x

بين نارين

الثلاثاء 07-05-2013 02:01 |

كم هى فتنة حين يجب عليك أن تختار بين شرع الله الأصم، وشريعة توافقية لا تقتل أحداً، أذكر ذلك بمناسبة إحدى القضايا التى احترت فيها، وكم دعوت الله برجاء أن يلهمنى الصواب. فقد توفى مهندس ديكور بالتليفزيون كان متزوجا من إحدى الجزائريات، بعد أن كان متزوجاً من مصرية قبلها، لكن الله لم يقدر له أن ينجب فى الزيجتين.

ولأن الرجل الشرقى لا يستسلم بسهولة لكونه مريضاً مرضاً يمنعه من الممارسة الزوجية، أو مرضاً يمنعه من الإنجاب فقد ذهب بزوجته الجزائرية لأطباء العقم، ليعالجوها من العقم، رغم تأكده أنه لم ينجب من الأولى، وظل الأمر على ذلك ردحا من السنوات إلى أن أسقط فى يده وعلم بأنه هو السبب.

وهنا تدخلت والدته فى الأمر حيث سعت لأن يكون لابنها ذرية، ولو بالتبنى، وبالفعل توجهت لأحد الملاجئ بمنطقة مصر الجديدة، حيث تم تبنى طفلة لا يعلم أحد أبويها لتكون باسم ذلك المهندس، وكان عمر تلك الطفلة ثلاثة أشهر من العمر.

وتربت الطفلة فى أرقى شوارع مصر الجديدة، ودخلت أرقى المدارس الفرنسية بها، وكل عام كانت الأسرة والأعمام والعمات والجدة يقيمون لها عيد ميلاد صاخباً، وركبت الفتاة السيارات الفارهة التى يملكها والدها بالتبنى، لكنها أبداً لم تكن تعلم بأنها طفلة متبناة.

وفجأة، وبلا مقدمات توفى مهندس الديكور ذلك الأب، وفجأة وجدت الأسرة نفسها تحتاج إعلاناً شرعياً يحدد الورثة، وهنا وبعد كل تلك السنوات تدخلت الجدة للمرة الثانية، وطالبت الأم بالتبنى أن تقر بأن ابنتها ما هى إلا شابة كانت طفلة بالتبنى، ولا حق لها فى ميراث، فدق قلب الأم بالتبنى أن تصفع ابنتها تلك الصفعة، ووقع اختيارها علىّ لأكون محاميها فى ذلك الخطب الجلل!!.. وهنا أصبحت أنا بين نارين، هل أقوم بتطبيق شريعة الله الصماء بتحريم التبنى، وأحطم تلك الشابة التى تبلغ السابعة عشرة من العمر، وأعيدها للملجأ حيث كانت لقيطة، أم أصم أذنى، وأدافع عن كيان بشرى سيتحطم فى ريعان الشباب، لأن الشريعة لا ترضى بالضرر، ولا بالضرار، وبعد جهد وفكر، وكر وفر، اخترت الحل الثانى، وقدمت طلباً للمحكمة يحوى أنها ابنة المتوفى.

وهنا ثارت ثائرة الجدة والأعمام لأن ذلك سينتقص من تركتهم التى يستحقونها إرثا عن ابنهم، فالطفلة سترث نصف التركة، وبدأت المساومات المالية، وازددت إصراراً على إصرارى، فتقدمت الجدة بأوراق التبنى للمحكمة، وقام اثنان من الموظفين بالملجأ، فشهدوا أمام مجلس القضاء بأنهم سلموا المتوفى فتاة عمرها ثلاثة أشهر، وهى الثابتة بالأوراق المقدمة للمحكمة والمختومة بخاتم الملجأ، وذكر الجميع بأن المتوفى كان عقيماً لا ينجب... فقمت أنا بتقديم أوراق علاج الأم التى كان يباشرها أطباء العقم، وذكرت للمحكمة أن تواريخ التوصيات الطبية قبل تاريخ ميلاد الطفلة بسنة، تفيد أن العلاج قد نجح وأن الأم قد حملت وأنجبت تلك الطفلة الشابة حاليا، أما الطفلة التى يزعمون تبنيها فهى تثبت بأن الأب إما أنه كان مجنونا، ولم يكن عقيما، فكيف يكون هو عقيماً، ويعالج زوجته ولا يعالج نفسه، أو يكونوا هم الكاذبون، ثم أنه عاشرها معاشرة زوجية صحيحة، وأنجب منها تلك الشابة التى تريد الأسرة حرمانها من إرثها طمعاً فى المال... وفى فترات الانتظار قبل الجلسات كانت الأسرة تقوم بمهاجمتى قائلة كيف تكون رجلاً مسلماً، وتؤم الناس للصلاة وتحكم بصحة التبنى، فكنت أرد عليهم قائلاً: وكيف لا تستحون أن تأتوا بدمية لابنكم ليلعب بها، فلما توفى تريدون تحطيم هذه الدمية البشرية، هل شرع التبنى لم يكن موجوداً إلا اليوم حتى تقوموا بتحطيم الفتاة كل هذا التحطيم.

وجاء يوم صدور الحكم حيث حكمت المحكمة بثبوت نسب الطفلة لوالدها، واستأنفت الأسرة الحكم، وصارت حرباً ضروساً أخرى انتهت بتأييد الحكم وثبوت النسب.

ومن يومها، وأنا أحمل بين أضلعى هذا الأمر، ولا أريد مفتيا يفتينى فكفانى أنى أنقذت إنسانة أن تتحطم، واعتبرت الإرث الذى ورثته عن أبيها بالتبنى، أنه أجرة لها على ما سكنت بها نفسه طوال سنين عمره السبعة عشر التى عاشها مع ابنته بالتبنى يستعذب مشاعر أبوة ليست له بلا ثمن، وتعيش الفتاة حالياً حياة سعيدة هادئة مع الأم، فهى لم تعرف شيئاً مما دار، وفى كل صلواتها تدعو لابيها بالرحمة متذكرة مدى الحب الذى غمرها به.. فما رأى القارئ الكريم؟.

- محام بالنقض ومحكم دولى وكاتب إسلامى

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية