باب خشبى مهشم، أرض مفروشة بقطع الزجاج المكسور، وبقايا تمثال حجرى ومجموعة من التوابيت الفرعونية، دماء فى كل مكان تقول إن هذا المكان كان ساحة لمعركة. لا يحتفظ المكان بشىء إلا تلك اللوحة التذكارية من عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر التى تقول إن هنا كان يوجد «متحف لآثار مدينة ملوى».
39 قطعة أثرية تبقت من أصل 1089 بعد أن تم نهب 1050 قطعة أثرية فى أكبر عملية سطو على التاريخ مرت بها متاحف مصر، وثانى عملية نهب متحفى بعد نهب متحف بغداد أثناء الحرب الأمريكية على العراق.
«المصرى اليوم» تجولت فى أطلال المتحف الذى أصبح دخوله أكثر خطورة من دخول مغارة للمطاريد فما إن تهم بالدخول حتى تنطلق صيحات الصبية بالجوار «حرامية.. حرامية» لتنذر من قاموا بنهب المتحف منذ عدة أيام، ووسط نظرات قاسية بالخارج تأمر بالرحيل، وطلقات نارية تنطلق من إحدى البنايات العالية المجاورة للمتحف بمجرد الدخول، كان المشهد بالداخل مأساويا. حيث هشم اللصوص الباب الخشبى للمتحف، وقاموا بإلقاء مكاتب ودواليب موظفى المتحف فى مدخله لمنعه من الإغلاق، وفى صالة العرض الرئيسية للمتحف كانت فاترينات عرض القطع الأثرية جميعها مهشمة بعد سرقة ما بها من قطع أثرية وتماثيل ونقود ذهبية.
اثنتان من المومياوات لم يتبق منهما إلا قليل من الرماد الأسود بعد أن تم تدميرهما بالكامل داخل التوابيت للحصول على التميمة الذهبية مكان القلب أو زجاجة الزئبق الأحمر فى رقبتها، وفاترينة أخرى لم يتبق منها إلا ورقة مكتوب عليها أن هذا المكان كان يضم عملات الذهبية من عهد خمارويه فى الدولة الطولونية، وأخرى من عهد الدولة الفاطمية، وعلى الأرض أوراق بالإنجليزية بخط اليد لقطع تم اكتشافها فى عهد الاحتلال الإنجليزى ولكن القطع غير موجودة. يقول أحد شهود العيان، رفض ذكر اسمه: «إن من نهبوا المتحف خرجوا منه وهم يرتدون الخواتم الأثرية ويحملون فى أيديهم العملات والتماثيل الصغيرة».
خمسة توابيت فرعونية ملونة من عهد الدولة المتوسطة، شبه مهشمة فما لم يستطع اللصوص نهبه لكبر حجمه قاموا بتخريبه، هنا تمثال مزدوج (لرجل وامرأة) متوسط الحجم على قاعدة صخرية لم يستطيعوا حمله فقاموا بإلقائه على الأرض لتنكسر أجزاء من الرأسين. بجانبه تمثال آخر من الحجر الجيرى من عصر الدولة البطلمية مهشم على أرض المتحف، وبجواره ورقة لتمثال نادر لإحدى بنات إخناتون ولكن التمثال غير موجود. يحكى أحد رجال الأمن من شرطة السياحة أن ذلك التمثال كان بمثابة «جوهرة التاج» فى المتحف.
فى وسط ذلك الركام وبعد مرور دقائق معدودة دخل مجموعة من الصبية لا يتجاوز عمر أكبرهم (16 سنة)، اعتلى مجموعة منهم إحدى الطاولات وأخذ يقطع حديد إحدى النوافذ لسرقته، بينما قام ثان بإرهابنا برمى ما تبقى من زجاج المتحف إلى الحوائط، وثالث أمسك ببردية وقام بتمزيقها وسط تساؤلنا عن سبب التمزيق والتكسير فأجاب أحدهم وهو يلقى بأحد بواقى القطع الفخارية على الأرض: «إحنا جايين نكسروا المتحف ده، وهنولعوا فيه كمان، مش الحكومة بتقتل فينا فى مصر وده المتحف بتاعها، ماهنخليش فيه حاجة».
أسبوع كامل مر على هذا الحال منذ اندلاع المظاهرات الاحتجاجية أمام مجلس المدينة والمجمع الشرطى المجاور للمتحف، قبل أن تدخل أعداد من المحتجين فناء المتحف واقتحامه والاعتداء على موظفيه ونهب كل ما فيه فى ساعات.
فى الطريق للطابق العلوى حيث الصالة الثالثة بالمتحف، كانت الدماء على درجات السلم معبرة عن المعركة التى كان يتنافس فيها اللصوص على الفوز بأكبر قدر من القطع الأثرية، جميع فاترينات العرض منهوبة. إحداها خاصة بالتماثيل الصغيرة مازالت آثار الدماء عليها ما يدل على أن التنافس على الغنيمة وصل إلى أن أحدهم كسر الفاترينة بيديه.
بمجرد الخروج من باب المتحف قام رجال الأمن بمركز الشرطة المجاور بإطلاق أعيرة نارية فى الهواء لتأمين خروج «المصرى اليوم» من المتحف، ولكن أحدا منهم لم يخرج من مركز الشرطة، فقط ظلوا متمركزين فى بعض البنايات المرتفعة بجواره لتأمينه، فى نفس الوقت الذى كان الصبية فيه على باب المتحف يتنافسون على الفائز بحديد الشباك الذى تم خلعه.
«مشكلة المتحف أنه يقع بجوار مجمع شرطة ملوى ما يعرضه للخطر من قبل المحتجين» هكذا يقول عميد عبدالسميع فرغلى، رئيس مباحث السياحة بمديرية أمن المنيا، مضيفا: «يوم الأربعاء الماضى بعد الإعلان عن فض اعتصام رابعة بالقوة، حاصر عدد ضخم من المحتجين المتحف بسبب قربه من المجمع الشرطى المتمثل فى مركز وقسم شرطة ملوى، ووقعت عمليات عنف بين الشرطة والمحتجين دخلوا على إثرها إلى فناء المتحف وأصابوا مديره وعددا من العاملين به، منهم عساكر من شرطة السياحة المكلفة بالحراسة وأصيب عدد من المحتجين أيضا، وتصاعد الموقف بعد وصول أهالى المحتجين وعائلاتهم فور سماعهم بإصابة أبنائهم قبل أن ينهبوا المكان».
عن سبب وجود المتحف بدون حراسة حتى اليوم، يقول عبدالسميع: «عدد ممن سرقوا المتحف والمتربصين بمركز الشرطة اعتلوا بعض البنايات المجاورة للمتحف وأطلقوا النيران على الموظفين يوم الخميس الماضى بعد اقتحامه بيوم واحد، وهو ما تسبب فى مقتل سامح عبدالعزيز، موظف شباك التذاكر، ليلتها حرق أنصار الإخوان مجلس المدينة وبعدها أى محاولة لاقتراب الشرطة من المتحف تواجه بإطلاق النار».
يقول رئيس مباحث السياحة بمديرية الأمن: «قوة حراسة المتحف 8 عساكر من شرطة السياحة و10 مراقبى أمن، ولكن أحدا منهم لا يذهب لتأمين ما تبقى من المتحف لعلمهم أن من يذهب سوف يموت لوقوعه بين الشرطة والمسلحين، والحل المستقبلى هو أن نزيد من منظومة الحراسة من حيث التسليح وعدد الأفراد وارتفاع الأسوار، لأن وجود المتحف بجانب مجمع الشرطة جعله مستهدفا من المحتجين والبلطجية».
وبينما يمتنع أحمد عبدالصبور، مدير متحف ملوى، الذى يلزم منزله منذ وقوع الحادث، عن الإدلاء بأى تصريحات صحفية، قال أحمد شرف، رئيس قطاع المتاحف بوزارة الآثار، إنهم أبلغوا شرطة الآثار وقدموا بلاغا للنيابة بأحداث النهب والسرقة لكن أحدا لم يتحرك لرفع البصمات لمعرفة الجناة. وعلل شرف سبب عدم اهتمام الجهات المعنية بالأمر، قائلا: «مركز ملوى مشهور منذ عقود بأنه معقل للجماعات الإرهابية وبالتالى فإن التواجد الشرطى والرسمى محفوف دائما بالمخاطر، والوزارة اكتفت بإبلاغ شرطة المنافذ الحدودية والإنتربول بمواصفات المسروقات».
وعن سبب عدم وجود أى من موظفى المتحف عقب سرقته وقت دخول «المصرى اليوم»: «طبيعى لأن أحد الموظفين مات، وطبيعى يخافون على أرواحهم، كمان مابقاش فيه حاجة تنفع تتسرق من المتحف خلاص، الوضع الأمنى لا يساعد على السفر، والوزارة من جانبها شددت الحراسة الإلكترونية والبشرية على جميع المتاحف بعد هذه الواقعة». وعن أهمية متحف ملوى تقول الدكتورة مونيكا حنا، مدرس علم الآثار المصرية فى إحدى الجامعات الألمانية: «هو واحد من أهم المتاحف الإقليمية ويضم العديد من القطع المهمة التى تعتبر ناتج حفائر الدكتور سامى جبرة فى منطقه تونا الجبل فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى وهو يحتوى على طيور ابيس وتماثيل من البرونز لأوزير وإيزيس ومجموعة من الأقنعة التى تعود للعصر اليونانى وتوابيت خشبية مستخرجة وتوابيت حجرية ترجع للعصرين اليونانى الرومانى، بالإضافة إلى برديات ديمو وهيرا، والأوانى الفخارية والعملات البرونزية والفضية وأدوات الزينة والعطور».
وتحمل مروة الزينى، إخصائية ترميم الآثار، ما حدث للمتحف أولا لوزير الآثار محمد إبراهيم، قائلة: «هو وزير للآثار منذ أكثر من سنة ونصف فى حكومة الدكتور كمال الجنزورى ثم هشام قنديل ولم يفعل أو ينجز أى شىء خاص بحماية الآثار، فالعالم كله يعلم بالاضطرابات السياسية وما ينتج عنها من اضطرابات أمنية فى مصر ولم نجده مرة واحدة يشكل مجلس إدارة أزمة بالتنسيق مع شرطة السياحة والآثار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من نهب وسرقة للآثار فى عهده، وأبسط مثال على ذلك أن متحف ملوى منذ سرقته وحتى الآن لم ينتقل إلى الموقع اللهم إلا إصدار بعض تصريحات واهية وأغلبها غير دقيق يكتفى بإصدارها من منزله، ومن الطبيعى أن تكون النتيجة نهب وسرقة وإتلاف المتحف».
وتثير الزينى مشكلة أخرى وهى عدم الاهتمام بالمتاحف الإقليمية عموما فى مصر التى تصفها بأنها فى غاية الأهمية فوجودها يجب أن يحظى باهتمام أكبر لما تشكله لدى المواطنين من وعى أثرى وثقافى وأهمية اقتصادية ربما تعود على أهل كل محافظة أو مركز موجود بها متحف.
من جانبها أطلقت الحملة المجتمعية للرقابة على التراث والآثار بالتعاون مع كل من قطاع المتاحف ووزارة الداخلية والقوات المسلحة مبادرة لاستعادة القطع المفقودة من الأهالى، تعهدت فيها بمكافأة مالية، وتعهد بعدم الملاحقة الأمنية مقابل تسليم القطع المسروقة.