طرحت السياسة الأمريكية «المترددة» و«غير الحاسمة» تجاه مصر بعد سقوط جماعة الإخوان المسلمين، تساؤلا حول طبيعة العلاقات بين واشنطن وجماعة الإخوان التى شهدت «توظيفاً متبادلاً» فى السنوات الماضية تعرض للإجهاض من قبل المجتمع المدنى والمؤسسة العسكرية فى مصر بعد عزل الرئيس محمد مرسى فى سياق الموجة الثورية المدعومة من الجيش فى الـ30 من يونيو.
لقد جاءت علاقة «التوظيف المتبادل» بين واشنطن والإخوان فى أعقاب فشل ما سمته واشنطن بالحرب على الإرهاب، حيث لم يؤدِّ غزوها لأفغانستان (أكتوبر ٢٠٠١)، والعراق (مارس ٢٠٠٣) إلى تقليص المخاطر على أمنها ومصالحها، والذى وصل إلى ذروته بحادث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، بل أدى إلى نقل المواجهة مع تنظيم القاعدة والجماعات السلفية الجهادية المتحالفة معها إلى حرب ممتدة استنزفت القوة الأمريكية فى العراق وأفغانستان. ولا تعكس تلك العلاقة بين واشنطن تحالفًا وثيقًا، فطبيعة هذا النوع من العلاقات أنها لا تقوم على «ثقة متبادلة، بل على «مواقف تكتيكية» لا تمحو التناقضات الجوهرية بين الطرفين، لذا قد تتعرض هذه العلاقة للانهيار السريع أمام الأزمات الكبيرة، وتدفع الطرفين أو أحدهما للعودة السريعة إلى حالة المواجهة التى تؤطرها رؤى أيديولوجية متناقضة.
حدود التفاهم الأمريكى- الإخوانى
تأسست العلاقات الأمريكية- الإخوانية على خلفية وتداعيات حادث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، حيث أدركت الولايات المتحدة خطأ الاستراتيجية المعنونة باسم «الحرب على الإرهاب»، والتى تُرجمت فى العالم الإسلامى إلى أنها فى الواقع «حرب على الإسلام»، وكانت خطورة استقرار هذا المفهوم فى العالم الإسلامى تتمثل فى العناصر التالية:
■ تزايد التعاطف الإسلامى مع التنظيمات الإسلامية المتشددة، حيث بدا أن هناك تعاطفاً تلقائياً من جانب الشعوب الإسلامية مع التنظيمات الدينية التى تقاتلها الولايات المتحدة فى أفغانستان والعراق، بما يعرض القوات الأمريكية لمخاطر واسعة، وهو ما حدث بالفعل، وأدى إلى مقتل وجرح آلاف الجنود الأمريكيين، وأثار استياء قطاعات واسعة من الرأى العام الأمريكى.
■ التخوفات الأمريكية من تداعيات فشل أنظمة مستقرة فى العراق وأفغانستان، حيث وجدت واشنطن أن هشاشة تلك الأنظمة يخلف بيئة مضطربة تستغلها الجماعات المتطرفة فى توجيه ضربات قاسية للمصالح الأمريكية فى المنطقة.
■ خشية الداخل الأمريكى من تداعيات الحرب على الإرهاب، حيث تخوفت واشنطن من احتمال أن يتأثر الأمريكيون المسلمون بالخطاب الذى يربط بين الحرب على الإرهاب والحرب على الإسلام، الأمر الذى قد يؤدى إلى قيام بعض من هؤلاء بتنفيذ عمليات انتقامية تعيد شبح الإرهاب فى الداخل الأمريكى مجددًا، ولعل ذلك قد تحقق بالفعل فى العام ٢٠٠٩ عندما قام ضابط أمريكى مسلم فى قاعدة فورت هود بولاية تكساس بقتل ١٥ من زملائه احتجاجًا على الحرب الأمريكية على أفغانستان.
■ إضعاف الأنظمة الحليفة لواشنطن فى المنطقة العربية، والتى سيصعب عليها تبرير استمرار تحالفها مع الولايات المتحدة فى وقت تشن فيه حربًا على الإسلام وليس الإرهاب.
فى هذا الإطار، بحثت واشنطن عن تيار إسلامى معتدل لا يتبنى أجندة التنظيمات الجهادية، بحيث يؤدى التحالف معه إلى التشكيك فى مقولة أن حرب أمريكا على الإرهاب هى فى جوهرها حرب على الإسلام. فى الوقت نفسه، كانت جماعة الإخوان المسلمين تحاول فصل نفسها عن الجماعات الجهادية، وتظهر استعدادها للالتزام بقواعد الديمقراطية، ولذا بحثت عن تكثيف العلاقات مع الولايات المتحدة لتساعدها فى التخفيف من الحصار المفروض عليها من الأنظمة العربية الصديقة لواشنطن. ويمكن القول إن أحد ثمار هذا التلاقى كان تخفيف نظام الرئيس السابق حسنى مبارك للحصار على الجماعة سياسيًّا، وهو ما مكن الإخوان من الحصول على ٨٨ مقعدًا فى برلمان عام ٢٠٠٥ (حصل الإخوان على ١٧ مقعدًا فقط فى انتخابات عام ٢٠٠٠).
ومع وصول باراك أوباما للبيت الأبيض فى ٢٠٠٩، تعمقت العلاقات الأمريكية- الإخوانية، وخاصة مع تزايد القلق الأمريكى من أن يؤدى نجاح مبارك فى توريث الحكم لنجله بدون رغبة المعارضة والجيش إلى عودة شبح الانقلابات العسكرية مجددًا فى المنطقة، حيث كانت التقديرات فى حينها أن الجيش المصرى حتى لو لم يتمكن من إجهاض مشروع التوريث فى حينه، فإنه ربما يُقدم بعد وقت قصير على تنفيذ انقلاب عسكرى يقضى على مشروع الشرق الأوسط الجديد الذى تقوده واشنطن، والذى يقوم على إدماج التيارات الإسلامية المعتدلة فى الحكم بالبلدان العربية التى يتهددها شبح هذه الانقلابات ما لم تحدث إصلاحات ديمقراطية سريعة.
كما ربطت واشنطن بين إدماج الإسلاميين فى الحياة السياسية المصرية والعربية أو حتى وصولهم للحكم فيها وبين تحقيق مشروع التسوية السلمية للصراع العربى الإسرائيلى عبر خطة تبادل الأراضى التى اقترحها بعض الخبراء الإسرائيليين (مثل مشروع جيورا أيلاند، رئيس مجلس الأمن القومى الإسرائيلى السابق)، وكانت واشنطن مقتنعة - ولا تزال- بأن وجود الإسلاميين فى السلطة فى مصر يمكن أن يزيل العائق الأكبر أمام تسوية نهائية، أو على الأقل هدنة طويلة الأمد بين إسرائيل والعالم العربى، فالإسلاميون لهم قاعدة اجتماعية واسعة، وتدين لهم بالطاعة، ويسهل استغلالها فى تمرير أى اتفاقات مع إسرائيل أكثر مما تستطيع أن تفعله أى تيارات أخرى ليبرالية أو يسارية أو نظم عسكرية.
ملامح «التوظيف المتبادل»
بدت علاقة التوظيف المتبادل بين واشنطن والإخوان فاعلة خلال العامين اللذين أعقبا سقوط مبارك، لاسيما بعد أن برهن الإخوان على أن رهان واشنطن عليهم كتنظيم له قاعدة تأييد واسعة فى مصر كان صحيحا، حيث تمكنوا مع التيار السلفى من حصد أغلب مقاعد مجلسى الشعب والشورى فى الانتخابات التى جرت فى أواخر عام ٢٠١١ وبداية عام ٢٠١٢، والفوز لاحقًا بمنصب الرئاسة فى يونيو من نفس العام، ومن أبرز ملامح التوظيف المتبادل بين الطرفين، ما يلى:
■ استثمار واشنطن للصعود الإخوانى فى الصراع العربى ـ الإسرائيلى، حيث أظهرت جماعة الإخوان فائدتها للسياسة الأمريكية، سواء بتعهدها بالحفاظ على معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية، أو بمساهمة الرئيس المعزول محمد مرسى فى توقيع اتفاق الهدنة بين حماس وإسرائيل فى نوفمبر ٢٠١٢، وصولا إلى بروز مؤشرات على نية مرسى للبدء فى تنفيذ خطة تبادل الأراضى، بعد تصريحه المثير للجدل أثناء زيارته للسودان حول إمكانية تنازل مصر عن مثلث حلايب وشلاتين للسودان، وهو الأمر الذى كان يعنى البدء فى خلق نموذج لتبادل أراضٍ بين نظامين إسلاميين (مصر والسودان) يمكن تطبيقه لاحقًا بين مصر وقطاع غزة، بحيث يتم ضم جزء من سيناء للقطاع، مقابل تعويض مصر عنه بمساحة مساوية فى النقب الإسرائيلى، وبذلك يمكن تخليق دولة فلسطينية قابلة للحياة، من دون أن تضطر إسرائيل لتفكيك مستوطناتها فى الضفة الغربية، أو العودة لحدود ١٩٦٧.
■ تخفيف العبء الأمنى الأمريكى فى الداخل أو تجاه مصالحها فى الشرق الأوسط باحتواء الإخوان للجماعات الجهادية، حيث بدت سياسة مرسى خلال حكم الإخوان الداعية للتصالح مع الجماعات الجهادية، والتى بدأت بإصداره عفوًا رئاسيًّا عن عدد من قادة هذه الجماعات مفيدة لواشنطن، حيث تفتح المجال لجذب تلك القيادات، والتى تتمركز فى أفغانستان والعراق للقدوم إلى مصر، بما يخفف الضغوطات الأمنية على واشنطن، ويساعدها فى التخلص من إرث المواجهات العنيفة مع هذه الجماعات فى العقد الماضى، وينقل معركة السيطرة عليها إلى جماعة الإخوان المسلمين الذين سيكون عليهم إما إدماج هذه التيارات المتطرفة واستيعابها فى الحياة السياسية، أو بالصدام معها، وهو ما يعنى نجاح إدارة أوباما فى إعادة توجيه سهم حركة الجهاد العالمية من العدو البعيد (الغرب) إلى العدو القريب (نظام الإخوان الحاكم فى مصر أو فى أى بلد عربى آخر).
■ تخفيف حدة العداء الإسلامى للولايات المتحدة، حيث استثمرت واشنطن علاقتها مع الإخوان فى إسقاط أسطورة عداء أمريكا للإسلام والمسلمين، والتى حفزت لسنوات طويلة مشاعر الكراهية فى العالم الإسلامى ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وتسببت فى تشجيع العمليات الإرهابية ضدها، وضد مصالحها فى مناطق عديدة.
■ استثمار الإخوان لدعم واشنطن فى تدعيم سيطرتها منفردة على السلطة فى مصر، وذلك عبر الضغط عليها للحصول على الدعم الاقتصادى لتحسين الحياة المعيشية للمصريين، الأمر الذى يمكنها من توسيع قاعدة مؤيديها، ويضمن لها الحكم لسنوات طويلة مقبلة، وأيضًا من أجل الحصول على الدعم السياسى خلال المعارك التى خاضتها الجماعة فى قضية كتابة الدستور المصرى، وكان واضحًا من خلال ضعف الموقف الأمريكى فى مواجهة الإعلان الدستورى الذى أصدره مرسى فى ٢١ نوفمبر 2012، والذى أدى لاندلاع احتجاجات واسعة من جانب المعارضة والمجتمع المدنى.
رهانات أمريكية خاطئة
ثمة تقديرات وتصورات خاطئة للولايات المتحدة حول طبيعة التحولات التى شهدها المجتمع المصرى أسهمت فى تحطم استراتيجية «التوظيف المتبادل» مع جماعة الإخوان، وهى:
أولا: إن الإخوان ينفردون بالقدرة التنظيمية وبالقاعدة الاجتماعية الواسعة مقابل أحزاب ليبرالية ويسارية ضعيفة ومشتتة وبلا قاعدة مؤيدين حقيقيين.
ثانيا: إن الجيش وإن كان يمثل قوة كبيرة فى معادلة الحكم فى مصر، فإنه تعرض لهجمة شرسة خلال الفترة الانتقالية بعد ثورة 25 يناير من جانب القوى السياسية المدنية على وجه الخصوص، واضطر تحت ضغوطها وضغوط التيار الإسلامى للخروج من هذه المعادلة، قانعًا بالمحافظة على امتيازاته، وليس من المتوقع أن يغامر قادته العسكريون بالعودة مجددًا للتدخل فى الحياة السياسية على الأقل، حتى نهاية الفترة الرئاسية التى كان من المفترض أن يبقاها مرسى فى منصبه.
ثالثا: أن المجتمع المصرى قد أرهقته فترة عدم الاستقرار التى استمرت عامًا ونصف العالم بعد سقوط مبارك، وأنه لن يقوى على خوض معارك أخرى مع النظام الجديد، أملا فى أن تتمكن حكومة الإخوان من تحسين أوضاعه الاقتصادية والأمنية، وبالتالى فإن الكتلة الشبابية النشطة التى حركت الشارع ضد نظام مبارك لن تجد من يساعدها - إذا أرادت- على مواصلة التحدى فى مواجهة حكم الإخوان.
وإذا حدث الأسوأ ولم تتمكن جماعة الإخوان من تحقيق إنجازات تبقيها فى السلطة، وثار الشعب ضدها، وأسقطها، فإن أسطورة عداء الولايات المتحدة للنظم الإسلامية ستسقط بالتبعية، وحينها يمكن لواشنطن بناء جسور مع القادمين الجدد، سواء من الجيش أو تحالف قوى وأحزاب مدنية.
وشارك الإخوان الولايات المتحدة تقدير الموقف على النحو نفسه فى المدى المنظور بناء على النقاط الثلاث الأولى، ومن ثمَّ تفرغوا لعملية إحكام السيطرة على مفاصل السلطة، غير عابئين باحتجاجات القوى المعارضة، ولم تمارس الولايات المتحدة بدورها ضغوطًا كافية على الجماعة لتقديم تنازلات من شأنها تفكيك الأزمات التى أثارتها المعارضة، خاصة فى قضية كتابة الدستور، والإعلان الدستورى، وكذلك قانون الانتخابات، وحتى بعد أن ظهر بوضوح أن المؤسسة العسكرية غير راضية عن إدارة الإخوان لكثير من الملفات، وخاصة تلك التى تتعلق بقضايا الأمن القومى، وأنها تحاول التدخل والعودة لواجهة العمل السياسى، سواء بدعوة المعارضة والرئاسة لحوار كما حدث فى أعقاب أزمة الإعلان الدستورى، أو بإصدار قرارات تتعارض مع قرارات رئيس الجمهورية، كما حدث فى ملف تملك الأراضى فى سيناء ومشروع محور قناة السويس.
وحتى بعد كل هذه الأزمات، لم تشعر الولايات المتحدة وجماعة الإخوان بأن هناك ما يدعو للقلق من جانب الشارع المصرى، أو من جانب الجيش، ومن ثمَّ كان رد فعل كليهما على الإنذار الذى وجهه الفريق عبد الفتاح السيسى فى ٢٣ يونيو 2013، وكذلك مهلة الـ٤٨ ساعة التى منحها لمرسى للاستجابة لمطالب الملايين التى تظاهرت مطالبة برحيله فى ٣٠ يونيو؛ هو عدم الاكتراث، بعد أن قدر كل منهما أن الشارع المصرى لن يعاود الاحتشاد مجددًا، ولن يصمد طويلا فى التظاهر حتى يتم إسقاط مرسى كما فعل مع مبارك، وكذلك لم يتوقع كل منهما (واشنطن والإخوان) أن يجرؤ الجيش على التدخل وتنفيذ تهديداته بفرض خارطة طريق تجنب البلاد حربًا أهلية (حسب توصيف الجيش فى البيانات التى حملت إنذاراته لمرسى)، وذلك خوفًا من فقدانه للدعم الأمريكى، وردود الفعل العالمية على إسقاط رئيس دولة منتخب انتخابًا ديمقراطيًّا، وما قد يرتبه ذلك من عقوبات.
إذن، فالتقدير الخاطئ من جانب واشنطن وجماعة الإخوان لقوة المجتمع المدنى المصرى ولنوايا الجيش كان السبب وراء انهيار التوظيف المتبادل بين الجماعة والولايات المتحدة، كما أنه أجهض رهاناتهما على تجاوز الأزمات، فلا واشنطن باتت قادرة على تنفيذ سياسة «تفكيك المعسكر الإسلامى» إلى معتدلين ومتطرفين، وجعل الطرف الأول أداة الضبط للطرف الثانى، أو إدخالهما فى صراع ممتد يبعد المخاطر التى تهدد الأمن الداخلى لأوروبا والولايات المتحدة وكذلك مصالحهما فى الخارج، ولا سقطت أسطورة عداء الغرب للإسلام والمسلمين تحت ضغط ثورة شعبية تطيح بالإخوان من الحكم دون تدخل الجيش، وبما يعفى واشنطن من مسؤولية سقوطهم، خاصة أنها لم تبادر إلى قطع المعونات العسكرية عن الجيش بعد عزل مرسى.
وعلى الجانب الآخر، أيقنت جماعة الإخوان أن الدعم الذى كانت تنتظره من واشنطن سواء اقتصاديًّا أو سياسيًّا كان محدودًا بطبيعته، الأمر الذى أعاد الأمور إلى مربعها الأول، فالإخوان يتهمون واشنطن بأنها ساعدت على ما سمته «انقلاب 30 يوليو»، وهددت مجددًا باستهداف المصالح الأمريكية، بينما يرى الجيش المصرى ومعه قطاع واسع من الشعب أن واشنطن تتآمر لإعادة الإخوان للحكم، وبين هذا وذاك سقطت سياسة التوظيف المتبادل، وانفتح الوضع برمته على مخاطر أكبر، ما لم تنجح جهود احتواء الصراع بين الجيش ومعه قطاعات من المجتمع المصرى من جهة، وجماعة الإخوان من جهة أخرى.