الدم اختلط بالرمال، فكونا كتلاً «دموية- رملية» أشلاء متناثرة فى المكان، رائحة الدم تنبعث منها ريح غريبة بعد بداية تحلل الأشلاء، طلقات رصاص فارغة تتبعثر فى المكان، أحذية ملطخة بالدماء.. مشاهد تكشف حجم المجزرة التى أودت بحياة 25 مجنداً من قوة معسكر الأحراش للأمن المركزى، الاثنين، برفح.
المشاهد السابقة، لم تكن المأساة الوحيدة، لكن كانت هناك مأساة أخف وطأة، تكبدتها «المصرى اليوم» فى رحلتها من القاهرة إلى مدينة رفح، لإزاحة الستار عن حقيقة ما جرى لشهداء الواجب. الرحلة أشبه بالإبحار إلى المجهول، فى ظل حالة الاستنفار الأمنى التى شهدتها سيناء، عقب الحادث، فضلاً عن علمنا المسبق، بإغلاق كوبرى السلام الذى يربط بين ضفتى القناة الغربية والشرقية منذ يوم عزل الرئيس المعزول مرسى لدواع أمنية.
سلكنا طريق القاهرة- السويس، ثم عبرنا نفق الشهيد أحمد حمدى، إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، كانت الإجراءات الأمنية مشددة للغاية، قبل العبور من النفق يتم إنزال جميع الركاب من السيارات، لبدء عملية تفتيش دقيق لهم، ويتم الكشف عن أسماء المشتبه بهم عبر أجهزة خاصة بالسلطات الأمنية، فور عبورنا إلى الضفة الشرقية للقناة، باتجاه جنوب سيناء، تعين علينا البحث عن طريق نسلكه إلى شمال سيناء حيث مدينة رفح التى وقعت فيها المذبحة.
منذ أن سلكنا الطريق المؤدى إلى شمال سيناء علمنا أن طوله يبلغ 250 كيلومتراً، قطعناها فى أربع ساعات، وهى مدة زمنية طويلة مقارنة بالمسافة الفعلية بسبب الكمائن التى تم نصبها فى كل مكان، ويتم تفتيش السيارات بشكل دقيق، كانت الإجراءات الأمنية دقيقة وعالية للغاية.
قاربت الساعة الخامسة مساءً ومازلنا فى الطريق، استوقفنا أحد الكمائن وأبلغنا أننا ممنوعون من العبور وعلينا التوقف حتى صباح اليوم التالى قائلاً «حضراتكم هنا فى سيناء حظر التجول يبدأ الساعة الرابعة عصراً، إنتوا مش فى القاهرة»، أخبرناه أننا صحفيون فى طريقنا إلى مدينة رفح، دقائق معدودة وسمح لنا باستكمال الطريق، وصلنا إلى مدينة العريش عاصمة محافظة شمال سيناء، وأدركنا لحظة وصولنا أننا لن نستطيع الذهاب إلى مدينة رفح التى تبعد عن العريش حوالى 45 كيلومتراً، حظر التجول يمنعنا من المرور، ربما يتم إطلاق الرصاص علينا لو تحركنا باتجاه رفح.
قررنا المبيت فى العريش، فى الليل كان لدينا موعد فى التاسعة مساء، مع أحد شيوخ قبائل سيناء، ذهبنا لنقابله فى الموعد المحدد على أحد المقاهى التى تقع بالقرب من البنك الأهلى بشارع 23 يوليو، تقابلنا مع الشيخ وجلسنا نشاهد سوياً على شاشة التلفاز وصول الطائرة التى تقل جثامين جنود رفح إلى قاعدة ألماظة الجوية العسكرية بالقاهرة.
مرت دقائق معدودة وسمعنا صوت انفجار مدوى فى الأجواء، من شدته دوت صفارات إنذار السيارات الخاصة فى المكان، أعقبه سماع أصوات طلقات الرصاص بكثافة، فجأة بدأ الجميع يهرعون فى الشوارع لإغلاق بقايا المحال التى مازالت مفتوحة أثناء حظر التجول، وأمرنا صاحب المقهى بالمغادرة لأنه سيغلق محله قائلاً «الضرب بدأ ولازم أقفل عشان الإرهابيين ميضربوناش هنا»، غادرنا المكان على الفور، واستفسرنا من المصادر الأمنية حول صوت الانفجار القوى فأخبرونا أنه تم إطلاق قذيفتى «آر بى جى» على مقر مكتب المخابرات الحربية بالعريش، بالتزامن مع مهاجمة مسلحين مبنى مديرية أمن شمال سيناء بالرصاص.
شوارع العريش خالية من الكمائن، لم نر كميناً واحداً، على عكس الكمائن المنتشرة فى أطراف المدينة، حتى مدرعة الجيش التى كانت تقف عند البنك الأهلى بالمدينة، حيث استشهد الرائد أحمد جلال، تم سحبها وتفريغ الكمين من كل ما به من ضباط وجنود، علمنا أن السبب هو وجود قناصة منتشرين فى المكان وجار إعداد خطة للتعامل معهم.
بعد دقائق كانت أعمدة الدخان الخفيف تنبعث من مقر المخابرات الحربية الذى تم قصفه فى مدينة العريش، حوالى الساعة الثانية بعد منتصف الليل ونحن فى الفندق سمعنا أصوات طلقات الرصاص تدوى فى المكان، علمنا أنه إطلاق نيران على فندق ضباط الشرطة الموجود على البحر بمدينة العريش والقريب من الفندق الذى نقيم فيه، وبعد دقائق رأينا قوات الجيش تطارد سيارة بها مسلحون، ونجحت فى توقيفها أمام الفندق الذى نقيم به، كان الضباط يرددون بأعلى صوت ممكن «إثبت مكانك إثبت مكانك» موجهين كلامهم للمسلحين بعد توقيف سيارتهم.
فى صباح أمس، الثلاثاء، كان علينا التوجه إلى قرية «سادود» بمدينة رفح حيث وقعت جريمة قتل الجنود، عند خروجنا من الفندق لم نجد رجال الشرطة المكلفين بحراسة الفندق موجودين والذين نعرفهم جيداً من كثرة ترددنا على هذا المكان، سألنا موظفى الفندق فاخبرونا أن شرطة السياحة سحبت رجالها خشية استهدافهم، وخوفاً من استهداف الفندق لحظة استهداف هؤلاء الأفراد.
توجهنا إلى موقع الحدث، لم نجد أياً من السيناويين أو وسائل الإعلام أو غيرهما فى موقع الحدث، ولكن فور وصولنا تجمعت عشرات السيارات فى الموقع عندما رأوا الكاميرا، كان المشهد مؤلماً للغاية، الدم اختلط بالرمال فكونا كتلاً «دموية- رملية»، وأشلاء متناثرة فى المكان، ورائحة الدم واللحم تنبعث منها ريحاً غريبة بعد بداية تحللها، كان المشهد يبدو وكأنه موقع ذبح من كثرة الدم المنتشر، مذبحة بكل المقاييس.
بدأنا البحث فى المكان عن آثار الجريمة، وجدنا عشرات من فوارغ طلقات الرصاص منتشرة فى المكان، تحدث شخص عرف نفسه قائلاً باسم «أبوأشرف»، وقال «الرصاص ده رصاص أسود، والرصاص الأسود ده بييجى من السودان»، واستطرد: «بيكون جاى من السودان، أما الرصاص الأصفر العادى ده روسى أو أمريكى».
عند بحثنا وجدنا قميصاً وبنطالاً ملطخين بالدماء وبهما ثقوب نتيجة الرصاص، عندما حركنا القميص سقطت منه بطاقة شخصية لأحد الجنود الشهداء وهو «أحمد محمد مهدى محمد، وعنوانه ميت القصرى مركز قويسنا المنوفية، وتاريخ ميلاده 25/12/1991، حاصل على دبلوم صناعة».
لم يقتصر الأمر على وجود قميص وبنطال فقط، كانت هناك أحذية من نوع «الشبشب» منتشرة فى كل مكان، بينما لم نلحظ وجود أى حذاء «جزمة» من أى نوع، وجدنا بقايا نظارة شمسية من التى تباع على الرصيف فى ميدان العتبة أو غيرها، الملفت للنظر أنه كانت هناك بركة دماء تبعد قليلاً عن بركة الدماء التى نقف عندها، عرفنا آنها آثار دماء جندى حاول الهرب وقاوم منفذى الجريمة ولكنهم أطلقوا عليه الرصاص وأردوه شهيداً.
كان الأهالى كلهم غاضبين ومستنكرين لما حدث، ولكنهم خافوا من الحديث خشية بطش الأجهزة الأمنية التى تحقق فى الحادث، تركنا المكان على الفور بعدما أبلغنا أحد الموجودين أن حياتنا أصبحت فى خطر نتيجة وجودنا فى هذا المكان وعلينا المغادرة فوراً، رحلنا وأخذنا معنا فوارغ طلقات الرصاص التى جمعناها ملطخة بالدماء، كما لم ننس أن نأخذ بطاقة «أحمد محمد مهدى» لتكون أثراً بعد شهادة.
[wysiwyg_field wf_deltas="0" wf_field="field_gallery" wf_formatter="nodereference_views_formatter_views" wf_cache="1377024304" wf_nid="2049331"]