عندما أشعل التونسى محمد بوعزيزى النار فى جسده، لم يكن فى حسبانه أنه يضرم النيران فى نظام حكم «زين العابدين بن على» بأكمله، فلقد أشعل الروح الثورية فى نفوس أبناء الشعب التونسى بأكمله ليثوروا على أوضاعهم المعيشية التى لولا تولى مجموعة من الطغاة مقاليدها ما كانت على ما هى عليه الآن، ولكان حالهم أفضل بكثير.. ثلاثة أسابيع متواصلة من الاحتجاجات والاعتصامات والمظاهرات استطاعت أن تنهى 23 عامًا قضاها الرجل فى قصره، دون أن يكترث بما يحدث لرجل الشارع البسيط من أمثال بوعزيزى وغيره الكثيرين، وعندما استفاق الرجل متأخرًا على أصوات الآلاف فى شوارع كل المدن التونسية ينددون بحكمه ويطالبون بتنحيته، وجد نفسه غريقًا فى وسط طوفان ثورى فحاول بقدر ما يستطيع أن يجد القشة التى يتشبث بها فقام بعزل وزير داخليته، ووعد بالإصلاح والتنمية، لكن أمواج الطوفان كانت تزداد أكثر فأكثر، فخرج معتذرًا لأبناء الشعب على ما أدت إليه الأمور من سوء الأحوال، وغياب للتنمية والعدالة الاجتماعية، واستخدم عبارة شارل ديجول عندما خاطب المستعمرين الفرنسيين الذين اعترضوا على خروج فرنسا من الجزائر بقوله: «لقد فهمتكم.. وفهمت الكل..»،
لكن للأسف يبدو أن فهمه للوضع فى الشارع كان متأخرًا جدًا، كما أن مشاهدة أوضاع الشارع من خلال شاشة التليفزيون أو من خلال التقارير التى تعدها له أجهزته الأمنية لا تمثل على الإطلاق ما يحدث على أرض الواقع.. لقد صار الرجل الصلد فى أضعف حالاته، عندما كرر أسفه واعتذاره، كما رجل الشارع لم يعد يكترث بوعوده التى لم يستطع أن ينفذها على مدى فترة حكمه الطويلة للبلاد..
إن الشعب التونسى قد أراد الحياة، فكان القدر مستجيبًا له، فهرب المستبد إلى الخارج تاركًا وطنه وضاق به فضاء الدنيا بعد أن رفضت الحليفة فرنسا أن تستقبله على أرضها، فظلت طائرته تجوب فى الفضاء حتى هبطت فى السعودية. لقد أثبتت نسور قرطاج قدرتها على التحمل والصبر حتى تنال مرادها، ولم تخجل من توجيه مخالبها فى وجه من قتل أحلام شبابها ونهب ثروتها، وبعد أن استجاب القدر لمطالب الشعب عندما أراد الحياة.. قريبًا سينجلى الليل وينكسر القيد كما ورد فى قصيدة (لحن الحياة) لابن تونس الخضراء أبوالقاسم الشابى!.