يظن معظم الناس أن المحرومين من الرؤية هم فقط الذين لا يعرفون النور!.. لو سألتك ما هو النور؟ ستأخذ فترة طويلة من التفكير لتجيبنى، وقد تكون إجابة علمية، ولكن دعنى، كواحد من المحرومين من نور البصر، أعرض عليك تجربتى، لأعرفك ماهية النور حسبما أراه!!..
رغم حرمانى من نعمة البصر ورؤية النور منذ ولادتى، إلا أن الله عوضنى بأن حبانى بأشخاص قاموا بنقل النور لعقلى وقلبى، فصرت لا أراه ولكن أشعر به، صرت لا أبصره ولكننى أفهمه، فوصفوا لى كل ما يحيط بى، ولمست بيدى كل ما يمكن لمسه.. ساعدنى الجميع لأحقق هدفين منذ صباى: أن أكون كاتباً، وأن يٍكون لى رأى وشخصية وقيمة واحترام.. تعاون الجميع وأجمعوا على أن الغاية تبرر الوسيلة ما دامت لا تخالف تعاليم الله، فبثوا بداخلى نور حب المعرفة.. نور حب التفكير والتحليل.. نور مَنطقه الأمور والنقاش والحوار.. نور الابتسامة وقوة التصدى لأسوأ الظروف!!..
أخذت أمى تذاكر لى، منذ بداية التحاقى بالمدرسة وحتى حصولى على درجة الماجستير، والآن تحثنى على الانتهاء من الدكتوراة، وهى المسؤولة عن القراءة لى سواء قراءة الكتب بأنواعها أو الجرائد والمجلات.. أما أبى- رحمه الله- فأخذ على عاتقه أن يلف بى آثار مصر ومتاحفها، وكان أحيانا يقتنص الفرصة التى أستطيع من خلالها ان ألمس بيديى بعضها مخترقا بذلك يافطة ممنوع اللمس! وأظن ذلك هو الاختراق القانونى الوحيد الذى فعله أبى!!
كما كان، رحمه الله، يقرض لى الشعر والرباعيات وهو ما افتقدته الآن بعد رحيله، إذ لم أجد حولى إنسانا يتمتع بحس شعرى ويستطيع قراءته.. عاملنى أبى على أنى كبير، فحملنى المسؤولية، ولم يمنعنى هو أو أمى من أن أفعل شيئا، ما دمت أبديت استعدادا لعمله، وما دام يتم تحت رقابتهم لقلقهم على، فكنت أصلح كل ما يمكن إصلاحه فى المنزل، وأتاحوا لى لعب الكرة فى الملاعب وفى البيت، وشاركت أبى هواية السباحة، فلم تكن حياتى فقط منحصرة فى المذاكرة والعلم بل كان بها اللعب والرحلات والترفيه بكل أنواعه.. أما عمتى فقد استقالت من عملها بترتيب إلهى لترافقنى بعد استقالتها بتسعة أشهر فى ذهابى وإيابى من الكلية، وحتى حصولى على درجتى الليسانس والماجستير ثم فى مرحلة تحضيرى للدكتوراة.. لقد جابت معى كل مكتبات مصر المتاح دخولها لأجلب منها الكتب لتقرأها أمى على، كما كانت عمتى تشاركنى فى لعب كرة القدم والسلة وكرة اليد!!، أما زوجتى، التى حبانى الله بها، بعد طول انتظار نتيجة دعاء أمى وكل من أحبونى.. وجدتها رائعة وكأنها كانت معى منذ صغرى وتعرفنى منذ زمن طويل، هى تصف لى كل ما تراه، وأذكر حينما سافرنا فى شهر العسل ولم أجد من يصورها كما كانت تصورنى هى، فأمسَكْت بآلة التصوير وأخذت ألتقط لها صوراً يتحاكى عنها الجميع!!
كان لزوجتى وبمشاركة عمتى دور كبير معى فى مكتبة الإسكندرية للبحث عن الكتب التى تهمنى فى رسالة الدكتوراة، كما تساعدنى زوجتى فى قراءة بعض المواقع الإلكترونية التى يستعصى على قراءتها بمعونة البرامج الناطقة.. يجدر الاشارة إلى قيامى شخصيا بكتابة رسائلى على الكمبيوتر الخاص بى، والذى لا أستطيع أن أبتعد عنه كثيراً، فهو وسيلتى لكتابة خواطرى والتواصل مع أحبائى.. كما يجب الإشارة لدور خالى وخالتى وابن عمى الذين لم يضنوا على بالنصيحة والصلاة والدعم النفسى والمعنوى فى كل ضائقة مررت بها.. أما أصدقائى فهم منحة الله، لم يتركونى فى أحزانى قبل أفراحى، ويتعاملون معى بكل ثقة على أنى مثلى مثلهم، شأنهم فى هذا شأن معظم آبائى الأساتذة، وأصدقائى بكلية الآداب جامعة عين شمس بقسم التاريخ، وباقى الأقسام ذات الصلة بدراستى كقسم اللغات الشرقية واللغة الإنجليزية.
عزيزى القارئ، لا تظن أن حياتى كانت وردية بمن يحيطون بى من أهل وأصدقاء بل كانت تمر بى نكبات وكبوات.. فكم من مرة تعاملت مع أُناس لا يعرفون كيف يقدروننى؟ ويتعاملون معى بأسلوب- سواء عن جهل منهم أو قصد- لتدميرى؟ لكننى كنت أرى النور فى عز الظلمة من خلال حب من حولى لى، وثقتهم بقدراتى، ورؤيتى للخير من بين أستار الظلام، وسرعان ما كان يحول الله مخاوفى من الظلام الذى يحيط بى إلى طمأنينة ونور وخير لم أكن أفهمه حينها، ولذا فأنا دائم الشكر لله على ماحبانى به من نعم.. أما من ظلمونى، فبظلمهم كانوا يشعلون داخلى جذوة الأمل والإصرار على النجاح والتفوُّق.
ختاما: عزيزى القارئ، هل أدركت الآن ماهية النور؟ النور يقبع فى القلب، يزكيه حبك لله وحب الله لك، وحب من حولك وإيمانهم بك، ودعمهم ومساندتهم لك فى أشد لحظات الضعف التى تمر بها.. أدعوك عزيزى القارئ أن ترى نور الظلمة.. ترى الخير، ولا تستسلم أبداً مهما كان الحلم بعيداً، فبصدق العمل يتحقق الأمل، ولا حياة بدون أمل... أضاء الله حياتكم بنوره.. آمين.
ماجستير تاريخ