كنت أنوى أن أكتب عن الفساد السياسى باعتباره العامل الأساسى لظهور الفساد فى شتى مناحى الحياة، وباعتباره المسؤول الأول عن حالة التردى التى وصلت إليها البلاد، وعن مؤسسات مكافحته وهى عديدة وأهمها – فى اعتقادى – البرلمان، وعما إذا كانت تلك الأجهزة قد قامت بأدوارها أم أنها كانت هى الأخرى فاسدة، ولكننى تذكرت رسالة الآنسة نور القصيرة التى أرسلتها إلى «المصرى اليوم» تعليقاً على مقالى «الشباب والسياسة» و«فيفتى شباب» ولأن رسالتها – على قصرها – مست أشياء فى قلبى، فوقعت فى ضميرى واحتفظ بها عقلى، فرأيت أن أنشرها وأجعلها موضوع مقالى اليوم، وأؤجل كتابة ما كنت أنويه إلى مقالى المقبل:
«هو أنا أيوه ممكن أكون بنت مش ولد، صغيرة فى السن، بس كلامك وجعنى، كل حاجة كتبتها نفسنا نتكلم عنها، يا ترى إمتى صوتنا يطلع فى النور، لا نخاف ولا نتهدد من سلطة ولا مسؤول، أدينا بنصرخ ونتمنى، أدينا لسه بندب، أدينا ماشيين لسه على الأرض، بجد مش هقدر أقولك غير إنك بتحاول تعبر بجد عن اللِّى جوانا، وياريت كل اللى يشوف كلامك يحس هو كمان باللى جوانا». انتهت رسالة الآنسة الصغيرة نور، والتى تركت فى نفسى أثراً كبيراً لم يزل، وأنا اليوم أنشر رسالتها لأحييها وأهنئها على «الثورة» وأنا على يقين أنها كانت فى طليعة الثائرين، وأقول لكى «يا نور» إن أزمة الحكم التى عشتوها وعشناها معكم يبدو أنها سوف تنحل على إثر ثورتكم، وسوف تستطيعين الكلام وهتقولى كل اللى انتى عايزاه دون خوف، بس المسألة «يا نور» مش كلام وبس، هناك «أزمة شعب» خلقها وخلفها نظام الحكم السابق – إن صح التعبير – ودى هى المسألة الأصعب، وأنا سوف أحكى لكى عن هذه الأزمة والتى تحتاج منكم إلى ثورة أكبر تقود إلى الإصلاح فى مصر، والذى فشل بسبب الفساد،
والفساد «يا نور» يبدأ بوضع مصلحة أشخاص بأعينهم من الحكومة، وذوى السلطة والنفوذ وأصدقائهم، والمقربين إليهم، فوق المصلحة العامة بطريقة غير مشروعة، يترتب عليها انتشار ثقافة الفساد فى البلاد، وبين معظم العباد، فينصرف كلٌ إلى تحقيق مصالحه الشخصية، وتنتشر اللامبالاة السياسية، وتختل منظومة القيم الاجتماعية، وتسود ثقافة استغلال النفوذ، والتربح غير المشروع، والواسطة والمحسوبية والرشوة وإهدار المال العام، والتزوير فى الانتخابات وآفات أخرى كثيرة، تصيب المجتمع وتتحول إلى سلوك شبه عام، لا يثير استنكاراً أو استهجاناً، وتنطمس لدى الشعب الهوية الوطنية، ويظهر الهتيفة والخطافون والمنافقون خربى الذمم والأخلاق، والسبب الرئيسى لذلك هو الفساد السياسى، والذى كبل الحريات، واختفت على يديه حيادية الإعلام، وانعدمت معه المنافسة السياسية، وفسدت فيه الأحزاب، وجارت الدولة على حقوق المواطنة التى كفلها الدستور، واعتبرت الحكومة، وأذنابها من الأصدقاء والأقرباء وذوى النفوذ من رجال السلطة، الشعب أتباعاً وليسوا مواطنين متساوين فى الحقوق والواجبات، والفساد السياسى عمودى يأتى من القمة إلى القاع، وتنتشر بعد ذلك أنواع الفساد أفقياً بين الناس، وتموت الأحلام فى عيون الشباب، ويتم اغتيال طموحهم فى حياة النجاح والرخاء.
فى مثل هذه الظروف «يا نور» لا يمكن الإصلاح بأى حال، والآن وبعد «الثورة» على نظام الحكم، يظل أمامك أنتى وجيلك التحدى الكبير، الثورة على ثقافة الفساد، فأزمة الشعب الآن هى التحدى الحقيقى والعائق أمام الإصلاح، وإحياء الطموح وأحلام التقدم والرخاء، ولا تنسى «يا نور» أن التعريف الأساسى للسياسة هو الاهتمام بالشأن العام، فأنتم الآن من الساسة، فتذكرى قول الشاعر الكبير عمنا صلاح چاهين فى رباعيته « قالوا السياسة مهلكة بشكل عام، وبحورها يا بنى خشنة مش ريش نعام، غوص فيها تلقى الغرقانين كلهم شايلين غنايم، الخفيف.. هو اللى عام»، فعوموا وما تغرقوش زى اللى غرقوا وغرَّقوا البلد، وتذكرى أن الإصلاح لا يمكن أن يتم فى مجتمع غالبية أفراده غائبون أو مغيبون عن الوعى، والوعى بالإصلاح هو الضمانة الوحيدة للاستمرار فيه وعدم انحرافه، والوعى بالديمقراطية هو الذى يحافظ عليها، والوعى بالذات هو الطريق إلى الحرية والإبداع،
وما من شعب غاب وعيه إلا وتحولت حكومته إلى حكومة ديكتاتورية تتصرف بمحض إرادتها، وعلى الشعب المغيب أن يقبل بما تجود به عليه، فلا تقبلوا بالتغييب كما قَبِل به جيلنا، اختلفوا فى الرؤى والأفكار، فالاختلاف مطلوب، مشروع طالما أن الاتفاق حول المصلحة العامة هو هدفكم، وتذكرى أيضاً «يا نور» قول عمك صلاح چاهين «لولا اختلاف الرأى يا محترم، لولا الظلطتين ما الوقود انضرم، ولولا فرعين ليف سوا مخاليف، كان بينا حبل الود كيف انبرم»، والسلام ختام.