على أطراف حي المريوطية تمتد المساحات الزراعية في الطريق على اليمين واليسار، تتخللها بعض المباني الخرسانية المنتصبة داخلها، تستقبلك لافتة بعد أمتار «مرحبا بك في قرية كرداسة - محافظة الجيزة»، تتلاشى المساحات الزراعية بعد اللافتة بأمتار وتكثر البيوت والمنازل العشوائية، أربعة سواتر من الدشم والطوب تنتصب في مدخل المدينة، تعوق السيارات من المرور بسهولة.
هنا كرداسة، المدينة التي شهدت مذبحة قوة التأمين التابعة لقسم مركز شرطة كرداسة وراح ضحيتها 11 شخصا من ضباط وأفراد القسم، والتمثيل بجثثهم على أيدي عدد من المسلحين، على خلفية فض اعتصام أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي بميدان النهضة.
يؤكد أهالي القرية أن مرتكبي المجزرة حضروا من مناطق محيطة بكرداسة بالتعاون مع فئة قليلة من القرية، مطالبين الدولة بالتدخل لحمايتهم مما لحق بهم من خسائر أدبية ومادية، بعد أن أصبحت القرية خارج سيادة الدولة.
على بعد خطوات من مركز شرطة كرداسة الذي يستقبلك في بداية القرية، وقف الأستاذ «مصطفى»، صاحب أحد المحال التجارية لبيع العبايات بالشارع السياحي خلف القسم أمام أحد الأكشاك، اختار لنفسه اسما مستعارا نتيجة أن «البلد دلوقتي ساءت سمعتها، والحال ميطمنش»، بحسب قوله.
أحاديث جانبية دارت بينه وبين صاحب كشك سجائر في مواجهة مركز الشرطة، حول تبعات الهجوم على المركز الذي راح ضحيته 11 شخصا من ضباط وأفراد الشرطة على أيدي عناصر مسلحة هاجمت مبنى القسم بالأسلحة الثقيلة والـ«آر. بى. جى»، أثناء تجمهر أنصار الرئيس المعزول تنديدا بفض اعتصام ميداني «رابعة العدوية، ونهضة مصر».
اقتادنا «مصطفى» إلى الشارع السياحي بجوار القسم، شارع طويل من البلاط، تتراص المحال التجارية لبيع العبايات والقطع الأثرية على اليمين واليسار، أشار عليه مصطفى بكلتا يديه وقال: «ده الشارع السياحي، الحال وقف من بعد الأحداث بعد ما تم تداوله في وسائل الإعلام التي ادعت أن كرداسة أصبحت معقلا للإرهاب».
يضيف: «هنا أكثر من 500 محل في المنطقة والمناطق المجاورة، تنتظر سياحا من الدول الأجنبية والعربية بالأخص، لكن بعد الأحداث انقطعت الرِّجل عن المكان».
يحكي «مصطفى» تاريخ الشارع الذي بدأ اشتهاره ببيع القطع الأثرية والهدايا والتحف، ثم تحول بعد ذلك لبيع العبايات مع بداية التسعينيات وزيادة وفود السياح من الدول الخليجية، «لست من سكان القرية لكني أعمل بهذا المحل منذ ثلاثين عاما، أقل حادث يؤثر على عملنا بطبيعة المنطقة، ما بالك بحادث مثل تلك المجزرة»، يصمت قليلا ثم يضيف: «كنت أعمل هنا كل يوم إلى الساعة التاسعة، لكن بعد تلك الأحداث أصبحت أنصرف من القرية قبل العصر بسبب الاضطرابات التي يمكن أن تحدث في أي وقت، أكثرية المواطنين هنا ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين وهناك تواجد للجماعات السلفية بشكل ملحوظ».
يعول في الحديث على عدم التواجد الأمني في القرية بعد حريق القسم، الذي تسبب في تدهور بالأوضاع الأمنية، خاصة لأصحاب المحال التجارية بالمنطقة، «مافيش أمن خالص دلوقتي، في انتظار الجيش والشرطة في أي وقت»، ويبرر «مصطفى» عدم التواجد الأمني بقوله: «الشرطة هتيجي ليه بعد ذبح وسحل قوة القسم... لو جاءت هنا هتموت»، صمت لثوان معدودة ثم أضاف: «لكن لو حصل أي مشكلة بين اثنين سواقين في الموقف ممكن واحد يقتل التاني بدون التواجد الأمني ده».
منذ بدء الأحداث تسيطر على القرية حالتا ترقب وتوجس، الأولى من الملاحقات الأمنية التي يمكن أن تشنها قوات الأمن «تاخد عاطل على باطل» بحسب أحد السائقين في موقف السيارات، والثانية من أرباب الجماعات الإسلامية خشية من تبليغ الأهالي عنهم، وهو ما ظهر أثره على صاحب أحد الأكشاك المطلة على قسم الشرطة المحترق، والذي طلب عدم ذكر اسمه: «زى ما الشرطة خافت على نفسها وانسحبت بعد الأحداث، أنا كمان لازم أخاف على نفسى لأن أكل عيشي هنا... وساكن هنا».
ويكمل: «يومها ضرب النار كان في كل مكان، ذهبت إلى البيت للاختباء مع أسرتي والاطمئنان على بناتى الأربع اللائي رأيتهن مختبئات أسفل السرير وسط تبادل إطلاق النيران والأسلحة الثقيلة في كل مكان بمحيط القسم، علمت فيما بعد أن مجموعات مسلحة حضرت من خارج القرية أثناء مظاهرات الإخوان أمام القسم وحدث بينهم وبين قوات التأمين اشتباكات تطورت إلى تبادل لإطلاق النيران، ودامت ثلاث ساعات انتهت باستخدام أحد المسلحين مدفع (آر. بى. جى) تسبب فى انهيار القسم على قوة التأمين الموجودة داخله وأحرقت عشرات السيارات والمدرعات».
ليس وحده صاحب الكشك الذي يعاني من تبعات الأحداث، بحسبه: «كرداسة منطقة مزدحمة بالسكان، وهي تعتبر أكبر قرى محافظة الجيزة، نتعرض لمضايقات وتحرش، عند خروجنا من كرداسة، إلى مناطق الجيزة أو وسط البلد، بمجرد أن يعرفوا أنك من كرداسة، يقومون بـ(بهدلتك)، بسبب ما يروجه الإعلام عن أن القرية أصبحت مأوى للإرهابيين».
يقول إسماعيل محمود، أحد شباب المنطقة: «أنا خايف أنزل أي مكان بعد الأحداث، الناس تسألني عن بطاقتي، وتعرف إني من كرداسة»، يوجه بصره ناحية الأرض ويفسر: «لو الشرطة هيا اللى سألتني عن بطاقتني هتحتجزني، ولو الأهالي مش هيسيبوني وهيضربوني».
تضيف إحدى العاملات: «معظم شباب البلد صنايعية، وهم اللى بنوا وزخرفوا مباني أكتوبر، وهرم سيتي، والشيخ زايد، ودلوقتي بيتبهدلوا على الطرق وهما رايحين وهما جايين من الأمن والأهالي».
إحدى المنتقبات تصرخ: «حسبنا الله في اللى بيحصل لأهل كرداسة، الدولة بتاخد العاطل في الباطل، إحنا أكتر من نص مليون بني آدم، ومش معنى إن 15 أو عشرين شخص هجموا على القسم حتى لو من أهالي كرداسة، يحاسبونا كلنا، وكله بسب الإعلام اللى نشر صور عننا وقال إن إحنا إرهابيين، وإحنا والله غلابة».
تستمر السيدة فى صراخها: «إحنا معانا أطفال ومش عارفين نعالجهم، المستشفى هنا مستواها ضعيف، وعلشان نخرج نروح فيصل أو إمبابة، بتبهدل من الناس».
عقب صلاة الظهر، يتوجه «عزت»، شيخ السائقين، إلى موقف السيارات، لمتابعة أحواله، يؤكد أن مجموعات من العرب والبدو المقيمين بمنطقة أبورواش وراء ارتكاب الهجوم على القسم بالأسلحة الثقيلة، ويقول أحد شهود العيان على الواقعة: «يوم فض اعتصام النهضة، بدأ أهالي كرداسة يسمعون بوقوع قتلى من القرية خلال فض الاعتصام على أيدي قوات الأمن، وتوجه عدد من العقلاء والحكماء بالقرية، لمقابلة مأمور القسم، وطلبوا منه إخلاء القسم من الأسلحة والمحتجزين، ومغادرته وتسليمه للأهالي، تجنبا لوقوع الاشتباكات، ثم تسلمه عقب هدوء الأوضاع، إلا أن قوات التأمين رفضت، وتطاول أحدهم على القرية وأهلها بالسباب».
يضيف شيخ السائقين، الموظف الذي يعمل سائقا بوزارة العدل صباحًا: تجمهر مئات من أهالي الإخوان أمام القسم، وبدأ الأمن في استخدام الخرطوش والقنابل المسيلة للدموع لتفريقهم، فيما رد الأهالي بإطلاق النيران، واستمرت الأوضاع هكذا حتى سقط قتيل، وحضرت مجموعات مسلحة من منطقة أبو رواش، وهجمت على القسم بـ«آر.بى.جى»، واقتحموا القسم وقتلوا الضباط والأفراد ومثلوا بجثثهم، ويستطرد: «العرب في منطقة أبو رواش، بياخدوا إتاوة مقابل تأمين الفيلات والأراضي، وبعد رجوع الأمن بعد الثورة، استغلوا الانفلات الأمني، وهجموا على القسم، بجانب عدد من تجار المخدرات والجهاديين، أما أهالي كرداسة فتمكنوا من إنقاذ أكثر من 35 عسكري من بطش المجرمين».
أما أحمد العجوز، أحد سكان منطقة القسم، فبدا عليه الحزن والترقب، وهو يشير إلى المبنى المحترق: «المسجلين والبلطجية دخلوا بعد الأحداث وسرقوا القسم من كل حاجة حتى سلك الكهرباء، وسرقوا حنفيات الجامع اللى جنب القسم، واحنا مستنيين الأمن يرجع، معندناش لجان شعبية، زى ما الإعلام بيقول، ولا بالليل ولا بالنهار».