيناه مفتوحتين، ناظرتين فى اتجاه تمثال الشهيد عبدالمنعم رياض، وقدماه على عتبة المتحف، ويده اليمنى قابضة، متصلبة على حجر، لم يسعفه الوقت ليطلقه فى اتجاه القادمين، المجلجلين بالسيوف، والسنج، والدم.
ومنذ الأمس صار الناس يرون فى مكان قتله هالة ضوء.
فى الصورة القديمة التى ترفعها أمه فوق رأسها، مصطفى مبتسم وسعيد، وطيب، وفى العشرين. والأم تحت صورته، لساعات، ظلت واقفة، رافعة الصورة فى صمت.
أخيرًا، حين اقترب من الأم جمع، نطقتْ، هتفتْ من كل القلب:
«أحلف بالمصحف والإنجيل.. دم الشهدا مش هيضيع».
■ حُب
فى ميدان التحرير، على ناصية شارع قصر النيل، أمام شركة للسياحة والسفر، ومطعم كشرى التحرير، ومحل زهور تمر حنة، بين الرصيف والسور الحديدى الغليظ الذى يحد نهر الميدان، طوار مشاة، ورصيف، وعتبات من البلاط الملوّن بالأحمر، وبالأخضر وبالأسود.
البلاطات عريضة، ومتوسطة، وكبيرة، وعلى شكل قلب، بورود حمراء، أمام محل الزهور. البلاط قديم، لم يُجدّد من سنين، لكنه، كله، صلب ومتين، وهى كانت تكسّر بلاط الرصيف، والعتبات، ثابتة العينين والجنان، متعجلة، وبإصرار عنيد.
كانت، قد وجدت ضالتها، بعد بحث طويل مسحت فيه أرجاء الميدان والزحام، شيئًا تكسر به بلاط الرصيف. كانت ترفع قالب الأسمنت المستطيل، بندورة رصيف ثقيلة ومهملة، بكلتا يديها الصغيرتيْن، وتهوى به على البلاط، ثم تعود لتلتقط القالب بأظافرها ويديها، وبأقصى ما تملك من قوة وعزم تضرب به البلاط، مرة ومرات، دون كلل أو إحجام. على وجهها يبدو تعب ليالى الرقاد على الأسفلت، فى خيمتها وصاحباتها، فى حديقة مثلثة صغيرة، على بعد خطوات. الفتاة بوجهها آثار إرهاق، وقلة نوم وتعب، لكنها تعمل بعزم شديد وتصميم.
بعد محاولات، ومحاولات، وعرق رغم البرد، تتخلخل بلاطة، وتنشرخ أخرى. تنحى الهيفاء برشاقة، وهى تعدل شريط شعرها المعقوص بشرائط طويلة، حمراء وبيضاء وسوداء، تلتقط البلاط المكسور، تكوّمه فى كومة صغيرة قريبًا من أيدى الذين سيأتون لأخذه، الرجال على جبهة المواجهة الأمامية، عند المتحف المصرى.
وهو كان يهرع نحو الكومة، يجرى كنمر، يأخذ من كومتها بيديه، الاثنتين، الكبيرتين، ويعود عَدْوًا فى اتجاه جبهة القتال.
هى وهو يعرفان..
الآخرون على الناحية الأخرى، فى ميدان عبدالمنعم رياض، شرسون، لهم علامات إجرام قديم على الوجوه، وجروح، وندوب، فى أيديهم سكاكين وبُلَط وسنج وسيوف، ومستعدون للانقضاض إذا انهارت صفوف المقاومة الأولى.
الآخرون يغرفون من عربة نقل حُمّلت بكسر رخام مسنون، جاءت فى ليل وظلام، ونحو المعتصمين يقذفون كأنهم يقتلون جرذانًا وثعابين. الآخرون لهم قلوب صخر بين صدورهم، وعقول سوداء، وأرواح جاهلة، وأيدى بطش عمياء.
هى وهو يعرفان أنه يجب إيقاف تقدمهم، والدفاع عن الميدان، ولو تكلف الأمر آلاف الشهداء.
وهو يأخذ كومة أحجار ويحملها على صدره، نظر إليها خطفًا، وقال لنفسه وهو يعدو نحو جبهة القتال «جميلة، وتصمد هذه الفتاة للمحن والأيام»، لو عدتُ وانتصرنا، وبقينا، أنا وهى، أحياء سأقول لها: «أحبك، تتزوجينى؟».
وهى، تراه يخترق الصف إلى الأمام، بجسارة وشجاعة من يريد الموت أو الانتصار، ويصير أول المدافعين عن الميدان، همست الفتاة لنفسها: «هذا الرجل شجاع، تتمناه مليون فتاة».
وظلت هى تكسر البلاط، وظل هو يلقى بالأحجار فى اتجاه المهاجمين، ظل يكر ولا يفر..
وكان اليوم أصعب الأيام، وفيه سالت أغلب دماء الأبرياء.
■ مَمر
ممر المقهى معتم هذا الصباح، أشعة الشمس واهية، وخافتة الضوء فوق الكراسى، والمناضد، وعلى بلاط الأرض.
الكراسى الخشبية خالية، مركون ظهرها لحائط المقهى، وأمامها المناضد الصغيرة، نظيفة، وخاوية. باب الصيدلية، المواجه للكراسى والمناضد، عال، وعريض، أسود، ومغلق. ثمّة حزن رهيف يخيّم، ويتوغل فى هواء الممر.
لا أحد هنا هذا الصباح، الكل هناك، فى ميدان التحرير، بعضهم تجاوز المكان للأبد.
صور شهداء الثورة، «الورد اللى فتح فى جناين مصر»، صفحة من جريدة، معلقة على عمود رخامى، وردى، يبرز خارج مقهى «الندوة الثقافية»، بباب اللوق.
أرشف القهوة سادة، وأنظر لوجوههم، وأفكر..
هذه الوجوه الشابة، مألوفة وحميمة، كأصدقاء ورفاق. رأيتهم من قبل هنا أو هناك، فى زمن ما، على مقاهى وسط البلد، فى أحد شوارع القاهرة، فى ميدان التحرير أو طلعت حرب، فى الجيزة، أو الزمالك.. رأيتهم فى الحياة!
تقابلنا، والتقت عيوننا من قبل، يومًا ما، تبادلنا ابتسامات، وبعض كلمات.. ربما، لكنى لم أنتبه، لم أكن أعرف أنهم منذورون للقتل، للشهادة، والفداء. لا أحد يبدو عليه أنه منذور للموت، رغم أننا نعرف جميعًا أننا سنموت، فى اللحظة التالية، اليوم، غدًا أو بعد خمسين عاماً..
رأيتهم ولم أعرفهم، لم أنتبه، لكنى على يقين من أننى أعرف هذه الوجوه، وتعرفنى، بعضهم كان يجلس هنا على هذا المقعد الخالى إلى جوارى، بعضهم كان يسير فوق نفس المساحة التى وطأتها، وتمشى عليها أقدامنا، لن يعودوا لكراسيهم، ومناضدهم، وأكواب شايهم، ودردشاتهم، وصخبهم..
لن يعودوا للجلوس فى هذا الممر.
حمدى الجزار
مواليد 1970 وصدرت له رواية «سحر أسود» وترجمت أعماله إلى الإنجليزية والتركية ونالت جائزة ساويرس للأدب المصرى 2006، واختير ضمن أفضل 39 كاتباً فى «مشروع بيروت 39»