حوصرت بقايا الجماعة، وانتهت الأغلبية الواهية إلى حزمة من المشاغبين احتوتهم جدران مسجد الفتح بميدان رمسيس، إنها جولة يتوقع الكثيرون كونها الأخيرة فى حرب تخوضها الدولة لإنهاء خطر أبناء «المعزول». الطريق إلى قلب الحدث محفوف بالمخاطر، والأمر لم يكن سهلاً فتحذيرات اللجان الشعبية المنتشرة من بداية شارع رمسيس وحتى أطراف ميدان التحرير أكدت للجميع خطورة الاقتراب، بينما تمركزت مدرعات وآليات الجيش المصرى ورجاله على نقاط عديدة لتمنع آخر تلك النقاط مرور المركبات والمارة من الاقتراب إلى ميدان الأحداث وبالتحديد مسجد الفتح.
الطريق الوحيد للوصول إلى هنا هو الخروج من الممر المؤدى إلى سكك حديد مصر من أنفاق محطة مترو الشهداء، هكذا جاءتنا الإجابة فى مكالمة هاتفية من الزميل «أسامة السيد» المصور بجريدة المصرى اليوم والذى وضع روحه على يده ليتمركز أمام الحدث. دقائق وكنا على الدرجات الأخيرة لسلم الخروج من حيث محطة مترو الشهداء، وكانت أصوات الأعيرة النارية وصياح وهرولة بعض المواطنين إلى داخل المحطة كفيلة لتؤكد أن المهمة لن تكون سهلة. وما إن وقعت أعيننا على الميدان حتى أصابتنا الدهشة، المواطنون يتخذون الأكشاك الكائنة على الأرصفة ساتراً من النيران التى ضج بها الميدان وصم وابل الرصاص المتواصل آذان الجميع ودفع الإدرينالين إلى أجسادهم، لكنها جرعة لم تكن كافية لكثير من السكان وأهالى منطقة رمسيس والفجالة للاقتراب أكثر من مسجد الفتح، خاصةً بعد أن استرقنا السمع إلى أحاديثهم الجانبية عن ليلة الجمعة الدامية وما شهدته من أحداث منذ احتماء أنصار المعزول بالمسجد، وخلال سيرنا على أحد الأرصفة فى اتجاه مسجد الفتح صاح أحدهم لنا «خدلك ساتر يابنى انت، الضرب شغال ربنا يستر عليك».
الجميع أطل برأسه من خلف الأكشاك والسواتر ومداخل الحارات، بل احتمى بعضهم بمدرعات الجيش ولم يظهر منهم سوى عينين يسترقان النظر لمئذنة المسجد ويد ترقب وتحمى أعينهم من حرارة الشمس الحارقة، لكنهم جميعاً أصروا على مؤازرة قوات الأمن ومشاهدة «الجولة الأخيرة».«واقفين حالنا إلهى يوقف حالهم ويكفينا ويكفى مصر شرهم، الإخوان بيضربوا رصاص وغاز من مئذنة المسجد بعد ما الأمن سيطر على الساحة الرئيسية، والرصاصة ماتعرفشى هاتجيلك منين، وقناصتهم مابيرحموش، حسبى الله ونعم الوكيل فيهم وربنا يستر على مصر وعلينا»، هكذا كان حديث جانبى بين أحد مالكى المحال التجارية بشارع الفجالة وآخر من أهالى المنطقة. ووسط هذا المشهد، وبعد دفعات البنادق الآلية التى بدأت أذننا تعتادها كسر سكون رتابة مشهد التوجس والريبة طفل صغير يحمل فى يده شيئاً ما، ظل يجوب به أطراف الميدان مردداً عبارة واحدة «آدى اللى شفناه منهم، دول بتوع ربنا؟، يحرقوا كتاب ربنا؟» وما إن اقترب منا حتى تكشف مقصده حيث كان يحمل أوراقاً محترقة من المصحف الشريف، وحين توجهنا إليه بادرنا «أنا من سكان المنطقة، وشفت بعينى اللى حصل إمبارح الإخوان ولعوا فى المسجد والمصحف اتحرق زى ماانت شايف».
واستطرد الطفل الذى رفض ذكر اسمه قائلاً «الصبح الدنيا كانت هديت، والإسعاف دخل يعالج المصابين وكان المفروض الإخوان يخرجوا خروج آمن، والإعلام دخل يصور، وفجأة ألقيت قنبلة «بلدي»، مصنوعة يدوياً، فى ساحة الجامع لكن الحمد لله ماحدش اتصاب والظاهر كانت المتفجرات اللى فيها يادوب تعمل صوت بس، وفجأة خرج قناصة الإخوان على طريقة 28 يناير وبدأوا يضربوا نار وقنابل غاز مسيل للدموع من المئذنة، وفجأة ظهر على الكوبرى مجموعة من القناصة وبدأوا فى إطلاق النيران من سلاح آلى، وهنا بدأ الاشتباك. ذهب الفتى الصغير مردداً عبارته وموزعاً شهادته وتوثيقه للأحداث على الأهالى والمواطنين المتجمهرين حول المسجد، واستمر دوى إطلاق الرصاص، وأطلقت قنبلة غاز مسيل للدموع من المئذنة مرة أخرى قبل أن يبدأ العرض الذى صعق الجميع. إنهم رجال الشرطة، أو تحديداً فرقة العمليات الخاصة الشهيرة بـ«777» والتى بدأ عدد من رجالها البواسل يصعد جسد المئذنة مستعيناً بما تلقاه من تدريبات، وفى لحظات كانت أقدامهم داخل المئذنة.
هرج ومرج وكر وفر، وفجأة صخب الميدان الصامت إلا من أصوات الرصاص، وانطلقت صيحات التهليل والتكبير، وبدأ التجمع الأقرب فى الهتاف لرجال الجيش المصرى والشرطة، بينما تشكلت حلقة من الناس ظلوا يسيرون إلى آليات الجيش المتمركزة بمدخله فى اتجاه غمرة، وهرول عدد من المصورين والصحفيين ورجال الإعلام إلى ما تجمع حوله المواطنون، وكنا بينهم. «القناص.. جابوه من فوق المئذنة»، هكذا هتف أحد المحيطين بالحلقة البشرية التى اقتربت أكثر فأكثر ليظهر أحد رجال القوات المسحلة ممسكاً بزمام شخص قيل إنه أحد القناصة الذين اعتلوا مئذنة المسجد، وكان بحوزته سلاح نارى أطلق منه أعيرة باتجاه المواطنين ورجال الأمن. واقتربنا أكثر من ضابط القوات المسلحة لنسأله عن هوية الشخص المتحفظ عليه وعن طبيعة السلاح الذى عثر عليه بحوزته، وكعادة ضباط القوات المسلحة أجاب «ماعنديش أوامر أدلى بأى معلومات، ماقدرش أفيدك»، ومع آخر كلماته كان قد وصل إلى إحدى المدرعات فأودع «القناص» داخلها وانطلق عائداً.
وبعد عودتنا إلى قلب الميدان رصدنا تحولاً كبيراً فى المشهد فقد ساد الهدوء إلا من بضع طلقات كانت جميعها تطلق من آليات الجيش والشرطة فى الهواء، واقترب عدد كبير من المدرعات إلى مبنى مسجد الفتح وبدا وكأن شيئاً سيحدث. وهنا انطلقت ثلاث فرق من رجال القوات الخاصة التابعين للقوات المسلحة والشرطة، تبعهم عدد كبير من رجال الإسعاف وهم يحملون معدات طبية وكراسى متحركة ونقالات مجهزة لداخل المسجد. وشكلت قوات الشرطة درعاً بشرية أمام البوابة الرئيسية للمسجد والتى تجمع أمامها مئات المواطنين، وكان ذلك إيذاناً باقتراب انتهاء الموقعة بخروج أنصار المعزول من المسجد بعض إلى منازله وآخرون يواجهون اتهامات بإثارة الشغب إلى مقر التحقيقات. «الليلة الليلة الليلة.. مافيش إخوان الليلة» بهذه الهتافات استقبل المواطنون المتجمهرون أمام بوابة المسجد تحركات رجال الأمن التى أعطت إشارة باقتراب خروج الإخوان، وبدأت سيمفونية شعبية خالصةً تعزف ألحان الهتاف فى حب مصر وفى رفض العنف والإرهاب، وقادت هذه الأهازيج سيدة اعتلت أحد المقاعد أمام الدروع البشرية الشرطية على بوابات المسجد. «صحافة.. والله العظيم صحافة» بهذه الكلمات حاولنا الدخول إلى ساحة المسجد لنرصد المشهد هناك، فكان رد المجندين وخيارهم الوحيد هو الصمت والثبات فى أماكنهم دون أت ينطق أحدهم بكلمة اللهم إلا أن قال أحدهم ويبدو أنه أقدمهم «ممنوع، اللى هايحاول يعدى هانتعامل معاه» وهو يشير إلينا بهراوته، حتى جاء أحد ضباط القوات الخاصة فسمح لنا «بدخول آمن» من بوابات المسجد شرط الانتهاء بأسرع وقت ممكن من توثيق ما يحدث قائلاً من تحت قناعه «أنا هاساعدك فى مهمتك أرجوك ساعدنا ننهى مهمتنا إحنا كمان، قدامك خمس دقايق بالظبط وتخرج».
على يسار المشهد استلقى عدد من أنصار المعزول ليتلقوا الإسعافات الأولية من رجال هيئة الإسعاف، وعلى يمين المشهد، اصطف بقيتهم فى مواجهة بوابات المسجد، عيونهم زائغة ونظراتهم مرتجفة إثر الزئير الذى صدر عن المتجمهرين خارج المسجد. وفى المنتصف تماماً كان قوات كبيرة من رجال الشرطة العسكرية وقوات الداخلية تنهى فى عجالة خطة تأمين خروج المتواجدين بالمسجد من أتباع جماعة الإخوان، وظلوا يتحدثون إلى عدد كبير من الشيوخ المعممين بعمامة الأزهر، فبدا كما لو كانت هناك مفاوضات لإنهاء الأمر بأسرع طريقة ممكنة. وفى لحظات بدأت خطة الخروج الأمن بطريقة ذكية اعتمد فيها رجال الأمن على «شهامة المصرى» فأعلنوا للجميع أن السيدات سيخرجن أولاً، فما كان من المتجمهرين أمام المسجد من الأهالى إلى أن شكلوا فى عجالة طريقا لخروج السيدات بعد أن اصطفوا على الجانبين وأمسك كل بيد الآخر، وبدأوا فى الهتاف «هانحميهم.. هانحميهم».
وبالفعل ظهر وجه طفلتين صغيرتين على أبواب المسجد ليتبعهن عدد من السيدات. ومع آخر السيدات اللاتى خرجن من بوابات المسجد بدأت الرؤوس تطل وتندفع اندفاعاً إلى الداخل بحثاً عن رجال الجماعة، واستمر تأمين رجال القوات الخاصة للبوابات وفى حركة خاطفة، باغتوا الجميع بخروج آمن لبقية عناصر الجماعة من الباب الخلفى الخاص بمصلى السيدات، لتنتهى معركة تأمين المواطنين من خطر الجماعة بتأمين »الجماعة« من غضب الجماهير.
ومع آخر قدم وطأت عربة الترحيلات إلى مقر التحقيق انطلقت زغرودة من إحدى السيدات التى تسكن شارع الفجالة المواجه للمسجد بدأت نغماتها من شرفة منزلها وانتهت بتوجهها إلى آليات الجيش لتطلق زغرودة أخرى وهى تردد «تسلم إيديكم يا ولادنا، تسلم لنا مصر».