x

قصة واقعية.. «ذات الرداء الأسود»

الخميس 21-03-2013 21:45 |

فى عام النكسة كان «محمود»، السويسى المولد، يقارب من العمر الثلاثين.. كان من الرافضين ترك السويس مع أقاربة المهجرين، عمل وقتها بمهنة البناء لدى أحد المقاولين المكلفين بإقامة السواتر الحجرية لتبطين وتحصين المستودعات البترولية ضد قنابل الطائرات وقذائف مدفعية العدو الإسرائيلى المغيرة على معامل تكرير البترول، خصوصاً مدافع «أبوجاموس» العملاقة التى أطلق عليها السوايسة هذا الاسم المبتكر والمتواجدة فى عيون موسى، وبعدما تقاضى محمود راتبه المتواضع مقابل عمله الشاق والشديد الخطورة بعد ظهر يوم 24 أكتوبر، وأخبر زملاءه أنه عائد لمنزله ليطمئن على زوجته «انتصار» الحامل فى شهرها السادس، وطالبهم بأن يدعوا الله ليرزقهما الله بمولود ذكر بجانب الطفلتين التوأم «جهاد ومنصورة» اللتين رزقهما الله بهما منذ قرابة ثلاثة أعوام، وبينما هو يهم بالخروج من بوابة الشركة تنهمر فجأة قذائف مدفعية العدو الإسرائيلى وتزمجر فوق الرؤوس وسط دوى انفجارات المستودعات واستشهد محمود..

وتذهب زوجته لتتسلم جثته من داخل المشرحة التى غطتها سحابة الدخان الأسود الكثيف المنبعث من حريق البترول كما لون الرداء الأسود الكئيب الذى ارتدته انتصار لأول مرة حزناً على فراق زوجها، والذى فقدت بغيابه مورد رزقها الوحيد وضاع من بعده طعم الحياة، ولمواجهة معارك الحياة القاسية استأجرت كشكاً خشبياً متواضعاً على ناصية إحدى حوارى سكنها بالمثلث لتبيع فيه السجائر وتجهيز أكواب الشاى الأسود الغامق الذى تقدمه لزبائنها من المارة وجنود الجيش مقابل قروش زهيدة، ولم تفكر فى الهجرة كباقى السوايسة إخلاصاً لزوجها المدفون بها، وتمسكها بتلك الأرض التى نشأت ترعرعت عليها وأحبت فيها محمود، وحتى تتمكن من تربية «جهاد ومنصورة» وأخيهما «فرحات» الذى غدر القدر بوالده ورحل شهيداً قبل أن يراه، وتولت أمه رعايته وتكريس حياتها لتربيته رغم الفقر وصعوبة الحياة، وبدأت تتخلص تدريجياً عن ارتداء الرداء الأسود واستبدلته بآخر ذى لون مبهج حرصاً على عدم انعكاس الحزن والألم على زبائن الكشك الذين لا يستحقون مشاركتها فى آلامها بعد أن أصبحت مصدر الحنان و الأم لكل المتعاملين معها والمشمولين برعايتها، وكانت تؤكد لزبائنها دوما بأن هناك أملاً فى المستقبل والنصر قادم، ولأن القدر كان دائم التربص بها فمع بداية معركة عبور 1973 انتزع منها طفلتيها التوأم بعد إصابتهما فى غارة إسرائيلية غادرة فاستشهدتا ولحقتا بوالدهما، وتعود «انتصار» لترتدى الرداء الأسود والذى لم تفرح باستبداله كثيراً، وظلت دموعها تنهمر حتى فقدت بصر إحدى عينيها وضعفت الأخرى بشدة!!

ولم يمنعها ذلك من تواجدها الدائم داخل كشك الأمل لمواصلة الكفاح وتربية «فرحات» الباقى لها من حطام الدنيا إرضاء لروح زوجها حتى تمكنت بإصرارها وتمسكها بالحياة من إلحاقه بمراحل التعليم المختلفه، وظلت انتصار متمسكة بكشك الأمل رمز الكفاح، وكان ابنها «فرحات» يساعدها بعد انتهاء اليوم الدراسى ويذاكر بجوار الكشك!

 مرت السنوات وحصل «فرحات» على الثانوية العامة والتحق بأحد المعاهد الصناعية، وفى العام الدراسى الثانى شعر ببعض المتاعب الصحية، وإذا بالكارثة الكبرى بعد شهور وشهور ليكتشفوا إصابته بسرطان فى الدم، ومع افتقاد الرعاية الصحية وعدم القدرة على توفير العلاج اللازم وسوء التغذية.. إلخ. ينتقل فرحات إلى جوار ربه.. أما «انتصار» فأصابها الذهول وفقدت النطق وأصابها الشلل.. وتولى رعايتها بعض أهل الخير وتدهورت حالتها بشدة وأسلمت الروح، وذهبنا لندفنها بجوار المقبرة التى دفن فيها زوجها، ولترتاح وتسعد عند بارئها بعد رحلة العذاب الدنيوى الأليمة لتلتف حولها هناك أسرتها.. وتركت لنا كشك الأمل لمن هو قادر على استكمال ترميمه من جديد!!.

 السويس

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية