درجات ألوان الحوائط تتراوح بين الوردى والأحمر القانى وسيراميك أبيض «علشان يدى براح» فى شقة الدور الثانى من بيت الأسرة البسيطة التى نصبت العزاء وألوان الحداد السوداء فى الدور الأول وأمام منزل الشهيد محمد على، أحد ضحايا مجزرة رفح الثانية.. عالمان متناقضان يفصلهما بألوانهما المتناقضة سلم صغير. أسر كانت تنتظر بفرحة عودة الابن أو الزوج أو الأخ بشهادة نهاية الخدمة الطويلة، تاركين خلفهم آمالا وأفراحا ووعودا معلقة.
أم طلبت من ابنها حضنا قبل السفر، فخاف من التأخير على موعده قاطعا لها واعدا بأنه «هايقعد جنبها كتير بس لما يرجع من السفر».. ولم يعد. ابن الشهيد معوض حسن يسأل أمه عن وعد أبيه الشاب بالعودة السريعة من السفر.. ولن يتحقق الوعد للأبد. أب ينتظر ابنه يساعده فى الزراعة بأراضى الغير علشان الأفواه المفتوحة.. وتخلف الابن عن موعده.
21 بيتا فى محافظة واحدة فازت بنصيب الأسد من الشهداء، انطفأ فيها 21 مصباح ضوء للأبد وسط دعوات واضحة من العيون الحمراء من أثر البكاء والأصوات الضعيفة من أثر النحيب، دعوات بالثأر من القتلة والإخوان المحرضين على استهداف المصريين.
والد محمد على: حددنا زفافه يوم 4 سبتمبر
فوق حصير بلاستيكى افترش العشرات من أهالى قرية فيشا الكبرى بمركز منوف محافظة المنوفية الأرض، متكئين بظهورهم على جدران منزل الشهيد محمد على يواسون بعضهم البعض فى وفاة الشاب الذى لم يتجاوز من العمر 21 عاما، والذى انتهت حياته فى لحظة على يد إسلاميين مسلحين فى سيناء. تقول الأم: «قلتله بلاش تسافر يا (محمد) الدنيا قلق، قال لى: خليها على الله يا أمى اللى ليه نصيب فى حاجة بيشوفها، وبعدين أنا ليا سنتين فى رفح، خلاص يعنى مش هموت غير وانا رايح اجيب الشهادة؟».
تصمت الأم لحظات، قبل أن تنخرط مجددا فى نوبة بكاء. ساعد الرجال الأب على الوقوف، لتلقى العزاء، يقول: «هو الكبير بتاعى ودراعى اليمين.. كان شغال على إيده من يوم ما خد الدبلوم علشان يكمل شقته.. عفشه عند النجار، وكان هيتجوز فى 4 الشهر الجاى».
عرف أهالى «محمد» الخبر على لسان خطيبته «سمر» التى قالت: «كلمته، قبل وفاته بيوم، كان قاعد على مقهى فى العريش قال لى: مش لاقيين عربية تودينا، بسبب الحظر، وهنستنا للصبح، فطلبت منه انه ياخد باله من الطريق، لإن المكان المتواجد فيه خطر من أول الثورة، فقال لى: سيبيها على الله، وفى اليوم التالى، اتصلت بيه لقيت صوت واحد غريب بيقول لى: إنتى مين؟ قلت له: (سمر)، خطيبة (محمد)، فقال لى: طب (محمد) مات البقاء لله».
وسط كل تلك الأجواء التى انهارت فيها الدموع، حزنا على فراق العريس، يعود الأب، بعد طمت طويل: «يعوض علينا ربنا.. ما كانش عاوز حاجة غير إنى أسمع صوته.. أشوفه.. أودعه بنفسى.. حرمونى ليه من وداعك يا (محمد)؟». أنهى الأب جملته، ليرد عليه عدد من الأهالى وجيرانه، فى غضب شديد: «علشان دول ظَلَمة، علشان دول مش مسلمين، ولا يعرفو حاجة عن الإسلام». رغم قسوة المشهد فإن أسرة «محمد» أصرت على اصطحابنا لشقته التى كانت فى انتظار يوم استقبال أثاث عرسه، وقال أحد أقاربه: «صوَّرو الفرحة اللى ماتت بدرى، صوَّر يمكن الصورة توجع قلوب الكفرة اللى قتلوه غدر، صوَّرو يمكن يحسو بالنار اللى فى قلوبنا».
أسرة «إبراهيم عبداللطيف» تخفى استشهاده عن والدته المريضة
صمت يكسره صرخة تنطلق بحرقة من سيدة فى الخمسين من عمرها، تردد بأعلى صوتها: «إبراهيم عايش.. وراجع تانى». إبراهيم عبداللطيف، ابن قرية «كفر عشما» التابعة لمركز الشهداء. على بعد خطوات من منزله، وقف صلاح المنوفى، أحد جيران الشهيد، لم يتمالك نفسه من البكاء وقال: «حسبنا الله ونعم الوكيل، إبراهيم كان شاب جدع ومن خيرة شباب البلد، ولم يغضب أحد منه».
أسرة إبراهيم أخفت خبر استشهاده عن والدته المسنة، فهو العائل الوحيد للأسرة، كما أكدت إحدى قريباته قائلة: «إبراهيم كان بيشتغل استورجى على باب الله، واتبهدل فى الأيام الأخيرة علشان مفيش شغل فى البلد، ويعول أمه وأخيه عبدة المريض، وإحنا خبينا عنها الخبر لغاية دلوقتى علشان هى مش هتستحمل الخبر، ومش عارفين مين اللى هيصرف عليهم بعد استشهاده».
يقول محمد عوض الله، أحد أصدقاء الشهيد إبراهيم: «إبراهيم كان يعمل فى العديد من الأعمال، من أجل توفير لقمة العيش له ولأسرته وينفق على والده ووالدته، ولم يرفض أى عمل يعرض عليه وكان يحبه الجميع ويحترمه». يصرخ إبراهيم كامل، أحد الجيران، بالقصاص من قتلة الجنود قائلا: «الإخوان هم اللى قتلوا إبراهيم، وعلى قيادات القوات المسلحة أن تقتص منهم، علشان نرجع حق هؤلاء الشهداء الذين راحوا ضحية الغدر لجماعة لا تريد سوى العيش وحدها ومن أجل مصلحتها فقط».
ابن معوض حسن يسأل: بابا مش راجع تانى؟
«بابا فين يا ماما، هو مش راجع تانى ولا إيه؟» كلمات استقبلتها زوجة الشهيد معوض حسن معوض، المجند الشهيد، من ابنها الذى لم يتجاوز الثالثة. تصمت الأم ولا ترد على ابنها ليعيد على مسامعها السؤال مرات دون إجابة.
داخل عزبة «شماعة»، التابعة لمركز أشمون بمحافظة المنوفية، تجمع الأهالى فى انتظار الشهيد معوض حسن معوض الشيخ، الذى يبلغ من العمر 21 عاما، متزوج ولدية طفل، كان فى طريقه لتسليم «مخلته» والعودة إلى أهله بعد إنهاء مدة الخدمة، يعيش معوض وسط أسرة فقيرة يعمل والده عاملا باليومية فى زراعة الأراضى الزراعية للإنفاق على أسرته الكبيرة التى تتكون من ستة أفراد. والد الشهيد معوض لم يتكلم سوى بعض الكلمات التى تطالب بحق ابنه الذى ذهب من أجل أن يسلم مخلته وينهى خدمته، قائلا: «حسبى الله ونعم الوكيل فى الإرهاب والإرهابيين»، مشيرا إلى أن سيناء التى تمتلئ بالإرهابيين لابد أن يتم تنظيفها والقضاء على كل من يحمل سلاحا ضد الدولة».
أمام منزل الشهيد افترشت والدته الأرض وسط دعوات أقاربها بالصبر على فقدان ابنها، لتقول بحرقة: «مين هايربى ابن معوض بعد ما سابه، إحنا ناس على قد حالنا وكافيين خيرنا شرنا، بس قلبى كان حاسس إن ابنى هيموت، وكنت بادعى له ليل نهار، لكنه أمر الله». يقول محمد عبدربه، أحد الجيران: «الشهيد كان لا يكره أى إنسان، ويحبه الجميع، وكان يساعد أى محتاج رغم فقره إذا استطاع»، يشير محمد جميل، ابن عم الشهيد، إلى أنهم عرفوا بالخبر من أحد أصدقائه بالسلاح صباحا، عندما اتصلنا به ولم يرد فاتصل أحد أصدقائه وأبلغنا الخبر.
محمود: ذهب فى رحلته الأخيرة لإنهاء خدمته فعاد جثة هامدة
أمام ظروف الحياة الصعبة لم يجد محمود على السيد سوى التطوع فى الجيش. كان ينزل بين الحين والآخر فى إجازة قصيرة ليرى أسرته البسيطة ولكن فى الأيام الأخيرة قرر أن ينهى خدمته فذهب فى رحلته الأخيرة لمقر خدمته فى سيناء ليعود لقريته بير شمس التابعة لمركز الباجور بمحافظة المنوفية جثه هامدة.
يبلغ محمود على 23 عاماً، وهو الابن الأوسط فى أسرة مكونة من خمسة إخوة وأب وأم داخل منزل الأسرة البسيط بوسط القرية، راحت شقيقتاه فى نوبة بكاء شديدة، أما أشقاؤه الثلاثة الذكور فقد وقفوا يتلقوا العزاء بعيون ذائغة حمراء.
صلاح السيد أحد أهالى القرية يقول بحزن: «ذهب ليسلم مخلته ويعود إلى قريته مرة أخرى إلا أن رصاص الغدر قضى على حياته وإنه لا يستحق ما تم معه ولا أى من زملائه الذين كانوا فى خدمة هذا الوطن ولم يكن لهم أى ذنب فى أن يقتلوا غدرا، مقابل حمايتهم لأمن وسلامة هذا الوطن.
والدة سعيد: «قالى رايح أجيب الشهادة.. ماكنتش أعرف إنها وفاته»
توعد أهالى المجند الشهيد عفيفى سعيد عفيفى بقرية شبرا خلفون، التابعة لمركز شبين الكوم بمحافظة المنوفية، بالثأر من جماعة الإخوان المسلمين الذين اتهمهم الأهالي بالتسبب فى الحادث الإرهابى ومنعهم من دخول القرية بعد دفن نجلهم الشهيد بمقابر الأسرة. فى مشهد مأساوى جلس سعيد عفيفى، والد المجند عفيفى سعيد عفيفى، أمام منزله بالقرية مصابا بحالة هستيرية من البكاء، وأصيبت والدته بحالة عصبية ظلت معها تردد: «آخر لقاء قبل سفره طلبت منه العودة لأحتضنه قبل أن يغادر، لكنه انطلق وأشار من بعيد وقال لا إله إلا الله هجيب الشهادة وهابقى معاكى على طول، مكنتش أعرف إنها شهادة وفاته»، تضيف والدته: «عفيفى كان أطيب أولادى، وعندى عمرو أخوه الكبير 30 سنة وإيهاب 27 سنة وعفيفى الشهيد 21 سنة».
يوضح خالد محمد فرج، خال الشهيد، أنهم سمعوا بالخبر من التليفزيون وتوجهوا بعد ذلك إلى قسم شبين الكوم الذى أكد لهم خبر الوفاة. مضيفا «إن الشهيد هو الأخ الأصغر لأشقائه وأنه توجه أمس لإنهاء خدمته العسكرية، وأنه تلقى منه اتصالا تليفونيا ليلة الحادث بأنهم موجودون فى موقف العريش ويحتفلون بإنهاء خدمتهم وفى انتظار توصيلهم».
ورجح خال الشهيد أن يكون الحادث عملية مدبرة من جماعة الإخوان المسلمين لاستهداف أبرياء ليس لهم ذنب سوى خدمة وطنهم، مشيرا إلى أنهم سيأخذون بثأر نجلهم من أعضاء الجماعة بالقرية. وردد الأهالى بالقرية هتافات «لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله يا شهيد نام وارتاح وإحنا نكمل الكفاح». واتهم عم الشهيد جماعة الإخوان المسلمين بالتسبب فى مقتل نجل شقيقه، قائلا إنهم هم الطرف الثالث الذى يريد خراب البلاد. مرددا: «حسبى الله ونعم الوكيل».
محمود زكريا: رصاصة قتلت حلمه بالزواج فى عيد الأضحى
لا تزال صورة محمود الأخيرة وهو يجلس على مائدة الإفطار فى شهر رمضان الماضى عالقة فى مخيلة أسرته البسيطة، مسببة حالة من الهياج بعد أن شاهدوا صورته على شاشات التليفزيون ضمن المجموعة التى استشهدت جراء الهجوم الذى تعرض له الجنود فى رفح.
اسمه بالكامل محمود زكريا السيد حجازى شاب عشرينى كان يحلم باليوم الذى ينهى فيه خدمته العسكرية ليعود لقريته الصغيرة بير شمس التابعة لمركز الباجور بمحافظة المنوفية لمساعدة أسرته البسيطة بعد أن توفى والده وتركهم أمانة فى عنقه. داخل منزل الأسرة البسيط تعالت الأصوات بالبكاء والنحيب واتشح الجميع بالسواد.
تغلبت الدموع على صبر شقيقيه السيد ومحمد، أما شقيقته الأرملة التى توفى زوجها من سنوات فقد راحت فى نوبة بكاء هستيرى، يقول أحدهما: كان محمود هو عائل وسند الأسرة. كان محمود يستعد لعقد قرانه خلال إجازة عيد الأضحى القادم، ولكن لم يسعفه المسلحون الإسلاميون. أمام المنزل تجمع عدد من أقارب محمود وجيرانه.
ابن عمه طارق حجازى كان أكثر تماسكاً من باقى أفراد الأسرة يقول: «كان محمود فى قمة السعادة لقرب انتهاء خدمته العسكرية وقرب موعد عقد قرانه على عروسه» ويكمل وقد دمعت عيناه: «علمنا بخبر وفاته من التليفزيون ولم نصدق الخبر.
والد عمر شبل: ملعون اللى يقتل شعبه علشان الكرسى
«اللى لى نصيب فيه هشوفه».. كانت هذه آخر كلمات الشهيد عمر شبل 21 سنة شهيد مذبحة رفح بقرية «سلامون» مركز الشهداء بمحافظة المنوفية، داخل القرية الصغيرة جلست أسرة الشهيد عمر أمام منزله الصغير تنتحب.
يقول عادل شقيق الشهيد عمر: «فى الفترة الأخيرة كنت خايف على عمر، وطلبت منه يرجع يوم استشهاده ومش لازم يجيب شهادة أداء الخدمة العسكرية، إلا أنه قالى متخفش اللى ليه نصيب فيه هشوفه».
لحظات يصمت فيها عادل، الأخ الأكبر، يأخذ نفسا عميقا ليمنع سقوط دموعه قائلا: «عمر كان أخويا الوحيد على ثلاث بنات راح ضحية ناس مش بتخاف ربنا، ولم يهب الموت أبدا رغم صغر سنه، فهو كان يؤمن بالقضاء والقدر، وكان على استعداد كامل لأن يقدم روحه هدية للوطن، وأن يكون جزءا من إصلاح مصر».
لا يتمالك عادل نفسه من البكاء. يقول شبل فرحات والد الشهيد : «ابنى كان مطيعا ويخاف الله، ويعمل له ألف حساب كما، أنه كان يتعامل مع كل إخوته بالحسنى، ولا يعصى أى أحد منهم، وأدعو الله له بقدر طاعته لى أن يسامحه ويتقبله فى الشهداء»، وأضاف: «حسبنا الله ونعم الوكيل فى كل من تمتد إيده لقتل أولادنا فى الجيش والشرطة وينتقم منهم ربنا، دا كله علشان الكرسى ملعون اللى يقتل أبناءنا علشان الكرسى».