تشكل الانتخابات الإيراينة، التى تجرى اليوم نقطة مفصلية فى تاريخ الدولة الفارسية، إذ ستحدد نتيجتها مستقبل علاقات طهران بالعالمين الغربى والعربى، وما إذا كانت ستستمر على توترها الحالى أم ستحسن، وستحسم مستقبل التيار الإصلاحى، وتحدد ما إذا كان ظاهرة عابرة فى تاريخ إيران، أم أنه محاولة حقيقية للثورة لإصلاح ما تآكل فيها عبر السنين.
ويختار الناخب الإيرانى بين مشروعين، الأول يطرح نفسه كمثل لـ«الكرامة والسيادة» الإيرانيين، والثانى يطرح نفسه كممثل لاقتصاد أقوى وعلاقات أكثر انفتاحًآ على الغرب، ويعتبر الغرب أن الإيرانيين يختارون بين الصراع والعزلة والانفتاح والتعاون.
وقد تحسم نتيجة الانتخابات مستقبل المنطقة إلى حد بعيد، فإدارة الصراع حول الملف النووى والتوغل فى العراق والعلاقات مع العرب، ستختلف كثيرًا بين نجاد وموسوى «المرشحين الرئيسيين»، مما سيؤثر بالحتم على مستقبل منطقة الشرق الأوسط وربما على الاستقرار العالمى.
أما داخليًا فأبرزت الانتخابات الحالية العديد من الظواهر التى ستؤثر فى المجتمع الإيرانى داخليًا، وستنعكس على موقع طهران دوليا، لعل أبرزها تراجع دور رجال الدين - ولو نسبيا - لحساب الفنانين والمثقفين، وتنامى دور المرأة، وتعاظم تأثير الاقتصاد على اختيارات الناخب الإيرانى فى ظل نسب بطالة مرتفعة وزيادة لمعدلات التضخم ولأعداد الفقراء.
الحصاد المُر لسنوات «نجاد»: أعلى نسبة تضخم بـ 32%.. والبطالة تتخطى 11%
فى سوق طهران وقفت ربة المنزل الإيرانية فاطمة نيكباتين تندب حظها قائلة: «لدىَّ 3 شبان فى المنزل لا يعملون.. لماذا تقول الحكومة إنه لا توجد بطالة ولا يوجد تضخم، وإن الموقف الاقتصادى لشعبنا عظيم». على نفس المنوال وفى سوق أخرى وقف التاجر جاسم جفرى متحسرا: «إن الاقتصاد هو أضعف نقاط المرشح المحافظ لانتخابات الرئاسة الإيرانية محمود أحمدى نجاد»، وتابع: «يتعين أن يحل المشاكل الاقتصادية ومشاكل الشبان»..
هكذا يظهر الوضع الاقتصادى الإيرانى المتدهور مسيطرا على اهتمامات المواطنين، وذلك على النقيض مما هو شائع بأن الملف النووى يحظى بالأهمية القصوى لدى قطاعات واسعة من الرأى العام الإيرانى، وهو ما يجعل كل المراقبين والمحليين والدوليين يؤكدون أن الاقتصاد هو الملف الذى سيحسم ماراثون انتخابات 2009، وسيحدد هوية صاحب «عرش الطاووس» المقبل.
كان نجاد قد تمكن بواسطة وعده «وضع مال النفط على طاولة الشعب» من هزيمة المرشحين الإصلاحيين فى انتخابات الرئاسة عام 2005، ولكنه اليوم مدعو من قبل الخصوم والأنصار والشعب لتقديم كشف حساب لحصيلة سياسته الاقتصادية المثيرة للجدل، والتى أدت لزيادة نسبة البطالة والتضخم فى البلاد لمستويات قاسية.
ويوجد سببان رئيسيان يجعلان الملف الاقتصادى هو الحاسم. الأول هو بروز رأسمالية الاحتكارات، كما يسميها رامين معتمد نجاد أستاذ الاقتصاد بجامعة السوربون بشدة على الساحة الإيرانية، ويوضح أنه منذ انتهاء الحرب مع العراق فى عام 1988 عرفت العلاقة القائمة بين المجتمع الإيرانى وطبقته السياسية وبين المال تحولا جذريا،
فالقيم الأخلاقية والدينية، التى كانت مسيطرة حتى ذلك الحين شهدت تراجعا واضحا، وذلك بسبب بروز أقلية لم تتردد فى «التبجح بثروتها»- على حد تعبيره، وهذه تصرفات شجعتها حكومة على أكبر هاشمى رافسنجانى التى حثت رجال الأعمال المهاجرين فى أوائل التسعينيات على العودة إلى البلد للمساهمة فى إعماره.
وتمثلت الرغبة فى البذخ فى شكل إصلاحات اقتصادية كخصخصة المؤسسات العامة وتحرير التجارة الخارجية، وظهر قسم من المستفيدين من عمليات نقل الملكية وهم المديرون السابقون لهذه الشركات، والذين أصبحوا يشكلون نخبة اقتصادية جديدة، حيث أشار تقرير صدر عن البرلمان الإيرانى عام 1994 إلى أنه تنازل عن أسهم أكثر من 50 شركة صناعية لصالح مديريها بأسعار زهيدة، خلافًا للشروط التى يقتضيها القانون،
ودفع المديرون أموال تلك الشركات من قروض تم انتزاعها من مؤسسة استثمار الصناعات الوطنية أى بأموال الشعب، واستمرت هذه الممارسات فى ظل حكومتى محمد خاتمى ومحمود أحمدى نجاد.
والأمر الآخر أن الأوضاع الاقتصادية فى عهد نجاد شهدت تراجعا غير مسبوق نتيجة السياسات الاقتصادية التى اتبعها، ويسود شعور لدى كثير من الإيرانيين بأن نجاد فشل فى تحقيق أى إنجاز اقتصادى. وقدمت صحيفة «سرماية» الإيرانية حصادا اقتصاديا لسنوات نجاد الأربع،
وقالت إن حكومته أنفقت على استهلاك الطاقة 203 مليارات دولار متجاوزة الإنفاق المدرج فى الموازنة بمعدل 142%، وموّلت هذا الاتفاق بأكثر من 8.7٪ من صندوق الاحتياطات النقدية من عائدات النفط. ليصل إجمالى ما سحبته الحكومة من هذه الاحتياطات إلى نسبة 300%.
وبجانب ذلك زادت واردات السلع الاستهلاكية بمعدل 36% وانخفضت الواردات الرأسمالية بمعدل 49%، وارتفع معدل التضخم العالى الذى تشهده البلاد لأكثر من 32%، وهى أعلى نسبة تضخم فى تاريخ إيران، وإضافة لذلك، بلغت نسبة البطالة وفق التقديرات الرسمية نحو 11.5% فى عامى 2005 و2006.
وقد انعكست الأزمة الاقتصادية التى تمر بها إيران فى عدة مظاهر، من أهمها التغييرات المتكررة التى أجراها نجاد على حكومته، ففى الفترة من يوليو 2005 حتى مايو 2008، استبدل نجاد 9 من أعضاء حكومته، 7 منهم فى مناصب اقتصادية.
فقد تعرض نجاد لانتقادات من قيادات كبرى فى التيار المحافظ، وجاء أعنف الانتقادات من هاشمى رافسنجانى، الذى أعلن أن صبره نفد تجاه سياسات الرئيس نجاد الاقتصادية، قائلا: «عندما انتخب أحمدى نجاد، طلب منا القائد خامنئى أن نصبر إزاء سياساته الاقتصادية.. لكن بعد 3 أعوام من ولاية أحمدى نجاد، فإن الصبر إزاء سياساته للخصخصة قد انتهى»، محذرا الرئيس نجاد من أن «مجلس مجمع تشخيص مصلحة النظام لا نية لديه للتسامح أكثر من هذا مع السياسات الاقتصادية».
وطوال المناظرات التليفزيونية التى أجراها نجاد مع منافسيه فى الانتخابات الإيرانية انصبت الانتقادات على الملف الاقتصادى لنجاد. وقال مهدى كروبى فى إحدى هذه المناظرات: «سيد أحمدى نجاد.. التضخم- خلافًا لترك البطون خاوية- يلعب بحياة الناس».
وترتكز رؤية نجاد الاقتصادية على ضرورة إيجاد طريق وسطى بين «الرأسمالية الغربية» وسياسات التدخل الحكومى فى الاقتصاد، مثل دعم المواد الغذائية والوقود فى محاولة لإيقاف جنون ارتفاع الأسعار فى إيران، خصوصا أنه رغم حصول حكومته على أعلى عوائد للنفط بتاريخ البلاد فإنها سجلت أعلى نسبة عجز فى الميزانية منذ قيام الثورة الإسلامية.
اتسمت سياسات نجاد- بحسب مراقبين- بالتقلب، وهو ما ظهر من خلال إقدامه فى السنوات الثلاث الأولى من حكمه على طرد الكثير من المدراء والاقتصاديين من مؤسسات الدولة، مستبدلًا إياهم بمقربين من خطه السياسى، وهو الذى عدَّه الكثيرون كارثة على اقتصاد البلاد. وتجلت معارضة اتجاهات نجاد الاقتصادية عندما قام 50 اقتصاديًا إيرانيًا بارزًا بكتابة رسالة مفتوحة له فى 15 يونيو عام 2006، متهمين سياساته بأنها «غير علمية»،
ومشيرين إلى أن سياسة توزيع عائدات النفط التى انتهجتها حكومته لم تكن مجدية فى تخفيض حدة ارتفاع الأسعار فى إيران. كما أن الاقتصاديين رأوا فى نفس الرسالة أن سياسات نجاد الخارجية خلقت الكثير من التوتر، مما ضيَّع فرصًا استثمارية كثيرة على البلاد.