x

لامؤاخذة يا رقابة

الثلاثاء 18-01-2011 16:57 |


أتمنى أن أحتفظ بهذا المقال لقراءته فى المستقبل، لأنظر وقتها كيف كان حالنا فى الماضى وأحمد الله على حاضر مازال مستقبلا، حينما تصبح لدينا جميعا عقول متفتحة وثقة فى عقول الآخرين، وأتهكم على الماضى الذى مازال حاضرا حينما يظن البعض أنهم أهل لرفض أو قمع، أو أنهم قوامون على باقى البشر ليقرروا ما هم مستعدون لسماعه وما الذى يجب أن يُمنع من الوصول لعقولهم.


كفنان متفائل أو ساذج كما يصفنى البعض، قررت كتابة فيلم سينمائى ساخر كوميدى صادم يناقش قضية التمييز الصامت - كما أسميها - بين المسلمين والمسيحيين فى مجتمعنا العزيز، أحاول فيه أن أبدأ بحل المشكلة، ليس بتقديم حلول، بل بالكشف عنها وعن الواقع الذى نحياه، ظنا منى أن أولى خطوات حل أى مشكلة هى الاعتراف بها واقتناعى بأنه لن تحل مشكلة أبدا إن ظن أصحابها أنها ليست موجودة.


وكتبت فيلما طويلا استغرقت فى كتابته حوالى العام، من التفكير والتحضير والكتابة الفعلية وإعادة الكتابة، لأكتب فيلما يظن معظم من يقرؤه أنه من أفضل ما كتبت.


وعندما كانوا يتساءلون، هل ستوافق الرقابة على فيلم كهذا، كنت أقول لهم إننى متأكد أنهم إن أكملوه سيفهمون مغزاه حتى لو كان مستتراً بعض الشىء وأنهم سيعتبرونه من أولى خطوات الحل وقد يدفع الناس للتكلم وسيساعدهم على بدء المواجهة الحميدة بين أصحاب الديانتين عندما يعلمون كيف يفكر كل منهم نحو الآخر.


كان أصدقائى يظنون أن تفاؤلى وعشمى فى الرقابة مبالغ فيه، خصوصا أن كاتب الفيلم مسلم وليس مسيحيا، ومن أكثر ما حمسنى لكتابة هذا الفيلم كونى مسلماً، لأننى إن دافعت عن حقوق المسيحيين فستكون فى العمل مصداقية أكثر، ولن يتهم أى من المسلمين الفيلم بالتحيز للمسيحيين.


وخوفا منى شخصيا على جرح مشاعر المسيحيين عرضت على الكثير من أصدقائى المسيحيين قراءة الفيلم، وكلهم بلا استثناء عندما قرأوه حيونى، وشكرونى، وقالوالى: «إحنا خايفين عليك من المسلمين المتشددين»، وعندما جعلت أصدقائى الملتزمين نسبيا يقرأون الفيلم كلهم قالوالى: «المسيحيين موافقين على الكلام ده؟» فقلت لنفسى الحمد لله كل واحد حاسس إن الفيلم فى صفه، لأنه فى الحقيقة فى صف الحق.


وقصة الفيلم ببساطة عن طفل مسيحى من الطبقة العليا، يحيى حياة مرفهة ويذهب لمدرسة أجنبية، وعندما توفى والده اضطر لدخول مدرسة حكومية أقل حالا من مدرسته الأولى، ويقوم الأطفال بالتهكم عليه والسخرية منه فى أول أيامه بسبب أنه من طبقة أخرى، لبسه مختلف وطريقة كلامه مختلفة وحتى ساندوتشاته مختلفة أيضا، وعندما تأتى حصة الدين يقرأ الأستاذ كل الأسماء ولا يلحظ أن البطل مسيحى بسبب اسمه المشابه لأسماء المسلمين فيقول ببساطة: «الحمد لله كلنا مسلمين»، فيخاف البطل أن يفصح عن كونه مسيحيا ويتظاهر بأنه مسلم طوال السنة، ويبالغ فى تدينه خوفا من كشف أمره.


وتكتمل الأحداث فى شكل كوميدى ساخر، مما يجعل البطل يكتشف العالم الآخر ويعلم ما يقوله المسلمون فى الأحاديث الجانبية عن المسيحيين، خصوصا أنهم أطفال بلا تربية أو تعليم على مستوى جيد، وعلى الصعيد الآخر فى حياته العادية نرى الكلام المستتر من المسيحيين المتشددين.


وتكتمل الأحداث إلى أن ينتهى الفيلم بشكل يثبت أن التمييز الصامت، السلبى، والمستتر قد يكون أعنف وأخطر من الاضطهاد والعنف فى بعض الأحيان، وأن الحل فى المساواة العمياء عن أى دين والحب دون إثبات تطابق العبادات، دون شعارات أو كلام قديم مبتذل.


قدمت الفيلم ورُفض رفضا قاطعا، وعندما ذهبت لأناقشهم فيه، وجلست مع الرقباء لعدة ساعات، عشت أسوأ ساعات حياتى بلا منافسة، واكتشفت الهوة العميقة بينى وبين توقعاتى، ظنا منهم «لمراعاة مشاعر المسيحيين» و«للحفاظ على سمعة مصر» و«مش كل ما يحصل فى الحقيقة يحصل على الشاشة» و«مصر عمر ما حصل فيها تمييز لا سلبى ولا إيجابى ولا حتى جوه النفوس» و«طول عمر المسلم والمسيحى عايشين إيد واحدة» وأخيرا «إحنا يا ابنى لو وافقنا على فيلمك نقفل الرقابة أحسن ونشوف لنا كلنا شغلانات تانية».


طبعا من وجهة نظرهم، التى يجب أن أحترمها، هم يدافعون عن الوطن، وبنفس الأسباب رُفض الفيلم من لجنة التظلمات المحترمة والمبجلة غصباً عنى.


وطبعا من وجهة نظرى المتطرفة يمكن.. الرومانسية جايز.. الحالمة مش هنقول لأ.. أنا لا أتفق مع آرائهم لواحد من الألف.


أولا المسيحيين يوميا بيسمعوا كل الكلام اللى بيتقال فى الفيلم ده، وفيلمى لا يختلق أياً منه، وعندما قرأ أصدقائى المسيحيون الفيلم كانوا يضيفون كلاما لم أكن أظن أنهم يعلمنوه وكلاماً يسمعونه لم أسمعه أنا نفسى. سمعة مصر هتلاقوها على لسان كل أجنبى زارها، على كل موقع عالمى بيحذر السياح من التحرش والتطرف والسرقة والرشاوى اللى هتطلب منه فى كل خطوة، سمعة مصر فى جرايد المعارضة والتوك شو، سمعة مصر للأسف من عمايلها على كل لسان، سمعة مصر مش هتتحسن إلا لما نناقش مشاكلها ونحلها، أمريكا معظم أفلامها انتقاد لأوضاعها، مش خايفين على سمعتهم، بالعكس ده بيظهرهم قدام العالم إنه شعب بيعالج أخطاءه وبيجلد نفسه على الجرايم اللى بيرتكبها.


أما عن الشعارات بتاعة المحبة فكلها اتفقست بعد الحادث الأخير، وشوفنا على الفيس بوك بس البلاعة اللى انفجرت من أفكار متطرفة ظهرت، من أول المسلمين اللى محرمين أى نوع من أنواع التعاطف من المسلمين للمسيحيين ورموزهم واحتفالاتهم، لمسيحيين إن كان عليهم يطردوا المسلمين من البلد لأنها بلدهم.


لما عملنا فيديو يحث الناس على الاحتفال مع المسيحيين إخوتنا وشركائنا فى الوطن وإرجاع الشعارات القديمة مثل «الدين لله والوطن للجميع» و«يحيا الهلال مع الصليب» لقينا ناس كتير سابت الموضوع وركزوا مع حرمانية إشراك الهلال مع الصليب والاحتفال مع المسيحيين، كأن ده وقته، وكأن صرخة البنت «أبويا مات» فى الفيديو الشهير لم تجعل اهتمامهم ينصب على إظهار التعاطف والتراحم والإيمان بفكرة أن من مات مصرى شريك فى هذا البلد بغض النظر عن دينه.


طبعا العقلاء كانوا بيقولوا كلام عقلانى متحضر يؤكد التسامح والحب، من الطرفين، بس ظهر على النقيض مقدار الكبت والتعصب اللى تحت الرماد عشان ماحدش سايبه يبان ويتعالج، ما هو طول ما حاصل صمت يستحيل العلاج، ينفع تروح عند دكتور يقولك عندك إيه ماتردش عليه خوفا على سمعتك عشان مايتقلش عليك عيان؟


وأنا مش مع إن حد يتقطع عيشه، بس فعلا أنا ضد الرقابة فكرة ومضمونا، أنا فنان ورقيب على ما أقدمه بناء على أفكارى وإيمانى، والمتفرج رقيب على اللى بيسمح لنفسه إنه يتفرج عليه، خصوصا إنه لو عايز يشوف كهول يمارسون الفحشاء مع الحيوانات الضالة هيدخل على النت ويلاقى فيديوهات للصبح، الرقابة أصبحت فكرة غير منطقية فى هذا العصر، وإن كانت تدل على شىء فهى تدل فقط على حجر وسيطرة غير واقعية على عقول الناس.


وإن كان الناس سيقبلون على الجنس إن قدم لهم، فعالجوا مشكلة الكبت الجنسى والمشاكل الاقتصادية المسببة لعدم الزواج، إن كانوا سيثورون لو تكلمنا عن الطائفية، فعالجوا أسبابها وامحوا الغضب المكبوت، وعلموا الناس صح يعنى إيه دين وسماحة، وإن كان الشعب سينزعج من فكرة وجود العنف يبقى يرفض الفيلم ومايروحوش.


وأعتقد أن رفض الفيلم ما منعش الحادث المأساوى المكئب اللى حصل، ما منعش التطرف يبان بعديه، ما منعش إننا كلنا خفنا من فتنة كان ممكن تحصل، ما منعش أحداث جانبية أسوأ من قبل.


لسة متفائل إنى هعمل الفيلم فى يوم من الأيام، لسه ماعرفش إزاى أو إمتى، بس يومها هكتب قبله إنه رُفض من مصر أيام ما كان فيها عقول الناس ملفوف حواليها سور، لأنى هعملوا فى يوم هتتهد فيه الأسوار.. والأصنام.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية