x

«رفح» رعب فوق الأرض.. ووقف حال تحتها (تحقيق)

الأربعاء 24-07-2013 19:57 | كتب: أحمد رجب, محمد طارق |
تصوير : محمد الشامي

مثل موقع تصوير لفيلم تدور أحداثه عن نهاية العالم تبدو رفح.. تتجاور البيوت التى لم تكتمل أوجه بناياتها، مائلة مصدعة، آيل بعضها للسقوط وبعضها سقط بالفعل على جانبى طرق طويلة مهجورة، تقطعها أزقة ضيقة على اليمين تفصل بينها وبين قطاع غزة وعلى اليسار صحراء بامتداد البصر، تنتشر فيها قطع من أراض زراعية تطرح «الموالح» والزيتون، الطرق خالية والشمس تحرق الأرض، ومن حين لآخر يظهر ثلاثة أو أربعة أطفال، يتجولون بين أزقة المدينة الضيقة، وسريعاً يتسللون إلى البيوت عندما يلمحون الغرباء.

كانت رفح مدينة واحدة كبيرة، وبعد معاهدة كامب ديفيد، قسمها شريط حدودى إلى رفح مصرية مساحتها حوالى 5 كيلومترات مربعة ورفح فلسطينية مساحتها حوالى 55 كيلومتراً مربعاً، تربط «الرفحين» شبكة من الأنفاق تحت الأرض، وعلاقات نسب وتجارة وتاريخ مشترك فوق الأرض.

الآن، بعد أكثر من 40 عاماً على فصل «الرفحين» بات هناك وجه جديد للشبه، أصوات الانفجارات وأزيز الطائرات وصوت المعارك أصبحت جزءاً من تجربة أهالى رفح المصرية والفلسطينية على حد سواء. عقب الهجمات المتتالية التى تعرض لها معسكر الأمن المركزى بقطاع رفح والكمائن المجاورة حول المدينة النائية، اضطر أحمد عبدالمنعم يوسف، موظف قانونى بالشهر العقارى بالمدينة، إلى تهجير أسرته لمسقط رأسه بمدينة المنصورة خوفاً عليهم بعد 17 عاماً ظلّوا مقيمين فيها بحى الأحراش إحدى القرى الجنوبية لمدينة رفح، والتى تطل أوجه بناياتها المكونة من 4 طوابق على سور المعسكر مباشرة، حتى بلغت إحدى بناته مرحلة الثانوية العامة هناك، وبقى هو فى رفح حيث مقر عمله: «الهجمات بتحصل على فترات متباعدة، حياتنا بقت فى رعب والأطفال كلما سمعوا أصوات القذائف التى تصوب نحو المعسكر تحدث لهم انهيارات بسبب ذعرهم».

فى اليوم التالى لخطاب الفريق أول عبدالفتاح السيسى فى 23 يونيو، والذى أمهل فيه القوى السياسية أسبوعاً للوصول لتوافق، انطلقت سيارة لاند روفر، تحمل عدداً من المسلحين الملثمين ليطلقوا نيراناً من رشاشات «M16» على معسكر الأمن المركزى فى رفح، ثم هربوا بعد أن ردت القوات عليهم نيراناً بنيران. وبعد مرور شهر، تحديداً فى 22 يوليو، هاجم مسلحون مجهولون المعسكر من جديد، وأطلقوا النار عليه، وأسفر هجومهم عن إصابه المجند حسين محمد أحمد «22 سنة» بطلق نارى فى الكتف، وتم نقله إلى مستشفى العريش العسكرى، وبين الهجومين الأول والثانى زمنياً شهر، وأكثر من 6 عمليات هجوم، و5 مصابين (ضابطان و3 مجندين).

فى الطريق إلى «معسكر الأمن المركزى - قطاع رفح» بحى الأحراش جنوب المدينة النائية، يمشى المجندان عماد وأحمد مسرعين باتجاه المعسكر وشمس العصر تعكس أشعتها المائلة على وجهيهما، حاملين شنطاً سوداء امتلأت بالخضروات والأطعمة والبقالة، بعد جولة فى سوق صلاح الدين لشراء مستلزمات المعسكر وحاجات الضباط والأفراد.. خطواتهما المسرعة كان يصاحبها توجس وترقب لما قد يحدث فى أى لحظة، زاد توتر أحمد انحناؤه أثناء السير ليراقب الغيطان المحيطة بالمعسكر التى يخرج منها المسلحون كل ليلة مصوبين بنادقهم وصواريخهم على الكمائن والمعسكرات، لكن عماد كان يطمئنه مظهراً ابتسامة هادئة «بالنهار مفيش خطر.. الخطر كله بالليل»، بينما ينظر أحمد إلى الثقوب السوداء التى تملأ أحد كابلات الكهرباء التى تسبق المعسكر بأمتار قليلة إثر رصاصات المسلحين فى الليلة الماضية.

هدوء ما بعد المعارك لا يضاهيه سوى هدوء مدينة تجارية ركدت بضاعتها.. فى رفح يضاعف هدوء المعركة هدوء التجارة الراكدة، فتتحول الحياة- حسب «على الفواخرى»، أحد كبار موردى الحديد والأسمنت فى شمال سيناء- إلى جحيم: «والله ما فى حجر بيتحرك، الحال واقف..حتى الهوا واقف». تقول الأرقام إن غزة تستورد عبر الأنفاق من 3 إلى 5 أطنان أسمنت يومياً، وعادة ما تفضل «أسمنت الجيش لأنه أرخص» (مصنع القوات المسلحة لإنتاج الأسمنت بوسط سيناء، وهو المصنع الذى ينتج حوالى 10 أطنان أسمنت يومياً). ومع تصاعد حملة هدم الأنفاق، يقول «الفواخرى»: «طن الأسمنت سعره نزل من يوم 30 يونيو أكتر من 100 جنيه، بس الحال واقف».

هدم الأنفاق المستمر تحت أرض رفح، الذى رأته حكومة حماس- حسب تصريحات إيهاب الغصين، المتحدث الرسمى باسمها- «تصعيداً لأهداف سياسية معينة»، ورآه «الفواخرى» ومعه بعض من قابلتهم «المصرى اليوم» من سكان رفح «وقف حال» للمدينة اعتبره مسؤول أمنى عمل فى سيناء لفترة طويلة «تصحيحاً لخطأ كان يجب تداركه منذ فترة طويلة، فالأنفاق التى تهرّب البضائع إلى غزة هى نفسها الأنفاق التى يهرب من خلالها المسلحون والأسلحة، ولا توجد دولة فى العالم حدودها منتهكة بهذه الطريقة»، وهو ما يتفق معه سكان رفح، ومتحدث حكومة حماس، ولكن بإضافة «توفير بديل تجارى رسمى لأنفاق التهريب قبل الإقدام على إغلاقها».

فى بداية المدينة كان يستظل فرج حمدى النحال أمام منزله بشجرة ضئيلة، وهو يراقب ابنه «حمدى» الذى كان يتجول فى شمس الظهيرة الحارة، عجوز فى الخمسينيات من عمره، أحد موظفى مرفق المياه بمجلس مدينة رفح: «منذ أيام سمعنا انفجارين قويين والأرض اتهزت بينا واشتغل ضرب النار للصبح». قضى «فرج» ليلته مختبئاً داخل المنزل، يراقب حركة الأحداث عبر الأصوات: «سيارات الإسعاف كانت بتخاف تمشى جوه كى لا تستهدف، تزعق طوال الطريق وتيجى تلف وترجع من عند البيت هذا، آخر ما زهقوا كانت مدرعات الشرطة هى اللى تروح وترجع تجيب الحالات المصابة». يصمت قليلاً ثم يضيف واضعاً يده على فمه: «الله أعلم إذا كان حد مات أو لا».

لا يختلف حال «فرج» عن حال بقية الأهالى، بعضهم تعود على تلك الحوادث التى تحدث كل 3 أو 4 ليالٍ، يلزم «فرج» لحظتها منزله بجانب أسرته، يهرع إلى التليفزيون ليطلع على الأخبار ويعرف عدد الوفيات والمصابين ويتابع الهجمات المتتالية على الأماكن المتفرقة من رفح مروراً بالشيخ زويد إلى العريش، أما الليالى الأخرى فانطفأت الحياة من شوارعها، ولم تعد تدب الروح فى المكان ولا فى البيوت، بحسبه: «الكل يخشى النزول بالليل خاصة عند الأحراش منطقة قطاع الأمن، الموت بقى أسهل حاجة دلوقتى وإن مت محدش هيعبرنى».

على مسافات متباعدة كانت تنتصب عدة كمائن لكتائب من قوات الجيش والشرطة بين البيوت تحيط بها أجولة رملية من الخيش ويستتر بداخلها مجندو الحراسة، لا يختلف حال المجندين عن حال أهل القرية، الكل هنا يراقب مشاهد الموت التى تتصاعد حدتها فى الليل بقذائف الـ«آر. بى. جى»، والـ«جراد» التى يميزها المواطنون، أو الرصاص المتطاير فوق رؤوسهم دون النجاح فى معرفة مصدره.

على الناصية المقابلة لمعسكر الأمن المركزى، جلس على الرمال المطلة على أسوار المعسكر إسماعيل سليمان عطية، عبدالله محمد موسى، شابان يميل لونهما إلى السمار من أثر الشمس، بينما تبرز على وجهيهما تجاعيد تصف جزءاً من قسوة المعيشة التى يعيشانها كمزارعين: «إحنا المواطنين عايشين عادى خالص يوم ما بيصير ضرب بنجرى نستخبى، الوضع الأمنى زى ما انت شايف» يقولها وهو يشير على المنخفض الذى يقع به المعسكر المحاط بالأراضى الزراعية من ثلاثة اتجاهات والجهة الرابعة حى الأحراش، مظهراً حركة العساكر وأبراج المراقبة بوضوح والمدرعات المنتشرة داخل المعسكر. يضيف إسماعيل: «أهم شىء عندنا الوقود والجاز طالما اتوفروا خلاص غيرش بس مشكلة الأمن، على كل حال احنا عارفين إن الضرب مش بييجى غير بعد المغرب عشان كده بقينا نروح على المزرعة من الصبح وقبل المغرب نجرى على بيوتنا».

وعلى الرغم من كثرة استهلاك السلع الغذائية فى شهر رمضان، يعانى أصحاب المحال التجارية فى المدينة و«السوق واقف والحركة نايمة» بحسب نضال صاحب محل بقالة فى الأحراش: «الناس هنا أكترهم مغتربين ومشيوا بعد الأوضاع دى خصوصاً فى رمضان».

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية