x

«سيد قطب.. الأصولية الإسلامية».. كتاب يكشف خطابات القمع في الثقافة المصرية

الإثنين 26-11-2012 15:17 | كتب: أحمد الفخراني |
تصوير : other

من زاوية تحدد أهمية تناول دراسة ظاهرة الأصولية الإسلامية فى مصر،من حيث أن موقفها من العالم ينفى دور «عقل» الفرد فى تناول قضاياه استسلاما لسلطة نص إلهى لا يمكن مناقشته، يربط الدكتور شريف يونس الكاتب السياسى وأستاذ التاريخ المعاصر بجامعة حلوان، في كتابه «سيد قطب.. والأصولية الإسلامية » جوهر استبداد خطاب الأصولية بمثيله فى الخطاب الوطني العام، الذى اعتمد كليهما الإقصاء الفكري للآخر، وفرض «هوية واحدة على المواطنين» بقوة من أعلى، تفترض صلاحها ونقاءها.

مفهوم الدولة القديم، الذي كشفت ثورة 25 يناير عن وهنه، و بدأ مع «محمد علي» مؤسس مصر الحديثة، قمعي بقدر ما كان تنويريا، وفقا لرؤية «يونس»، فهو يجر المواطن المصرى إلى «التقدم» برؤية «الحاكم» واحتياجات دولته المتخيلة فى ذهنه لا حاجات مواطنيه، مما ترتب عليه إجراءت تتخطى «حرية الإنسان» و«كرامته» و«تنوع مصادر ثقافته» و«وتعدد هوياته داخل المجتمع الواحد»، أمثلة: «القهر مقابل التنوير، مبارك أو الفوضى، الإخوان أو حرب أهلية، هوية واحدة لها ملامح خاصة وثابتة مقابل تهميش للأقليات»، فسطاطين«الحق والباطل» فى مجتمع  لم يعد فيه المتدين بالضرورة يطالب بإقامة الشريعة، ولم يعد فيه العلماني بالضرورة مستبعدا أثر الدين فى حياة مجتمعه، عصر «الهويات المتشابكة».

لم يكن خطاب الأصولية الإسلامية بعيدًا إذن، فقد نشأ جدل «البحث عن الحداثة» في منتصف العشرينات فى مجتمع طبقي، يقسم نفسه إلى نخبة عارفة وجماهير جاهلة لا تعرف حقوقها. الخطاب الذي ربما كان يتناسب مع عصر غلبت فيه الأمية، ويتم استعادته فى أشكال عدة الآن، أسوأها قد يكون ما يمثله تيار الإخوان المسلمين الذى يتبنى رؤية إقامة مجتمع «من أعلى»، يتشابه فيه أفراده، مستعينا بما تبقى من آليات قمعية لدولة النظام السابق «دولة العسكر الممتدة منذ ثورة يوليو»، في لحظة لم يعد فيها المجتمع مهيئا لاستقبال ديكتاتورية جديدة، تجره إلى «التنوير» أو «النهضة» المتخيلة فى ذهن الحاكم، فاللحظة هى لحظة «أفول» لمفهوم الدولة القديمة.

عبر 5 فصول، يحلل شريف يونس مراحل تطور فكر سيد قطب من  اقتحامه المحدود لمجال الأدب، إلى اقتحام «المجتمع» بمشروع «شامل ونهائى»، وأثر  فكرة الحاكمية التى طورها قطب عن المودودي، «الفكرة القنبلة» كما أسماها الكاتب، على مجتمع فشل الخطاب الوطني فى «تنويره» بالقوة.

التياران إذن، العلماني و الإسلامي منذ نشأتهما فى مصر كانا يبحثان عن تقدم الأمة، سواء عبر الاستفادة من علوم الغرب، أو بالعودة الحَرفية إلى التراث الإسلامي، أو بالمزج بينهما، وفي مقابل خطاب يحتقر الغرب ويطالب «بالحقد المقدس» نحوه، يوجد خطاب يستبعد منجز «ابن تيمية» ويشكك فى تراث الشرق بشكل عام.

يُسقِط «يونس» عبر بحثه أكثر من فرضية؛ فتحولات سيد قطب من الأدب «العلمانى» إلى تكفير المجتمع لم يكن تناقضا فى شخصيته أو أفكاره بل تطورا طبيعيا لخطاب مستند فى الحالتين إلى دور يجعل الأدب خادما فى قضية كبرى، ويهدف إلى إعادة تشكيل الناس على مثال واحد «الشاعر السامى والممتاز عن الجميع» سواء في طبعته التى كانت وفقا لرؤية قطب وقتها تفصل الأدب عن الدين، أو عندما دعا إلى أدب إسلامي يخدم تصوره عن «المسلم السوبر، السامى والمتفوق عن الجميع» وهي فكرة ترددت أيضا فى الخطاب العلمانى وقتها عن الفرد «السوبر مان».

تبدو رحلة «قطب» أيضا وفقا للكاتب نموذجا للتوتر الناتج عن عدم  التأقلم مع «حداثة» المدينة، و قيمها، وهو ما سيفسره فى نهاية الكاتب بوجود قطاع كبير من المجتمع كان على استعداد لاعتناق مشروع سيد قطب، لشعوره بهذا الاغتراب في مجتمع لم ينجز ما وعد به من رخاء وتقدم، وإحساسهم عبر مشروع يخدم قضية كبرى وإلهية بالتفوق والتميز عن المجتمع، مع فارق جوهري يطرحه «يونس» وهو أنهم ليسوا فاقدي للشخصية، بل كانوا فى هذا التوقيت نواة تمرد على قيم سائدة بقوة القهر، وعلى فرض نموذج واحد لما يجب أن تكون عليه الشخصية المصرية، وإن كانوا في المقابل قابلوا القمع بقمع مماثل عبر تكفير المجتمع لصالح هويتهم هم تمهيدا لفرضها هى الأخرى بالقوة.

يرصد الكتاب المرحلة الانتقالية من الأدب إلى الأصولية، والتي بدأ فيها «قطب» في التخلي عن طموحاته الأدبية التى لم تكلل أبدا باليقين، وهي مرحلة اهتم فيها «قطب» بالإصلاح الاجتماعي، مع إنشاء وزارة الشؤون الاجتماعية عام 1939 عبر مجلتها «الشئون الاجتماعية»، في ظل روح عامة لدى علمانيين أيضا مثل ميريت غالي وحافظ عفيفى، يطالبان بتحقيق إصلاح اجتماعى من داخل النظام يشترط «إبعاد الجماهير من حلبة السياسة».

عبر أكثر من 100 مقال كتبها «قطب» لمجلة الشؤون الاجتماعية، طرح فيها رؤيته الشاملة لما أطلق عليه «المجتمع المتوازن» الذي «يهندس» من أعلى ايضا، والتي يرى «يونس» أنها تتغافل عن تكوينات «الأمة» المتناقضة والمتشابكة.

طرح «قطب» فى تلك المقالات عكس تصوراته الأولى عن الفن، تشديد الرقابة على الإنتاج الفني، كي يوجه لخدمة قضيته، واستخدام رجال الدين للترويج لمشروع «الإصلاح»، وهو ما تم استخدامه من قِبل الضباط الأحرار، واستمر إلى الآن.

توحيد العقلية المصرية لدى «قطب» كان صنوا لهوية محافظة، تستبعد المرأة وتقصر دورها على التدبير المنزلي ومربية للأجيال وفقا للنمط الواحد الذى يجب أن يكونوا عليه، وعدم الاقتداء بالغرب فى تلك الناحية، فقد كان قطب فى تلك المرحلة رغم عدائه لقيم الغرب «المادى» فى مقابل الشرق «الروحانى» على استعداد للاقتباس من الحضارة الغربية ما يفيد وفقا لدولته «المتخيلة».

لكن مشروع«المجتمع المتوازن» تحول من أفكار على ورق إلى إيمان بضرورة العمل السياسي من أجل تحقيقه، فبدأ فى إدانة الأحزاب وتعددها، ثم سرعان ما تمرد على النظام القائم، عندما شعر أنه لن يستطيع أن يقدم رؤيته من خلاله.

لم ينضم «قطب» إلى جماعة الإخوان المسلمين قبل ثورة 23 يوليو رغم علاقته الوثيقة بهم. ثورة يوليو التي رأى فى ضباطها الأحرار نخبة جديدة قادرة على أن تساعده فى فرض رؤيته، بعد «فشل الشعب فى انتزاع حريته بيديه» بل وأدان معهم الاعتصام العمالى الشهير بكفر الدوار، وطالب محمد نجيب بديكتاتورية «مؤقتة» فوق الدستور تعمل على تطهير الأحزاب أيضا، هذا الخطاب له مثيله فى كتابات تيارات ليبرالية وعلمانية، فى هذا العهد.

لكن سيد قطب سرعان ما انفض عن نخبة الضباط، بعد إدراكه أنهم لن يساعدوه فى تطبيق مشروعه، الذي يرفض باقي النظم الأخرى.

وبدأت علاقة «قطب» بالإخوان عام 1950، لكنه حاول طيلة الوقت الحفاظ على استقلاله عنها، قبل أن يحسم أمره عام 1953، ويتولى قسم نشر الدعوة بالجماعة التى كانت تشهد انقسامات حادة، نجح فيها الهضيبي بالكاد فى الحفاظ على جسد الكوادر الفعالة للجماعة، مع تجمد وظيفي.

تم القبض على «قطب» فى نوفمبر عام 1954 وحكم عليه بالسجن 15 عاما، تعرض خلالها للتعذيب، لكن السجن منحه فرصة تطوير أفكاره من مستشفى السجن، متوصلا إلى تقسيم المجتمع إلى غالبية تعيش فى جاهلية وقلة مؤمنة «عصبة» يقع على عاتقها «جر المجتمع والدولة الكافرة إلى الإسلام» وفقا لتصور قطب، قبل أن يتم إعدامه فى عام 1966 بعد افراج صحي قصير،ك وكان قد نشر كثير من كتاباته أثناء فترة سجنه فى مصر، منها «معالم فى الطريق» و«المستقبل لهذا الدين»، واستكمل نشر «فى ظلال القرآن»، ورفض الاعتذار عن أفكاره محققا رغبة يؤصل لها «يونس» فى كتابه «بالشهادة من أجل فكرته».

يرى «يونس» أن إنسان قطب «الممتاز» إنسان مرعوب دائما على الإسلام من الانحراف، ولا خيار أمامه سوى للحفاظ على نقائه سوى مزيد من الاغتراب، ليصبح مؤهلا «لمحو فردية الناس وإراداتهم بموجب التشريع والأوامر الإلهية» فيصبح الإسلام فى مواجهة العالم، وترغب التيارات المواجهة فى تحطيمه.

أفكار «قطب» التي انتشرت فى السجون وتبناها قطاع من المجتمع، عقب وفاته، وتم التوصل إلى نتائج فقهية بشأنها، وانطلقت تيارات تكفيرية من عباءته، فيما رفضها الإخوان  المسلمين ،وكتب الهضيبى كتابه الشهير «دعاة لا قضاة» ردا على أثر «قطب» على جماعته، للحفاظ على احتكار الإسلام السياسي وصدارته، مضطرين وفقا للكتاب «لتفصيل نمط تكفير خاص بهم ويخدم أهدافهم فى مقابل فكرة تكفير المجتمع أفرادا ودولة».

يرغب الكتاب فى طبعته الثانية الصادرة فى 2012 عن الهيئة العامة للكتاب، فى طرح أسئلة حول طبيعة الاستبداد فى ثقافة النخبة المصرية، وهو مشروع ممتد عبر 6 مؤلفات، منها «سؤال الهوية»، «الزحف المقدس»، و 5 ترجمات، منها «البحث عن الحداثة»، «كل رجال الباشا» اختارها شريف يونس بعناية لتدعم أسئلته حول مفهوم وصاية الدولة عبر قهر مواطنيها وتوحيد عقليتهم وهويتهم سواء بحجج التقدم أو التحديث، ويبدو فيها «يونس» كمن يطارد أثر الأفكار التى لم تعد صالحة لإعادة الاستنساخ من قبورها، ومع ذلك فلا زالت تطاردنا،و تجد من يطالب بإعادة انتاج هياكل دعوة القمع الجديدة.

كتابات أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة حلوان تبدو مفتاحا مهما لفهم تناقضات اللحظة التى نحياها  وصراعاتها بل ومطالب ثوارها أيضا، تتجلى عندما تتسق مع شرطها الأساسي فى فضح تصلّب الأيدلوجيا بوعي متجدد لا يطارد التاريخ بقدر ما يطارد استنساخه الهزلي فى الحاضر، وتقع فى هنّات ربما  عندما تستخدم معول الأيدلوجيا فى هدم أيدلوجيا نقيضة.

الأفكار المتجددة والحية لشريف يونس الذى لم يعد يغرد منفردا الآن، لها أثرها الواضح فى كتابات جيل شاب من الأدباء والصحفيين والباحثين، جيل لم يتلقَّ الماضي كمقدس ولم يرصد الحاضر والمستقبل من لحظة ثبات.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية