x

غناء

الأربعاء 05-01-2011 16:28 |


... تلك العيون التى تشيعك هل تعنى أنك مضطرب أو صرت مخبولا، فماذا كان عليك أن تفعل وأنت القادم مضحيا بأحد جنيهاتك المعدودة -منابك من معاش أمك - ثمنا فى كوب الشاى، سللته بحذرمن جيبك وقد بلله العرق.. الشمس سامحها الله - هى التى وزتك على هذه الفعلة، فى الصباح كانت عقارب ساعة الحائط المتآكلة بجوار الباب تشير إلى السابعة، نزلت تتبعك دعوات أمك - المعلقة بين السماء والأرض بالستر والفتح فى وشك ووقوف أولاد الحرام.. أقصد الحلال..


وعلى السلم رأيت صرصارا يترنح، كدت تسقط عليه كل عقدك المكبوتة.. أنت والزمن عليه.. مش كفايه إنه صرصار.. قلتها لنفسك موبخا وتركته لحال سبيله أمام البوابة الكبيرة فردت الجريدة المطوية تحت إبطك، طابقت - كعادتك الأزلية فى كل مرة تتقدم لوظيفة بين الاسم المكتوب على اللافتة المعدنية وبين الإعلان، متجاهلا نظرات حارس الأمن التى نمت عن توسمه فيك البلاهة.. قادك السرب الطويل إلى بهو واسع يمتلئ بأمثالك من حملة المظاريف فى بحر من الرؤوس المترقبة لانفتاح الباب، وبقوة الدفع الذاتى وسيطرة التنظيم العشوائى على بنية الوسط البشرى لأفراد المتقدمين وجدت نفسك قبالته.. الباب.. ويا ليتها ما كانت الوقفة.. كان بنى وداكن وضلفتاه عريضتان، وبينما كنت تتأمل النقوش البارزة على مقبضه وتحاول تفسيرها، إذ انفتح، وبرز منه أصلع قصير يضم إصبعيه على سيجار، يصيح فى وجهك.. أهلا حمادة.. تعالى حبيبى.. إزى ماما.


ولأنك مسعد، وأمك قعيدة الفراش منذ وفاة أبيك ولا تعرف هذا الرجل أدركت بفطنتك المشكوك فى أمرها - أمرا ما فى ذلك الرجل وساورتك الشكوك فيه، ورفت عليك سهام الحقد وانبعاثات نبات الكوسة من كل الاتجاهات الأصلية والفرعية، فى أجواء من الدهشة والاستغراب لتلك الحفاوة بشخص متواضع مثلك، وأخذت قرارك الحاسم أن تجرى فى اللحظة المناسبة، ولتسقط هذه الوظيفة كما سقطت من قبل عشرات المرات لأسباب لا يعلمها إلا الله، والفقر التام أو الموت الزؤام دونك وذلك الأصلع المريب.


على خطوة واحدة منك ضم زراعيه - والحمد لله - على الواقف بجوارك، واكتشفت حولا فى عينيه سبب سوء فهمك وبالطبع - سوء فهم كل الأخوة الواقفين، وتحولت عنك العيون ببساطة لتصب قذائفها على هذا الآخر.


وبالأخير مر الوقت كيفما شاء، وانتهيت إلى تسليم أوراقك.. إلى تلك الموظفة، أخذت منك المظروف - دون كلمة - وألقته على قمة الهرم الشامخ جوارها.


سرحت لبرهة فى استطالة مكتبها، واللوحة المطبوعة الحروف عند حافته المزركشة، والتكييف المعلق أعلاها وشلال الهواء البارد الذى يدفعه، ولما استبطأت انصرافك رمقتك، فحاولت تبرير موقفك وسألتها ببراءة:


- هو إعلان نتيجة المقابلة امتى؟


- حانتصل بيك


وبمنتهى التلقائية نبهتها للخطأ المنطقى الذى وقع فيه الكثيرون قبلها.


- أنا ما عنديش تليفون.


ذكرتك نظراتها بحارس الأمن على البوابة الخارجية، وردت عليك باقتضاب: حانبقى نبعتلك.


.. وانصرفت بوجهها.


وخرجت من جوف المبنى، فوجدت بانتظارك وقدة الظهيرة، وصهدتها الخانقة، وطريق طوله ساعتين فى عز النغرة.. وطرق أسفلتية واسعة يمتد سوادها أمامك إلى ما لا نهاية أخذت تسلمك إلى بعضها.


وفى وسط كل هذا رأيت المقهى، ترددت قليلا، وتحسست جيبك فى ألم.. ثم دخلت.


ودون أن تتعرض لأحد اتخذت أقرب مقعد من المروحة.. حررت قدميك من نطاق الاحتباس الحرارى الكامن فى حيز الجزمة والضاغط على كالو الإصبع الصغير.


العرق مازال منك يشر، وكأن غددك العرقية لم تلحظ بعد أنك آويت للظل، أخذت تجففه بمنديل قماش حال لونه، وهو يشر ويشر.


حتى شعرت ببرودة لذيذة متسللة، ونشوة غريبة حملها تيار الصوت الصادر من تلفاز المقهى، نغمات تتلاحق موجاتها إليك، تنساب فى خفة، تغمرك وتتوغل إلى أعماقك، تعالج مغاليقك المستحكمة، و تسحب صدئ النسيان عن ذاكرتك المشوشة.. تفرك عينيك، يخلق من الشبه أربعين، موديل الفيديو كليب توقظ بداخلك فتاة الكلية وأربع سنوات من عمرك لا تنسى وأنت فى إحساس واحد وحلم واحد وقميص واحد وبنطال واحد، ولم تجرؤ أن تقول لها حرفا واحد.


وتماما كما راودتك فى الحلم وأحلام اليقظة، كنتما وحدكما على البحر، أنت وهى.. يتطاير الهواء بثوبها الشفاف للوراء.. الوراء.. وهى تتهادى نحوك فى لهفة.. تلقى نفسها إلى صدرك، تسكنها زراعيك وتدور.. تتشربك وهى ترنو إليك بعينيها العسليتين منتشية بغنائك الدافئ.. العميق.


ولكن فجأة حدث ما لم تكن تتوقع.. ينقطع صوتك المنبعث من تلفاز المقهى، وتصدمك العبارة القادمة من الخارج.. دا مين اللى بيجعر جوه دا.. يبدوا أن صوتك قد ارتفع إلى حد ما.


تتلفت حولك، الرؤوس كلها تشرئب نحوك.. فيصيبك الخجل.. فتخفض يدك المعلقة فى الهواء والتى كنت تلوح بها لفتاتك عما قليل، تدس قدميك فى حذائك البالى.. وتخرج من المقهى فى صمت، وأنت تبحث عن أول شارع جانبى يخفيك عن العيون.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية