x

قراءة في «الشتا اللي فات» الحائز على أفضل ممثل بـ«دبي السينمائي»

السبت 22-12-2012 14:36 | كتب: رامي عبد الرازق |
تصوير : أ.ف.ب

استطاع فيلم «الشتا إللي فات»، للمخرج المصري إبراهيم البطوط، أن يقتنص جائزة أحسن ممثل لعمرو واكد، من بين 16 فيلما عربًيا، ضمن مسابقة المهر العربي، التي شهدتها الدورة التاسعة لمهرجان دبي السينمائي التي انعقدت دورته في الفترة من 9 إلى 16 ديسمبر.

شتاء القهر والثورة

أطلق إبراهيم البطوط على فيلمه في مراحله الأولى اسم «الثورة» بشكل مؤقت، ثم تغير إلى «الشتا إللي فات» في المراحل الأخيرة, وقد يبدو المقصود بالعنوان هو يناير 2011، لكن في الحقيقة الفيلم يتحرك بين شتائين، الأول يناير 2011، والثاني يناير 2009 وقت الحرب على غزة، إذن فدلالة الاسم كظرف زمان تتجاوز المعنى الحرفي إلى المدلول الزمني المفتوح، صحيح أننا لا نشعر كثيرا بالشتاء، ونقصد بهذا الأجواء الشتوية المعروفة التي كانت جزء من صورة الثورة، لكن تبدو الدلالة المعنوية للاسم أكثر وجودًا من الحضور البصري.

«الشتا اللي فات» في جانب منه هو شتاء سياسي طويل حمل البرودة والصقيع لمصر قبل الربيع، وهي دلالة استطاع الفيلم أن يؤكدها بشكل درامي من خلال مشاهد شتاء 2009 لتعذيب الناشط السياسي في أمن الدولة، فهو شتاء القهر من ناحية، ومن ناحية أخرى هو شتاء الثورة في يناير 2011.

ما الذي يجعل أي مخرج يقدم على صناعة فيلم عن الثورة، أهو الإنفعال بالحدث، أم محاولة تأريخه، أم طرح وجهة نظر عنه؟ في الحقيقة إن النوايا لا تعنينا, ما يهمنا هو وجود شحنة انفعالية بالتجربة تمس المتلقى على أي مستوى، سواء النفسي، أو العقلي، وفيلم «الشتا اللي فات» يحتوي على بعض هذه الشحنة ويحتوي أيضا على محاولة الإجابة.

المشهد الأول يبدأ يوم 25 يناير حيث ينهض «عمرو» من النوم ليفتح الإنترنت ونسمع على شريط الصوت، شخص يتحدث عن تسجيل شهادة لأحد المتظاهرين حول تجربته في أمن الدولة, وهو خطأ سردي غريب، فعلى الشاشة مكتوب أن اليوم هو 25 يناير, ومن الواضح أنه الصباح، لكن الفيديو يقول صوتيًا إن لقاء الشاب بالشخص الذي سجل له شهادته كان يوم 25 يناير في المظاهرات ! معنى هذا أن الرسالة لم تكن قد سجلت بعد صباح 25 يناير وقت استيقاظ «عمرو».

نسمع ونرى الرسالة كاملة بشهادة من عاشها، وهو مراسل صحفي عاد من البوسنة واعتقل في أمن الدولة وتم تعذيبه, تنقلنا تلك الشهادة إلى شتاء 2009 لنتعرف على ذكريات «عمرو» عن اعتقاله في أمن الدولة.

يكثف لنا الفيلم بصريا حالة «عمرو» من خلال لقطة مكررة  لشرفته التي تقع أمام حائط صد كأنه سد منيع يمنع عنها الرؤية ويجعلها دوما جانبية, وهي دلالة شكلية جيدة, فبعد الفلاش باك الذي يتقاطع داخل سرد الحاضر طوال الفيلم، ندرك سبب كون «عمرو» هاديء كسول لدرجة الموت وكأنه تحول إلى شخص لا منتمي بسبب تجربته القاسية في أمن الدولة، وبالتالي هو أمام جدار يعزله عن الحياة والبلد، خاصة بعد أن نكتشف أن والدته ماتت أثناء فترة اعتقاله التي دامت أكثر من ثلاثة شهور بحسب التواريخ المكتوبة على الشاشة خلال الفلاش باك.

هل مشكلة الفيلم في نمطية الحدث الدرامي؟ ففكرة اعتقال شخص في أمن الدولة وتحوله من ناشط إلى لامنتمي ثم استيقاظه ذات صباح على الثورة فكرة تقليدية ومكررة، وحتى لو تعاملنا معها بصريًا بشكل جيد، فستظل في دائرة الشكلانية، لأن الحدث هو ما يعطي للصورة قوتها خاصة في الأفلام السياسية, لكن لا يمكن إغفال عنصر الشهادة, أي شهادة المخرج عن أحداث فيلمه، ربما لهذا بدأ الفيلم من خلال شهادة مطولة لشخص حقيقي تم تعذيبه في أمن الدولة وكأنه يسوق لنا مفتاح قراءة الفكرة النمطية من زاوية جديدة.

لا يتوقف الفيلم أمام أسباب اعتقال «عمرو», نسمع جملة لها علاقة بـ«غزة», لكن تجريد السبب لدرجة ما يجعلنا نشعر بجحم الخوف الذي كان يتكثف في صدور الشعب من فكرة الاعتقال حتى بدون مبرر لمجرد الاشتباه أو التأديب.

ثاني شخصيات الفيلم هي «فرح» المذيعة في برنامج «قلب البلد» الذي حاول المخرج تحويله شكلا ومضمونا إلى إعادة تقديم حلقة برنامج البيت بيتك الشهيرة مساء 25 يناير, تدخلنا «فرح» في أزمة درامية، وهي المباشرة الفجة والحديث المكرر عن دور الإعلام وحال البلد والكذب على الناس, في مقابل صمت «عمرو» ونظراته المليئة بصراخ مكبوت وعذاب داخلي تأيتنا فرح بثرثرتها السياسية السطحية وموقفها الدعائي وشخصيتها غير الناضجة دراميا.

يحاول السيناريو أن يوازي ما بين تحول «فرح» من كونها خائنة إلى ناشطة سياسية، حيث ندرك ذلك من مشهد فلاش باك حواري بين «عمرو» والضابط السادي «عادل» يقول له أن «فرح» هي التي أبلغت عنه, وبين تحول «عمرو» من شخص لا منتمي بسبب تجربته التعيسة، إلى شخص يؤمن بانتصار الثورة بسبب الثورة نفسها.

ثالث الشخصيات هي بالطبع شخصية ضابط أمن الدولة «عادل» بكل نمطيتها، فهو سادي، بلا قلب، جامد الوجه، يعيش في مستوى اجتماعي خرافي يظهر من خلال سيارته الفارهة، ومنزله الفضائي، وخادمة المنزل الأجنبية، وسيارة زوجته المرسيدس ذات السائق، وأخيرًا فيلا العين السخنة, وهي محاولة لاضافة عنصر طبقي إلى جانب العناصر «الشريرة» الأخرى في الشخصية، وهو عنصر أفقد الشخصية جزء من مصداقيتها وجعلها أشبه بالتشهير منها للنموذج الدرامي الجيد والمتوازن, فلم تكن الطبقية المادية جزء من مشكلة الشعب مع الجهاز، ولكن الطبقية السياسية والديكتاتورية والتسلط والقهر، ولم يشكل مستوى الشخصية المادي فرقًا في المغزى السياسي سوى من باب النميمة الطبقية في غير محلها.

أزمة الشخصية ايضا لم تتوقف عند حدود أبعادها الدرامية، بل تجاوزت ذلك لآداء الممثل نفسه صلاح الحنفي الذي بدا فجًا وشعبيًا بصورة متناقضة مع مستواه المادي والاجتماعي والمهني، حتى لو كان هذا التناقض مقصودًا, لكنه أيضا أفقد الشخصية الدرامية قوتها وجعلها محور للتهكم والسخرية، خاصة في مشهد حديثه مع الضباط الأقل منه رتبة, رغم أن قوة الممثل والشخصية على حد سواء تجلت في مشاهد الصمت ونظرات العيون الجامدة التي لو كان المخرج اكتفى بها لتجاوز بالشخصية حدود الافتعال في الاداء المتوازن.

سينما الغرف المغلقة

اعتمد البطوط على حركة كاميرا جانبية نحو اليمين أو اليسار تنتقل بنا بين الغرف المغلقة التي تدور معظم الأحداث في داخلها, غرف التحقيق, شقة «عمرو», الاستديو, شقة جيران «عمرو», غرفة البواب, أشعرتنا تلك الحركة البصرية بأن الشخصيات معزولة بشكل أو بآخر أو خائفة أو في انتظار حدوث شئ ما، وهي مشاعر حقيقية وقت الثورة بالفعل.

اعتمد في ديكور شقق الشخصيات الثانوية على وجود عنصر «الكنبة» أي الأريكة، وهي دلالة بصرية معروفة، لكن للمتلقي المصري فقط فالمتلقي الدولي لن يدرك أبدا المقصود بالكنبة التي تجلس عليها الشخصيات، وبالتالي لم تمسه فكرة «حزب الكنبة» التي حاول المخرج تأصليها في لقطات جلوس الشخصيات أمام التليفزيون، ومشاهدة أحداث الثورة والخطابات الرئاسية الثلاث.

ولأننا لم نر ما كان يحدث في الشارع داخل الفيلم، فبدت عزلة الشخصيات عن الحدث عزلة اختيارية وليست اجبارية نتيجة الخوف أو الأحداث المتلاحقة, باستثناء نزول «تامر» جار عمرو معه إلى اللجنة الشعبية، وظلت بقية الشخصيات في عزلتها الغريبة دون تبرير درامي واضح، حتى لو كان المتلقي يدرك أن البلد لم تكن آمنة, فالسينما لا علاقة لها بالواقع لأنها تؤسس لواقعها الخاص بكل تفاصيله وبيئته ومبرراته, وليس على المتلقي أن يحمل تبريراته من خارج واقع الفيلم إلى داخله, ولكن على الفيلم أن يقدم له كل الأسباب المنطقية والفنية لسلوك الشخصيات وحركتها داخل السيناريو.

حتى فكرة اللجان الشعبية لم يتم تبريرها دراميا بشكل جيد فبدت اللجنة الشعبية التي استوقفت سيارة زوجة الضابط اشبه بنفس المجموعة من البلطجية التي تعرضت بالاعتداء على فرح وصديقها الناشط, وإن كان المخرج حاول من خلال مشهد قصير أن ينسب هؤلاء البلطجية لأمن الدولة في مشهد صعود عادل إلى شقة بوسط البلد وتجهيزه مع شخص أخر عدة سكاكين وسنج, ولكن لم يكن هذا المشهد كافيا أبدا للتفرقة الدرامية بين الأمرين خاصة لمتلقي دولي لا يعرف معنى اللجنة الشعبية ولا أسبابها.

وكل من شاهد فيلم «18 يوم» يدرك أن هناك تشابه بين الكبير بين فيلم «الشباك» للمخرج أحمد عبد الله، الذي عرض في مهرجان «كان» عن الثورة، وبين جانب من أحداث «الشتا اللي فات» خاصة فيما يتعلق بمسألة التليفون الستالايت الذي يستخدمه «عمرو» في الدخول على الانترنت ورفع مقطع للمذيعة «فرح» تتحدث فيه بخطابية مدرسية عن أسباب تحولها إلى ناشطة سياسية, ومشهد عملية اخفاء التليفون خارج الشقة في كيس للبصل، ناهينا عن التشابه الشديد بين بطل فيلم «الشباك» اللا منتمي الذي يراقب الثورة من الشرفة، ويعيش حياته أمام جهاز الكومبيوتر، ثم يقرر الاشتراك في الثورة في النهاية، وبين بطلنا «عمرو» الذي نراه يراقب المظاهرات من الشرفة أيضا لكنه يفضل الجلوس أمام الكومبيوتر قبل أن يقرر أيضًا النزول في النهاية إلى الشارع.

ربما كان آداء عمرو واكد الصامت، خاصة في مشاهد المراقبة والبكاء على أمه، والتحول من موقف لموقف هو ما أهله للجائزة, وأهم ما يميز مساحته الدرامية هو حجم الصمت والنظرات ومحاولة الحكي عبر ايقاع سرد بطيء وتأملي لندرك من خلاله جزء من الأجوبة التي طرحناها في بداية الحديث عن الفيلم، فالمثل الشعبي يقول «اللي فات مات» لكن عند الحديث عن الثورات «اللي فات لم يمت».

ينهي المخرج الفيلم باسلوب يخرج عن شكل بناءه السردي، وهو تصوير الشخصيات بشكل أقرب للصور التذكارية وهم يحملون صور الشهداء مع كتابة مصاحبة على الشاشة عن تحولهم إلى مشاركين, وهو تقابل درامي مع مشاهد الكنبة التي لم يدركها الكثيرون, ولكن يبدو أكثر تلك المشاهد مباشرة ما كتب عن الشهيد المسيحي وليم الذي قتل في 9 اكتوبر دون أن يقول لنا الفيلم ما هو 9 اكتوبر «احداث ماسبيرو» على اعتبار أن الكل يحفظ التاريخ !

أسلوب الصور التذكارية رغم حماسيته إلا أنه يبدو هنا مدرسيًا وساذجًا بشكل كبير، خاصة مع خروجه عن خط السرد والبناء للفيلم، وهو خط يعتمد على الواقعية وتكسير الزمن وليس على الشطح الأسلوبي الذي يستلهم الوثائقي أو البرامجي خاصة أنه تم فوق كوبري قصر النيل وكأن الشخصيات ذاهبة للتصوير «مع الثورة» وليس بسببها أو من أجل موقفها السياسي.

 

 

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية