حان الوقت للحديث عن بدايات الطريق الصائب للإصلاح على جميع مناحى الحياة فى مصر. والحديث فى ذلك طويل جداً من الناحية الزمنية والإجرائية.. ولكن بدا واضحًا نتيجة ثورة الوعى فى 25 يناير، أن الفساد المالى من أكثر القضايا قوة فى مشاعر الشعب المصرى.. وبات كل فرد يستيقظ صباحاً ويقرأ الصحف ليفاجأ بأخبار جديدة ومتنوعة عن الفساد المالى للعديد من المسؤولين!!
وحينئذ ينطق لسان حال كل فرد بالقول «أين كان ذلك؟»، ولماذا لم نكن نعلم عنه طوال هذه السنين الطويلة؟، «من كان وراء إخفاء الحقائق؟»، وإننى هنا استسمح القارئ بالتمعن جيداً فى هذه القضية!.
فالفساد فى أى نشاط جزء لا يتجزأ من طبيعة الحياة، منذ أن وجدت الحياة، ولذلك فعبر حقب زمنية طويلة، انطلق خيال المفكرين ليوسع من دائرة الأمل فى الحياة، بأن تم طرح «الشفافية المالية» كمنهج لمحاربة الفساد.. ولقرون عديدة صارت الشفافية والإفصاح المالى إحدى القضايا المرتبطة بالديمقراطية السياسية..
ولكن التاريخ فاجأنا جميعًا بحقيقة من حقائق الحياة فى العديد من المواقف، فنحن مثلاً نعتبر الدول المتقدمة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، من أكثر الدول التزامًا بقواعد الشفافية المالية، بل إن قوانين جرائم الأموال تصل عقوبتها للسجن مدى الحياة!! ولكن الحقيقة عكس ذلك، فأكثر الدول التزاماً بالشفافية المالية قدمت لنا أكبر الأمثلة فى الفساد المالى أيضًا!!..
من هؤلاء قضية اختلاسات شركة «انرون» عام 2002 التى مازالت ماثلة أمام القضاء حتى اليوم.. وقضية «برنارد مادوف»، الرئيس السابق لسوق «ناسدك» الذى حكم عليه بـ150 عاماً فى السجن فى 11 قضية غش مالى!!..
وقضية شركة «بارمالات» وهى أكبر سلسلة متاجر تجزئة فى إيطاليا، ولها فروع فى جميع أنحاء أوروبا، والتى اختفى من سجلاتها أكثر من 3 مليارات يورو فجأة، ولا أحد يعلم أين ذهبت؟!..
كل هذه القضايا تثير السؤال الجوهرى «هل استطاعت أشد النظم شفافية تجنب الفساد المالى؟»، وبالطبع فإن الإجابة «لا»!!،
ولذلك فإن بداية الطريق الصحيح للإصلاح يجب ألا تبدأ بالحديث عن المؤسسات والقوانين التى تحارب الفساد، بل يجب أن تبدأ من الفرد الذى يعمل بهذه المؤسسات، وهو أيضاً الفرد الذى يطبق هذه القوانين..
فجميعنا يعلم أن أى مسؤول ارتكب مخالفة مالية أياً كان نطاقها، لم يقم بتنفيذ ذلك بنفسه وبدون علم أى أحد، بل إن مجريات الأمور تقتضى أن يقوم هذا المسؤول بتمرير تلك المخالفة على عشرات بل مئات من الأفراد، الذين آثروا كتمان الفساد لعشرات السنين، فهؤلاء هم مرتكبو الجرائم المالية، والذين يجب أيضًا البحث عنهم.. وصدق رب العالمين «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
أستاذ التمويل بالجامعة البريطانية بمصر