x

شهداء محمد محمود.. «رياحٌ تهز الشَّعير»

الأحد 18-11-2012 19:42 | كتب: محمد المصري |
تصوير : other

تَقول الأسطورة، أن سنابل الشَّعير لا تهتز بالهواء، فهي تحتاج إلى ريحٍ أخفّ، ولذلك.. فحينَ نراها تتحرَّك فذلك لأن أرواحاً تَمر الآن من بينها


شهداءنا في محمد محمود كانوا ريحاً، أو أخفّ من الرّيح، عابرون سريعاً، وجَميلون، مرّوا في هدوء، دون أن يشعر بهم أحد، دون أن يذكرهم أو يخلد ذكراهم أحد، هم فقط عرفوا الحق وآمنوا به درجة الذهاب من أجله، دون أن ينتظروا منا شيئاً.


وما من شيءٍ يمكن أن تقدمه لروحِ شَهيد، ولكن خير التذكر نقدمه لأنفسنا، بمعرفة أفضل من كانوا فينا، تعظيمهم وحفظ أساميهم وملامحهم، ومؤانسة أهلهم في كل لحظة بأن «اسعدوا لأن أبناءكم أبطالاً وشهداء»، واحكوا عنهم مُبتسمين.


لذلك فإن كل ما هو آتٍ ليس تأبيناً، ليس حكايات حَزينة، هو مُحاولة لخلقِ صور وتفاصيل تستدعيها الذاكرة عند ذكر «محمد محمود»، وأرواح شهداءه وهي تغادر مع الملائكة وتهزّ الشعير.

كَم مرَّة اهتز الشعير في نوفمبر «محمد محمود» هذا؟ كم روحاً طاهِرَة عَرِفتها السّنابل؟

الشهيد عادل إمام: أحد شهداء أحداث «محمد محمود»

يوميّة «عادل» الأخيرة وحِكاية الغريب الذي لم يعد


في كُل صَباح، تستيقظ والدة الشهيد «عادل إمام»، تَدخل إلى بَلكونة البيت الصَّغير، وتنظر إلى صورة ابنها المُعلَّقَة في الشارع، تَرْمِي عليه السلام، وتخبره كم أنها راضية عَليه، وتَدعو الله أن يكون في مكانٍ أفضل.


وفي كُل مَساء، يَجلس والده مع أصدقاء أو أقرباء جدد، ويَحكي حِكايته المُفضلة عن إيصال الصيدلية الذي وجده في جَيبِ «عادل» حين ذهب ليتسلم جثته في المشرحة، وتَلمع عيناه بالدّمع حين يقول أن تِلكَ «كانت آخر يومية له، اشترى بها قطناً وشاشاً للمستشفى، ثم ذهب».


سيقول أن ابنه كان خير الناس، وأنه يعلم أن كل الأهالي يَرون أبناءهم أخيار الناس، ولكنه يَقول هذا عن عادِل لأنه كان أخيرهم بالفِعل، وأن جنيهات يوميته الأخيرة في الورشة يمكن أن تشهد عليه، وعن أي قلب كان يَملكه، قبل أن يُوصِي السامِع بأن يُعيد سَرد القصة على مسامعٍ جديد، كي يَعرفوا «عادل».


«عادل»، الشاب الصغير الذي أنهى وَردية عَمله في ورشة بالحُسين، مر بصيدلية قريبة ليشتري لوازم طبيّة بكل ما يملكه، ولم يحتفظ في جيبه سوى بجنيهين فقط، ذهب بأحدهم إلى التحرير، مُخططاً أن يعود بالآخر، دون أن يَعلم أن ساعات قليلة تفصل بينه وبين رصاصة ستخترق رأسه، ليَصعد إلى السماء غريباً وهادئاً.


و«عادل» لم يَكُن وحده الذي احتفظ في جيبِه بما يعيده إلى منزله في آخر اليوم دون أن يَعود أبداً، فهُناكَ ذلك الشَّهيد، شهيد الفيوم، الذي عاشَ غريباً وماتَ غريباً، الشهيد «عماد»، اقتطع قَصَاصة النتيجة في اليومِ الذي ذهب فيه إلى اشتباكات «محمد محمود»، كَتبَ عليها فقط اسمه ورقم تليفون أهله، وذهب إلى «محمد محمود»، ولم يحتفظ معه سوى بالورقة، وتذكرة مترو يعود بها إن عاش، ولكنه لَم يَعِش.


أصيبَ في الشارع، أعطى الورقة وبداخلها التذكرة للمُسعف على «الموتوسيكل»، وأغمى عليه قبل أن يَصل إلى المستشفى الميداني، وتَصعد روحه، وحيداً لا يعرفه أحد، ويُنقل إلى المَشرحة، ويأتي الأهل بعد أن يتصل بهم أحد الثوَّار على رقم قصاصة النتيجة، ولأيامٍ يَبحثون على جثته الطاهِرة ولا يجدوها، وكأنه قد كُتِبَ عليه أن يعيش غريباً، ويموت غريباً، بعيداً عن الأهلِ والبَيتِ.


ورُبما يُبعث «أحمد» في أمّةٍ من الغرباء، سيكون منها –حتماً- الشهيد «مصطفى عمر بيومي»، الذي عاشَ أغلب حياته بعيداً عن الوطن، يبحث عن سُبلٍ لحياةٍ كريمة بالعمل في السعودية، قبل أن ينتهي تعاقده مع شركته ويعود بعد الثورة إلى مصر دون أن يجد شيئاً كبيراً قد تغيَّر، فيقرر السفر ثانيةً ويذهب صدفة أثناء الأحداث، إلى إحدى شركات العِمالة بالخليج، والتي تقع بالقربِ من محمد محمود، ليتلقى رصاصتين أثناء مروره يُسقطاه شهيداً.


«مصطفى» كان من القليوبية، لم يَكُن ثائِراً أو مُشاركاً في المعركة، فقط كان يَحلم بحياةٍ كريمة في بلدٍ يُحرّم الحُلم، ولم يَعلم في لحظاته الأخيرة قبل أن تُلفظ روحه.. هل كان الوَطَن يَستبقيه هنا كي لا يذهب ثانيةً؟ أم أن تِلك قسوة مستمرة تميته غريباً كما عاش؟

الشهيد بهاء السنوسي: أحد شهداء أحداث «محمد محمود»

«محمد محمود» الحاضر في كُل مكان:


«مصطفى» لم يكن يعلم حينها أن تِلك مَوجة جديدة وكبرى من الثورة، لم يكن يعلم أن أيام «يناير» التي أبقته في مصر حالماً تُعيد نَفسها الآن، هَل هُناك دليلاً أكبر من أن كل الشوارع والميادين في المُحافظات كانت صورة مصغرة لـ«محمد محمود»؟


في الإسكندرية كانت أحداثاً مُوازية تَندلع في ليلةِ «محمد محمود» الأولى، حيث اتجه المُحتجين إلى مديرية أمن المُحافظة، للتضامن مع أحداث «التحرير» بالقاهرة، والتأكيد على أن «الثورة في كل شوارع مصر» كما هَتفوا.


الحَصاد كان شهيدين، «بهاء السنوسي» و«شريف سامي عبدالحميد»، وكعادته.. لم يفرّق رُصاص الأمن في تلك اللحظات بين ثائِر أتى ليقول كلمة حَق في وجه سلطان جائِر، وبين مواطن عادي لا يرغب في أكثر من العودةِ إلى بيته سالماً؟


«بهاء السنوسي» هو ناشِط سياسي ضد النظام منذ سنوات، عضو في حزبِ التيار المصري، وائتلاف شباب الثورة بالإسكندرية، كان هادئ الطباع، وعلى الرغم من ذلك فإنه في كل تظاهره أو وقفة احتجاجية يُصبح «ابن موت» كما وصفه أحد أصدقاءه.


والدته كانت تقول أن الفرح الأخير للعائلة الذي حضره «بهاء» كان الجميع ينظرون إليه ويخبرونها أنه «العريس القادم حَتماً»، ولكن الأم لن تراه عريساً، ستَصعد روحه إلى السماء قبل ذلك، تحديداً في تلك اللحظة التي قرر فيها ترك عمله والتوجه إلى مديرية الأمن للمشاركة في الاحتجاج، ومع سماعه صوت الخراطيش والرصاص مازح رفاقه من حوله بأنهم يجب أن يأخذوا صورة جماعية، «عشان لما نستشهد يسموها صفحة كلنا مع بعض».


و«بهاء» استشهد وحده، بعدها بدقائق، رصاصة اخترقت رأسه من داخل مبنى المديرية، ويسجل الحاضرون تلك اللحظة، ودماءه التي أغرقت أسفلت الشارع، أما الأصدقاء.. فحملوه وهم يدركون أنه قد صار جثة طاهرة، نَدموا على أنهم لم يأخذوا الصورة الأخيرة التي طلبها، ولكنهم نفذوا الجزء الثاني من الوصية، وحملت صفحته اسم «كلنا مع بعض- كلنا بهاء السنوسي».


الشهيد «شريف سامي» في المقابل لم يَكن يقف أمام مديرية الأمن، لم يكن يعلم حتى ما يحدث، هو فقط مواطن عادي، مهندس لديه أسرة صغيرة من زوجة وطفلين، كان في زيارة لأحد أصدقاءه بالقرب من المديرية، ومع الدوي العالي للرصاص ورائحة الغاز المسيل للدموع حاول الاحتماء بأحد المباني حتى تهدأ الاشتباكات، ومع خروجه ومحاولته ركوب سيارته ليذهَب آمناً.. أُصيب بطلقٍ ناري، ليصبح شهيداً.


في وقتٍ مُقارب من تلك اللحظة، وعلى بعد 300 كيلو، كان مُسالماً آخر يَسقط غَدراً في الإسماعيلية دون سَبب، «ماجد مدحت يوسف»، أحد أصغر شهداء الأحداث النوفمبرية، كان في الصف الأول الثانوي، ولم يتجاوز الخمسة عَشر عاماً، نزل من بيته ليذهب إلى بيت جدته القريب دون أن يعرف أن ميدان «الممر» بالإسماعيلية قد أمسى ساحة اشتباكات واسعة بين الثوار والأمن، وفي طريقه قابل صديقه «مصطفى» ورَأوا دخاناً كثيفاً فذهبوا فضولاً لمعرفة ما يحدث، وبعد عدة دقائق.. قبل الوصول حتى إلى «الممر»، فوجئوا بصوتِ الرصاص قريب منهم للغاية، حاولوا الجري بعيداً، ولكن رصاصة اخترقت صدر «ماجد» كانت أسرع من محاولته النجاة.


بينهم 12 مصاباً برصاص حَي في مناطق الصدر والقدم والكتف في الإسماعيلية مساء ذلك اليوم الكئيب، و«ماجد» كان شهيدهم الوحيد، الطفلُ الوسيم الباسم الذي يُحب الغناء، ويَكتب الشعر بين حصص الدراسة، وينحصر عالمه في المنطقة الواقعة بين بيته وبيت جدته، ويحلم –ككل أقرانه- أن يصبح طَبيباً بعد عدة سنوات، لم يُمْهَل الفرصة لأي شيء، رَحَل صغيراً دون أي سبب.


وبالمثلِ، فإن مئات المصابين الذين نَجوا للطْفِ القدر قد سقطوا في هذا اليوم بكافة محافظات الجمهورية التي كانت تَنتفض، كصورة مُثلى للثورة.. تلك الحاضرة في كل مكان.

أصدقاء الشهيد عمرو البحيري يرفعون صورته

 ثأر «سيّد» وأصدقاء «عمرو وشهاب»:


في ماذا كان يفكر قتلة الشهداء؟ ألا يعرفون أن موت شهيداً واحداً يخلق أمَّة ثائِرة من بعده؟


أصدقاء «عمرو محمود البحيري» وزملاء «شهاب أحمد» في «ألتراس وايت نايتس» دليلاً واضحاً على ذلك.


«عمرو البحيري»، طالب التجارة ذو العشرين عاماً، لم يترك شارع «محمد محمود» لليلتين كاملتين، وفي اليومِ الثالث تلقى رصاصة من الأمن بجانِبِ عَينيه، وكان من الممكن أن يحيى.. ولكن الضرب المُبرح الذي تلقاه من عساكر الأمن المركزي على رأسه وجسده جعله يفقد الوعي تماماً، وحين لَحقه رفاق المعركة ونقلوه إلى مستشفى القصر العيني.. كان قد فقد حياته.


أغلب أصدقاء «عمرو»، في الكلية وقدامى المدرسة، لم يكونوا في الأحداث، ولكن بعد وفاته قَسَّموا قلبه على قلوبهم، وصار جزءً أساسياً من حياتهم هو جَلب حقه، صلُّوا عليه «صلاة عيد لا صلاةَ جنازة» كما وصفها صديقه، ثم تفاوضوا مع الكلية ونجحوا في تَسمية أحد المُدرجات باسمه، يحزنون لأنه ليس بينهم، ويفرحون لأنه باقياً فيهم.


والأمر ليسَ ببعيد عما حدث مع «شهاب»، «أخونا شهاب البطل» كما يذكره زملاءه في «ألتراس وايت نايتس»، هؤلاء الذين اعتادوا المشاركة في أغلب أحداث الثورة من 28 يناير، باعتبارهم «جزءً من هذا الوطن»، ولكن الأمر أصبح مُختلفاً حين صَعَدت روح «شهاب» برصاصةٍ في صدره أثناء إسعافه أحد المُصابين في «محمد محمود».


فانلة «الألتراس» التي تحمل دماءه صارت بالنسبة لرفاقه خَطاً لا يمكن الرجوع عنه، لم يعد الأمر حُلماً بمستقبلٍ أفضل، أمسى ثأراً حقيقياً مع قتلة يجب أن يَروا فيهم القصاص.


«والثأر لا يسقط مهما مر من الوقت»، كما تقول والدة الشهيد «سيد جابر» بلهجتها الصعيدية القوية، «لن تبرد ناري حتى أرى إعدام من قتلوا سيد»، وتُكمل بثقة وتماسك رغم دموعها «ولو متعدموش أنا وأبوه هنروح ناخد تارنا إحنا صعايدة، ولو بعد عشرين سنة تارنا ناخده».


السيدة التي تجاوزت الستين عاماً، تؤمن يقيناً بأن القصاص سيأتي بيديها ولو بعد عشرين عاماً، هل يعرف قتلة الشهداء ذلك الإيمان؟، التهدُّج في صوتها وهي تَحْكِي عن «سيد» يختصر كل شيء.. «لما فَهَّمنا كنا الأول خايفين عليه، يا سيد ليخدوك.. يقولي يا أمَّه متخافيش عليَّ»، «أخوه ده مَسكه نام على صِدره هنا، نام عليه وقاله متروحِش، أمك كِبرت وأبوك كِبرت وانتَ ناقصك إيه لو عايز فلوس هَدّيك، قاله لأ هي فلوس؟! هي مسألة فلوس؟ هي مسألة أكل؟ هي مسألة كرامة مسألة حرية»، وذَهب.


«سيد» الذي يعمل مشرفاً للسياحة الدينية بوكالة الأهرام لم يكن ينقصه شيئاً، ولكنه نَزَل بحثاً عن أشياءٍ لا يعرفها قاتليه، واستشهد برصاصةٍ في صدره وضربة قوية على رأسه أثناء إسعاف للمُصابين، وأخوه «محمد جابر» الذي حاول مَنعه من الذهاب.. استكمل بقية الأيام في شارع «محمد محمود»، ووالدته العظيمة كانت تَبكي وهي تقول أنها «لَن تبكي حتى ترى قصاص سيّد»، وكلهم سيكونون فداء ذلك «أنا وعيالي وجوزي وكله، وهكمل المسيرة بتاعة سيد».

الشهيد شهاب في مدرجات الوايت نايتس

الغاز والدهس أيضاً يقتلون

كل شهيد هو نقطة تَمنع الرجوع أو اليأس، القتلة لا يعرفون ذلك، وفي «محمد محمود»، كانت أخلاقهم أسوأ من مجرمي الحرب، لم يكن هناك هَيبة لشيءٍ أمامهم، لا مانع من ضرب المُصلّين في المسجد بالخرطوش، لا مانِع من ضربِ المستشفيات الميدانية بالغاز وتعريض المصابين لخطرٍ أكبر، ولا عائِق عندهم أيضاً من منع إسعاف الدكتورة «رانيا»، التي أصبحت الشهيدة الوحيدة في معركة «محمد محمود».


كانت «رانيا» تمارس عملها المعتاد في المستشفى الميداني الذي أقيمَ في مسجد «عباد الرحمن» بداخل الشارع، والذي يعتبر أقرب نقطة طبية من الاشتباكاتِ، وظلت طوال ثلاثة أيام تسعف المصابين ليلاً ونهاراً، وفي اليومِ الرابع..الذي أعنف أيام المعركة، قامت قوات الأمن المركزي بإطلاق قنابل غاز بكثافة أكثر من العادي، ليتراجع المتظاهرين للوراء، ويتقدم الأمن حتى يصبحوا أمام المستشفى، وللجبروتِ يطلقون قنابل متتالية عليها، ويمنعون خروج من فيها، ومع توالي الغاز دون توقف.. أصيبت الدكتورة «رانيا» بحالة إغماء، ليحاول زملاءها الخروج بها بعيداً كي تتنفس، ولكن خراطيش الأمن كانت تمنعهم، لتستشهد «رانيا» بالاختناقِ، وتَصعد روحها إلى السماء.


بعدها بثلاثة أيام، ورغم أن «معركة محمد محمود» ذاتها كانت قد هدأت، وأُغلق الشارع بالجدران الفاصلة ، إلا أن ذلك لم يمنع من استشهاد «أحمد سيد سرور»، الشاب الصغير الذي رأى عربة الأمن المركزي وهي تتحرك باتجاه اعتصام «مجلس الوزراء» الذي انفصل عن التحرير بهدف الاعتراض على الحكومة الجديدة، صاح أحمد في رفاقَه أن عدد المعتصمين في المجلس قليل وأغلبهم لن يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم، جرى بطول شارع القصر العيني، سريعاً كمن يجري نَحو الجنة، وحينَ وَصَل، ومع محاولة المُدرعة الهروب من أمام الثوار.. قامت بدهسِ جسده، لينضم إلى الشهداء.


الكذبة الأخيرة لـ«بشر» وعودة «صالح» إلى البيت:


كالعادة، لم يَكن «محمد بشر أنور»، الذي أكمل عامه التاسع عشر قبل وقت قليل، يخاف من الغاز أو الرصاص أو الرعب الذي يُحكى عنه في شارع «محمد محمود»، بقدر ما يخاف من والدته وعلى دموعها وقلقها عليه، لذلك فقد كان الأمر بحاجة إلى كذبة واحدة كي يستطيع الذهاب إلى هُناك.


أخبر «بشر» والدته أنه سيذهب إلى فرح أحد أصدقاءه، وسيعود ليلاً في وقتٍ متأخر،كم شهيدٍ أو غير شهيد أخبر والدته بذلك كي يستطيع الذهاب إلى التحرير؟، كانت الأجيال الأسبق تَكذب كي تذهب إلى السينما أو تخرج مع أصدقاءها، ولكن هذا الجيل يكذب كي يُسابق بعضه إلى الشهادة.


وأم «بشر» سامحته على كذبته، على الرغم من تلك الليلة التي لن تنساها، والتي قضتها تُلاحق الأمل الذي يتضاءل بوجوده حياً، هرولت إلى التحرير حين تأخر وأخبرها أحد أصدقاءه أنه هناك، دعت أن تجده في الشارع وبين الناس ولم تجده، فدعت أن تجده بين المصابين في المستفياتِ ولم تجده، فذهبت إلى المشرحة وهي تدعو ألا تجده، ووجدته.


في المُقابل، فإن أم الشَّهيد «أحمد صالح» حمدت الله كثيراً حين علمت يوم 20 نوفمبر أن ابنها، الطالب في جامعة المستقبل ولم يكمل عامه الواحد والعشرين بعد، قد تلقى رصاصة في رقبته ولكنه، والحمد لله، لازال حياً في العناية المركزة بالقصر العيني.


21 يوماً قضتها الأم، تبتهل لله في كل دقيقة، تُمَلّي عينها من الحُسن في وَجه ابنها، وتلامِس يَده برقة كي يشعر في غيبوبته أنها بالجوار، وتلاحق الأمل في كُل ثانية، حتى حين تَنام.. لا تحلم سوى بمستقبلٍ يكون فيه بالبيت.


ولكنه قدر الله المَكتوب، ذلك الذي شاءَ أن يهتز الشعير بروحِ أحمد في اليوم الحادي والعشرين من غيبوبته، ليصبح آخر شهداء «محمد محمود»، وظلت أمه لا تحلم حين تنام إلا بأحمدٍ قد عادَ إلى البيتِ.

الشهيد سيد جابر: أحد شهداء أحداث «محمد محمود»

 ما يتبقى لنا

«عَظّم شهيدك/كل دم يسيل على أرض مصرية عظيم الجاه/قول كل حرف في اسمه واتهجاه/شوف البَطَل». فؤاد حداد


عشرات الأرواح هزّت الشعير في ستةِ أيام، عشرات الأسماء والصور والحكايات، عشرات الحيوات الطويلة انتهت برصاصة أو قنبلة غاز، عشرات الأمهات صِرْنَ ثَكِلات بقلوبٍ لن تَنْدَمِل، عشرات وعشرات يجب أن نحفظ أسماءهم ونرتّل ما نعرفه عن حياتهم، نفرح ونُسر ونحن نتحدث عنهم، لأن ذلك هو ما يبقى لنا منهم، وهم سيظلوا دوماً خير من فينا.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية