الأمر في ملعب «إليس بارك» بجوهانسبرج في تلك الليلة كان قاسياً، أقرب لأن تأخذ طالب مجتهد في بداية عامه الدراسي وتضعه مباشرةً أمام الامتحان، دون أن تَسمح له بأيّ هَفوة ولو صَغيرة يُمكنها الإطاحة بمستقبله، لأن تِلك في الحقيقة هي فُرصته الأولى.. وربما الأخيرة، محمد حُمُّص وجد نَفسه فجأة في التشكيل الأساسي للمنتخب، وأمام أبطال العالم، يَشعر وكأنه الغريب بين مَجموعة تعرف بعضها جيداً، ويُحاول مُداراة ارتباكه بقدرِ ما يَستطيع، يتخلَّص من الكرة لأقرب قدم قريبة، كُل ما يُهمّه في تلك الليلة ألا يرتكب أي خَطأ.. حتى لو لم يَصنع فارقاً مَلحوظاً.
ما لَم يَلحظه أن مرور 38 دقيقة قد جعله أكثر ثِقة، اصطكاك أسنانه توقف، تمريراته صارت أبعد، يتقدَّم قليلاً لما بعد مُنتصف المَلعب، لذلك فقد رأى كرة حسني عبد ربه بوضوح وهي تتجه ناحية أفضل حارس مرمى في العالم ويبدو مكانها الشباك، نصف ثانية كان كل شيء فيها مُحتملاً.. نِصف ثانية جعلته يتساءل بينه وبين نَفسه «ولِمَ لا؟!»، حتى بعد خروج الكرة لركنية أولى.. ظَلَّ السؤال قائماً، يَطْلب من «أحمد فتحي» تغطية مَكانه في نصف المَلعب، يَتجه بخطى شِبة واثقة إلى مَنطقة جزاء الخِصم، ويُثبت نَظره على الكرة التي رَفَعها أبو تريكة لتوّه، ثانية أو اثنين مَرَّت.. رأى فيهما حياته كلها.
الشقيق الأكبر الذي يتحمّل عبء الأسرة منذ الصغر، ولا يعرف عن العالم أكثر من حدودِ مَدينته، أوقات لِعب الكرة حَول جدران النادي، الفرصة التي أتت بالصدفة.. واقتنصها، ارتداء الملابس الصفراء السماويَّة للمرَّة الأولى، ومُعاصرة خمسة أجيال مُتتالية للنادي الإسماعيلي تغيَّرت خلالها عشرات الوجوه من حولِه دونَ أن يبقى سواه.
حمص كان يتعلم في كل لحظة بحياته كيف يَحتمل البقاء في الظّل، ويَحمل فريقه على كتفيه صامتاً: مُجرَّد فتى صغير وَسط عَتاولة نهاية التسعينات، لا يكاد يُذكر في جيل بركات ببداية الألفية، صلاح أبو جريشة ظَل معشوق الجماهير، فتحي وحُسني هما حَجَر الأساس في جِيل بوكير عام 2003، يَقف دائماً ورائهم دون أن يَشعر به أحد، بدا وكأنه الدور الذي خُلِقَ لأجله، تماماً كما أتقنه لاحقاً: يَتذكر الجميع مهارات عُمر جمال، تسديدات عَبد الله السعيد، رَفعات سَيّد معوض، صلابة هاني سعيد، يتحدث الجَميع في نهاية كُل موسم عمّن منهم سيغادر الإسماعيلية، دون أن يَلحظوا أن حُمص هو الوحيد الذي بقى وسَيبقى، دون أن يَذكر أحد أن هذا هو رُوح الإسماعيلي التي تُبقيه رغم كُل التغيُّرات.
وحدها تِلك اللحظات التي تَجعل كُل الأحلام مُحتملة هي ما تَجعله يُكمل الطريق، القائد منذ سنوات دُونَ أي بطولة، ولكنها كثيراً ما تكون قريبة.. أقرب حتى من هَدفه المَلغي في مباراة الأهلي الفاصلة على الدوري، حين ارتقى لآخر ما يستطيع، بقدر ما يتمنى تِلك البطولة، قبل أن يَنتهي كل شيء بصافرة الحَكم تُعلن عن «فاول»، يَعلم جيداً أنه لم يحدث أي احتكاك بينه وبين «رمزي صالح»، ولكنه يَكْتَفي بنظرة حَسرة هادئة، نَفس الحسرة التي ترتسم على ملامحه مع كل هَزيمة جديد، وكل خروج من بطولة، وكل مرة يتجرَّع فيها مرارة ِحلم كبير لا يتحقق.
والمؤانسة الوحيدة بعدها كانت في السير بشوارع الإسماعيلية، تذكر الناس لهدفه الإعجازي في المحلة قبل مُوسمين، كيف استقبل الكرة على صَدره ووضعها في الرُّكن الأبعد من المَرمى، تَشبيه أحدهم لهدفه في «سوفباكا الكيني» بهدف «بييركامب» الشهير في الأرجنتين بمونديال فرنسا 98، اعتقاد ثالث أن «جول» المقاولين قبل أسابيع هو أفضل ما أحرزه الإسماعيلي في الدوري: تمريرته الطولية لسمير فرج على اليَسار، جَريه لنصفِ الملعب كاملاً كي يُصبح عند نُقطة الجَزاء، ثم هذا «الفينش» المُذهل الذي تَوّج به مُوسم كَبير، مُوسم بدأ برحيل «هاني سعيد» و«حسني عبد ربه» وظن الجميع أن الإسماعيلي سينهيه رابعاً على أبعد تقدير، قبل أن ينتهي الحال بمباراة فاصلة على الدَّوري، بَطَل مَهزوم نَعم، ولكنه يَظَلّ بَطلاً.
وحُمُّص كان يَبتسم، يَشعر بالرّضا رغم عدم الحصول على بطولة، يتأكد من صحة قراره القديم بعدم ترك الإسماعيلية، المَدينة التي وُلِدَ فيها، وعَاش بها، وسيظل حتى النهاية.
كرة «أبو تريكة» وَصلت أخيراً، لا يعرف تحديداً ماذا حَدث، ولكنه فاقَ وهو يَجري، كُل الوجوه من حوله مألوفة، فتحي وحُسني ومعوَّض وسعيد، شَعر كأنَّه بالبَيت، هُناك في الإسماعيلية، وكل الجليد الذي شَعر به منذ بداية المباراة قد انتهى أخيراً، وأدرك: لقد أحرز لتوه الهدف الأول للمنتخب أمام إيطاليا، ما سيُصبح بعد قرابة الساعة هدف الفوز الوحيد، وسيصير مَعه «رجل المُباراة».
حُمُّص تركَ الظّل للمرة الأولى في حياته، الجميع في مصر كان يتحدَّث عنه، شعر بالسعادة حين فكَّر في مقدار الفخر بالإسماعيلية الآن، وتمنَّى أن يَكتمل كل هذا يوماً ببطولة مع الإسماعيلي، يَحتفل فيها مع الوَطَن والأهل، قبل أن يفيق من كل هذا على صَخب الرّفاق حَوله، ويترك نفسه.. كبطلٍ مَعروف للعَوَام، فقط لتلك الليلة.
لاحقاً، عادَ حُمُّص إلى مَكانه في الظل ثانية، دون أن يتم مجرد استدعاءه للمنتخب في رحلة أنجولا 2010، مكتفياً بأداء دوره القَديم: الأساس الذي يُبْنَى عليه جيل جديد للإسماعيلي بعد رَحيل الجَميع، يَرى الوجوه الجديدة ويبدأ الرحلة مرة أخرى: وراء أحمد خيري، مُسانداً لعمرو السوليَّة، يَمِدّ أحمد علي بنصفِ أهدافه، يُحاول طَمأنة الجَميع، لاعبين وجمهور، بأن كل شيء سيكون بخير.
صَحيح أن مرور السنوات، ووصول حُمّص للرابعة والثلاثين مع بداية 2013، قد غيّر فيه قليلاً: حركته صارت أبطأ، تمريراته لم تعد بنفسِ الدقّة، تصويباته فقدت نِصف قوتها، ولكن الشيء الذي يَجعل حُمص مميزاً أنه لن يبتعد أبداً، سيكون دوماً بالجوار، يَحمل فريقه على كتفيه، ويُبقي الأمل داخِل قلوب النَّاس.. مهما ساء الوَضْع.